*وليد الحوري – رئيس تحرير قسم «شمال أفريقيا وغرب آسيا» في موقع openDemocracy
*عرض وترجمة: أحمد بركات
لا توجد حتى الآن، أية دلائل عن استعداد أي حزب أو طرف سياسي لتعلم أو استيعاب ما يجري في الشارع اللبناني، أو تحمل مسئولية ما يحدث بشكل أو آخر، ناهيك عن تقديم أي تنازلات. ويبدو الأمر وكأن هذا الحراك الشعبي والمؤسسة السياسية اللبنانية يعيشان على جزيرتين منعزلتين. ورغم ذلك، يبقى هذا جزءا من استراتيجية تراهن على إصابة الشارع بالإنهاك، ومن ثم التفكك والتحلل. في الوقت نفسه، تحاول كثير من الرموز، سواء من داخل المؤسسة السياسية أو خارجها، ركوب الموجة الثورية.
معركة استنزاف
حتى الآن، يبدي الشارع مرونة كبيرة في ترويض قوته وتمثيلها، كما أن لا مركزية الحركة الاحتجاجية التي تتجلى في انتشارها في جميع أنحاء البلاد، وعدم وجود قيادة مركزية يضيف كثيرا إلى تفوقها. وقد أسهم الملمح الثاني على وجه التحديد في إرباك المؤسسة السياسية التي لم تجد من تساومه أو تضغط عليه أو تستهدفه لكسر وحدة الصف الاحتجاجي.
من المهم أيضا أن نلاحظ أن كثيرا من المتظاهرين من الحزبيين، ومن المرجح أن يظلوا كذلك. ومع ذلك، فإن جوهر مفهوم الحزبية يكمن في التحول وتغيير الانتماء. فالحزبي لم يعد تابعا لزعيم بعينه، وإنما ناخبا يرغب في الحصول على حقوقه، ويطالب بها الدولة والحزب الذي يصوت لصالحه. ومن ثم فإن اللعبة السياسية بين المؤسسة السياسية والشارع ستأخذ شكل «حرب استنزاف»، وستتطلب قدرا كبيرا من المقاومة والمرونة والقدرة على التحمل من جانب المحتجين.
لكن الواقع اللبناني يتلخص – في حقيقة الأمر – في هيمنة المؤسسة السياسية على جميع مؤسسات الدولة اخرى، من الاقتصاد إلى القضاء، ومن الخدمات الأمنية إلى الخدمات المصرفية. وعلى مستوى الجوهر، تتألف هذه المؤسسة من شبكة من أمراء الحرب ورجال الأعمال والرموز الدينية والمصرفيين وملاك الأراضي وغيرهم. وبطبيعة الحال تبقى مواجهة هذه الشبكة، بكل ما تمتلكه من ثروة مادية وعسكرية واجتماعية، معركة في غاية التعقيد، خاصة أن ساحة هذه المعركة تحتضنها أرض الطرف الأقوى.
رغم ذلك، يبدو الزخم الاحتجاجي مستمرا – على الأقل حتى اللحظة الراهنة – وسيكون من المهم أن يستمر في مواجهة الحملات الممنهجة التي تسعى إلى إنهاء الاحتجاجات وحماية ما تبقى من الوضع الطائفي العنصري القائم.
خلق البدائل
تتمثل بعض وسائل إضعاف الشبكة الحاكمة ومواصلة المسار الثوري الطويل في إنشاء هياكل بديلة للاستمرار على قيد الحياة، بدلا من التنافس مع السلطة المركزية على أرضها. فإنشاء اقتصادات بديلة من شأنه أن يضعف من سيطرة الطبقة الرأسمالية على دخول المواطنين ومعيشتهم، وعلى الحياة الاقتصادية للبلاد بوجه عام، وإعداد الشارع- خاصة الطبقات الأكثر ضعفا – للتعامل مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت السبب الأول في اندلاع الثورة، والتي لا يمكن أن يكمن حلها في يد من تسببوا فيها وتربحوا منها.
بعض هذه الوسائل تم استخدامها في اليونان والمكسيك وغيرهما، ولا يزال بإمكان اللبنانيين استلهام هذا النموذج لخلق ممارساتهم المحلية الخاصة. وتتمثل هذه الوسائل في نموذج التبادل الاقتصادي غير الرسمي حيث يمكن للمنتجين المحليين في القطاعات الصناعية والزراعية في مختلف المناطق بيع منتجاتهم مباشرة للمواطنين في المدن، وإنشاء أسواق جديدة غير رسمية لتفادي الاعتماد على كبار الموزعين، وإنشاء صناديق غير رسمية وأنظمة دعم مالي قادرة على حماية الشرائح الأكثر ضعفا وتأثرا بالأحداث، والتي قد تعاني من طول أمد الحراك الثوري، وتمويلها من خلال تبرعات اللبنانيين في الخارج ومن الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات مالية عالية، إضافة إلى إنشاء مراكز رعاية، وتوفير الخدمات الطبية، وتقديم تعليم بديل إلى الطلاب.
لا شك أن البدائل غير الرسمية التي يخلقها المجتمع، والتي تتجاوز مراكز السلطة في جميع القطاعات، ستسهم بقوة في حماية قدرة الاحتجاجات على الاستمرار والمقاومة، كما ستؤدي في الوقت نفسه إلى إضعاف المؤسسة السياسية وتقديم بديل حقيقي للنموذج الاقتصادي والسياسي الفاشل الذي قاد لبنان إلى أزمته الاقتصادية الراهنة.
حقوق الجميع
علاوة على ذلك، توجد مساحة في الاحتجاجات تتسع لحقوق الجميع حتى من غير اللبنانيين، وليس لحقوق اللبنانيين وحدهم. فترسيخ المصالح المشتركة لجميع العمال الذين يعيشون في البلاد سيكون حاسما لحسم المعركة ضد العنصرية المتجذرة في المجتمع اللبناني.
لقد حانت اللحظة لتدشين خطابات مناهضة للعنصرية، سواء على المستوى الديني أو الطائفي أو الإثني أو الجندري، وتعزيز ممارسات التضامن الاجتماعي، وتجسير العلاقات والروابط بين الجماعات التي ترزح تحت نير النظام السياسي والاجتماعي الراهن، بدءا من الخادمات في المنازل، ومرورا ببعض الأقليات، وصولا إلى اللاجئين.
علاوة على ذلك، فقد رأينا بالفعل تنظيما سياسيا محليا سريع التطور، وتنسيقا عابرا للجغرافيا المحلية عبر شبكات اتصال بديلة ووسائل إعلام جديدة ومستقلة تسعى إلى حلحلة مركزية هياكل السلطة في البلاد، وترسيخ الحركة دون تنميطها.
في هذا السياق، سيلعب الإعلام دورا حاسما في المواجهة لأسباب عدة، أهمها وقوع وسائل الإعلام اللبنانية تحت هيمنة مؤسسة الحكم التي تمتلك أجندات سياسية متنوعة، ومساهمة هذا الإعلام بفاعلية في حماية قوى الفساد الحاكمة، واستخدامه في أغلب الأحوال كرأس حربة في تأجيج خطاب الكراهية والطائفية وأيقنة القادة.
من شيلي إلى العراق، مرورا بالجزائر والسودان ودول أخرى كثيرة، يشهد العالم اليوم حركات شعبية بلا رأس (قيادة) أشعلت فتيلها مشاعر الغضب والإحباط من تفشي الظلم وعدم المحاسبة، وحالة الاستهانة والازدراء من مؤسسات الحكم وهياكل السلطة تجاه الشعوب والبيئة. ويتشارك العراق ولبنان حقيقة استخدام الطائفية كسلاح ضد الشعب لتحقيق مبدأ «فرق تسد»، وتضييق الخناق وسبل العيش على الفقراء، وغياب الحقوق والرعاية وزيادة الضرائب، في الوقت الذي يقبع فيه الأغنياء فوق المحاسبة، وهو ما أدى إلى خروج الشعوب فيما يمكن وصفه بانتفاضة ضد الطبقية.
اقرأ أيضا:
— أصوات Aswat (@aswatonline) November 25, 2019
إن ما يحدث اليوم هو – في التحليل النهائي – صراع على المعاني؛ معنى الدين والمواطنة، ومعنى الطبقة الاجتماعية والطائفة الدينية، ومعنى المقاومة والإمبريالية، ومعان أخرى كثيرة. لكنه يبقى أيضا صراعا ضد سحابة الفشل السوداء، أو ذلك الشعور باليأس والأحباط عندما تدفع السلطة بالشعوب إلى أتون معركة استنزاف فادحة الثمن. لن يكون هناك إشباع سريع؛ فالمعركة ستستمر طويلا، ونظام عتيق كذلك الذي يتربع على سدة الحكم اللبناني لن يبرح مكانه دون مقاومة دامية حتى النفس الأخير. لكن حتى الآن تبدو مكونات كثيرة على أهبة الاستعداد لمواجهة التحديات.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?