ما يحافظ على استقرار النظام السياسي فى بلد متعدد الطوائف هو التوازن الاجتماعى الديموجرافى والسياسي بين كافة الطوائف، إلى جانب شعور المنتمين لكل طائفة بأن مشكلاتهم تختلف عن مشكلات غيرهم من الطوائف. وأن الولاء للنخبة داخل كل طائفة، للقيام بدورها كوسيط مع الدولة والطوائف الأخرى، هو ما يضمن القدرة على الحياة الآن وفى المستقبل. وهذا ما يعرف بالمواطنة الوسيطة Mediated citizenship، والتى تعني منظومة من الحقوق والواجبات يتوقف تفعيلها على وجود فئة تتوسط العلاقة بين الفرد والدولة. وهذا ما حدث فى لبنان بموجب تحالف كافة النخب الطائفية داخل نظام سياسي واحد لتكوين طبقة سياسية وسيطة بين الدولة وكل الشعب اللبناني بمختلف طوائفة.
وبموجب هذه الصيغة السياسية، فإن كل نخبة داخل طائفتها أصبحت تمتلك شرعية مزدوجة فى تمثيل الناس من أعضاء كل طائفة أمام الدولة، للتعبير عن حقوقهم من ناحية، وتمثيل الدولة أمام الناس داخل الطائفة لإقرار وقبول النظام السياسي من ناحية أخرى.
ومن الواضح أن فكرة المواطنة الوسيطة ترسخت بموجب اتفاق الطائف عام 1989، والذى وضع حدا للحرب الأهلية. وبمرور السنوات ترتب على هذا الاتفاق وجود نخب طائفية من المستفيدين من هذا الاتفاق، بحيث أصبحت كل النخب الطائفية أشبه بالسماسرة الذين ينتفعون من الوساطة بين الدولة والناس. وما يحدث فى لبنان حاليا يوضح أن النخب الطائفية على اختلاف انتماءاتها، تشابهت فى الامتيازات اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، بما يجعلهم جميعا شركاء فى المصالح والمنافع والرغبة فى الإبقاء على الوضع الراهن.
فى مقابل ذلك أنتج هذا النظام بفساده الشديد مشكلات اجتماعية واقتصادية حادة أذابت الحدود التى كانت تفصل بين الطوائف اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. وهذا يعني أن خريطة المشكلات الاجتماعية التى يعانى منها غالبية الشعب اللبنانى الآن أصبحت مشتركة، الكل يعانى نفس المشكلات، لافرق فى هذا بين المسلم السني والشيعي والعلوي، أو الدرزى أوالمسيحي الماروني والكاثوليكي والأورثوزوكسي والأرمني. ولهذا كان من الطبيعى أن تتوحد الغالبية حول مطلب واحد هو اسقاط هذه النخب الطائفية التى تحالفت وفشلت فى الحفاظ على استمرار فكرة المواطنة الوسيطة.
ولكن هل تملك الجماهير اللبنانية المحتجة فى ساحات الميادين، رؤية سياسية وإرادة شعبية صلبة تتجاوز الطائفية سياسيا واجتماعيا وثقافيا؟.. يصعب الإجابة على هذا السؤال، ومن الأرجح أن تتوحد كل النخب الطائفية فى السيطرة على المشهد الاحتجاجي الراهن، ببعض التنازلات وإعادة ترتيب الأوراق من جديد، ولإعادة تجديد وترميم فكرة المواطنة الوسيطة للابقاء عليها. ويتوقف ذلك على موقف القوى الدولية والأقليمية من الازمة الراهنة، ذلك أن لبنان يمكن أن يكون صيدا ثمينا للصراعات بين القوى الدولية والإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص إسرائيل.
نقلا عن: صفحة الكاتب على موقع فيس بوك