فن

فيروز.. هل ساهمت «أرزة لبنان» في تفجير الحرب الأهلية؟

في عام 1964 كان اللقاء الأول للرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو مع نقابة الصحفيين اللبنانيين، حينها وقف الرئيس محييا جماعة الصحفيين بقوله (أهلا بكم في وطنكم الثاني لبنان) كانت العبارة على اختصارها تحمل اتهاما مباشرا للصحفيين اللبنانيين المدعومين من هنا وهناك، بأن ولاءاتهم تجاوزت حدود الوطن، وانهم يضعون لبنان على حافة الإنفجار الذى كانت باكورته في ذلك الصدام الذي وقع بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية والذي أدى إلى اتفاق القاهرة عام 1969، ووصل ذروته مع اشتعال أوار الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990.

اتهام فيروز

ولكن العجيب حقا أن الاتهام نفسه لاحق فيروز والأخوين رحبانى، فبحسب الباحث والكاتب الأمريكي «كريستوفر ستون» كان مسرح فيروز يحاول فرض نمط واحد للثقافة اللبنانية على جميع مكونات الشعب اللبناني الذي عٌرف بتنوعه الثقافي والديني والأيديولوجي، والذى اعتبرته أكثر الطوائف إلغاء لهوياتها، ففي لبنان أكثر من دبكة (رقصة شامية شهيرة) لكن المشاهد لمسرح الأخوين رحباني، والذي كانت فيروز بطلته المطلقة – بكل تأكيد – لن يرى سوى دبكة واحدة على الرغم من أن هناك أنواعا من الدبكة تسود في كل منطقة. لكنهم اخترعوا ما أسموه بـ (الدبكة اللبنانية)، كما صاغوا عامية لبنانية حاولت تجاوز اللهجات المحلية كلها، وعلى الرغم من أنه ربما لم يهدف مسرح فيروز والرحابنة لهذا التمييز ولا تكريسه إلا أن النتيجة التي ترتبت على مسرحهم كانت تفجير الشعور بالطائفية بعدما خلق الأخوان رحباني وطنا وهميا ليس له علاقة بالواقع لاسيما في مسرحيات مثل بياع الخواتم.

التمرد على الرحبانية

بطبيعة الحال لم يكن الأخوان رحباني، ولا صوت فيروز الذي وحد تمايزات وتصنيفات المجتمع اللبناني- يستهدفان مزيدا من الفرقة، غير أن الحرب الأهلية اللبنانية شكلت محطة هامة لفيروز انعكست على حياتها الخاصة والعملية على حد سواء،  كانت فيروز في رحلتها الغنائية -التي بدأت في سن مبكرة  فى السادسة من عمرها تقريبا- قد أسلمت قيادها لزوجها عاصي الرحباني منذ زواجهما في كانون الثاني 1954، أسلمت له حتى ميولها وطائفتها الدينية حين غيرت ملتها من الكاثوليكية إلى  الأرثوذكسية الشرقية، عرف عاصي كيف ينحت تلك الموهبة الفذة قليلة الابتسام، ذات الملامح الجامدة ليجعل من صوتها المسئول الوحيد عن ترجمة انفعالاتها ومشاعرها، أفراحها وأحزانها. كان عاصي بالنسبة لفيروز هو الأمين على موهبتها التي انفجرت وازدهرت على ألحانه وكلماته ربما لم تخال أن بمقدورها الغناء من دونه، وحين مرض عاصى في عام 1972 أثناء التحضير لعرض مسرحية المحطة، وأسندت مهمة التلحين للإبن زياد الرحباني – الذي لم يكن قد تجاوز السابعة عشر من عمره حينها- غنت فيروز باكية. سألوني الناس عنك يا حبيبي ونعت غيابه بـ «ولأول مرة ما بنكون سوا».

 شهدت السنوات التالية عددا من الأحداث الهامة كان على رأسها اندلاع الحرب الأهلية في نيسان من عام 1975 التى  قتلت 150 ألف شخص تقريبًا، وهَجّرتْ مليونًا، ودفعتْ إلى الهجرة ما يناهز 500 ألف شخص، وعوّقتْ أو جرحتْ حوالى 180 ألف شخص، وأثناء الحرب تعرض منزل فيروز للقصف.

لكن شيئا ما أصاب ذلك الحب ليفجر التمرد الكامن داخل تلك الروح الساكنة لفيروز، ربما حين أتاحت الفرصة لفيروز أن تغني من ألحان شخص آخر غير عاصي حتى لو كان إبنه زياد، وربما انعكست روح الحرب الأهلية التي مزقت المجتمع اللبناني لتنعكس على حياة فيروز الخاصة لتدخل مع عاصى في موجات من الخلاف انتهت بقرار الانفصال عام 1978، في اعقاب الانفصال حاولت فيروز إثبات ذاتها الخاصة بعيدا عن الأخوين وفتحت بابا للتعاون مع ملحنين وكتاب آخرين، أصدرت فيروز أسطوانتين بتوقيع زياد الرحباني وفيلمون وهبي، وانطلقت بصحبة صبري الشريف، الذي توقف بدوره عن العمل مع الأخوين رحباني، في جولة في الولايات المتحدة وكندا لتحيي حفلاتها الأولى دون عاصي ومنصور. حاول الأخوان بدايةً منعها من إعادة تقديم إنتاجهما معها خلال هذه الجولة، وشن عدد من الصحفيين المقربين للأخوين حملة ضدها تراهن على فشل فيروز بدونهما.

الأخوين رحباني

كانت لبنان قد انقسمت شمالا وجنوبا، وتمزقت بيروت شرقا وغربا وبينما أظهر الأخوان رحباني انحيازا واضحا لحزب الكتائب،  فقد وقفت فيروز بعد عام واحد من اندلاع الحرب عام 1976  على خشبة المسرح في دمشق تغني رائعتها (بحبك يا لبنان) ( بحبك يا لبنان يا وطني بحبك…بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك..تسأل شو بني و شو اللي ما بني بحبك يا لبنان يا وطني..عندك بدي إبقى و يغيبوا الغياب..إتعذب و إشقى و يا محلا العذاب..و إذا إنتا بتتركني يا أغلى الأحباب..الدنيي بترجع كذبة و تاج الأرض تراب) ثم طافت بباقة الحب على الجاليات اللبنانية في أكثر من  بلد علها تطفىء نار الحرب المشتعلة في وطنها فغنتها على مسرح الأوليمبيا بباريس عام 1979.

ومع الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 غنت فيروز عددا من الأغاني الوطنية على رأسها (وحدن) للشاعر طلال حيدر، والتي جسدت قصة بطولة ثلاثة من الفدائيين العرب في مقاومة العدو الصهيوني، كما غنت رائعتها (لبيروت من قلبي سلاما) للشاعر الجنوبي جوزيف حرب، واستمرت فيروز في التغني بجمال لبنان وطن الغيم الأزرق كما أسمته في واحد من أغنياتها، وقد ظلت تمتنع عن التصنيف والميول الطائفية إلى حد قطع علاقتها الفنية بابنها زياد الرحباني حين صرح تصريحا – اعتبرته غير مسؤل-  قال فيه إن والدته معجبة بشخصية الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله.

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock