لا أحد في هذا العالم يمكن أن يحدد حجم ذلك الغضب الذي كان يمتلىء به صدر الفلاح الصعيدى أحمد جعيدي عبد الحق، وهو يتربص بالمأمور الطاغية «يوسف أفندي الشافعي» كي يُرديه قتيلا، في غروب شمس يوم السبت 19 مارس عام 1932. هذا الغضب، الذي تحول إلى ثأر لكرامته وكرامة أهله وبلدته «البداري»، أصبح الركيزة التي قام عليها كل شيء في تلك القضية التي قارب عمرها على التسعين عامًا، والمذكورة بدقة في أكثر من موضع تاريخي، خاصة الكتاب البديع «حكاية مقتل مأمور البداري» للراحل صلاح عيسي، والذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، كما ضم أحداث تلك الواقعة داخل كتابه «حكايات من دفتر الوطن» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يضاف إلى ذلك ذكرها في أكثر من موضع، منها كتاب «ما قبل الثورة» لصبري أبو المجد والصادر عن هيئة الكتاب، كما تناولها المؤرخ المعروف يونان لبيب رزق بجريدة الأهرام.
الحس الشعبى المصرى
كانت حادثة مقتل مأمور البداري (أحد مراكز محافظة أسيوط بصعيد مصر)، خطوة هامة وأساسية فى الإطاحة بأحد رجال السياسة المصرية الكبار وقتها، وهو «اسماعيل باشا صدقي» رئيس الوزارء القوي والمسيطر، والذي لقب أثناء سفره مع الوفد المصري في مفاوضات الجلاء عام 1919 بـ«نمر السياسة المصرية»، وعندما انقلب على الوفد صار يلقب بـ«عدو الشعب»، خاصة بعد إلغاء دستور 1923.
ملامح عدة أبرزتها تلك الحادثة، منها تلك الخاصة بالحس الشعبي مثل انطلاق الزغاريد وتبادل الأهالي التهاني فور علمهم بمصرع المأمور، وملامح خاصة بالوعي السياسي المصري حينها، تجاه من كانوا يقودون الأمة المصرية آنذاك، ومنهم اسماعيل صدقي، وعلي باشا ماهر وزير للحقانية، وفي مقابلهم آخرون وطنيون منهم عبد العزيز باشا فهمي أول قاض لمحكمة النقض. وبين هذين المستويين بين الحس الشعبي لرؤية القضية، والحس السياسي سنجد الصحف المصرية وأقلامها تعبر عن الجانب الإنساني في القضية.
واذا استرجعنا الحادثة سنجدها كما يذكر أبو المجد وعيسي في كتابيهما والحادثة ببساطة هي «ذهب يوسف أفندى الشافعى مأمور مركز البدارى بمحافظة أسيوط إلى زيارة صديقه فهيم أفندى ناصف مهندس الرى، وخرج الرجلان معا، وسارا يتجاذبان أطراف الحديث إلى أن بلغا دار المدرسة الابتدائية بالبدارى، فما كادا يقتربان من بابها حتى سمع الناس دوى إطلاق الرصاص مساء 19 مارس 1932».
«سقط المأمور جثة هامدة، وحسب حديث القاتل «أحمد جعيدى» لأبوالمجد: «أطلقت رصاصة إلى قلبه، وأنا أقول له: خدها يا ظالم، وأصيب هو، والمهندس صديقه، وذهبت -هكذا قال جعيدى – أنا وصديقى حسن عاشور الشهير بحسونة – إليه لنتأكد من موته، أشفقنا على المهندس فتركناه حيا،لأنه لم يكن له ذنب، واتجه كل منا إلى بيته، اغتسلنا، جلس كل منا يتناول عشاءه فى هدوء».
ويقول صلاح عيسى عن ذلك فى كتابه «حكايات من دفتر الوطن»: «كانا لايزالان حول طبلية العشاء، حين اندلعت الزغاريد تشق أجواء الفضاء من كل بيوت «البداري»، وحين خرجا يستطلعان الخبر، كان الناس يتبادلون التهانى، وكل منهم يقول للآخر.. مبروك «الشافعى أفندى قتل».
خلفيات سياسية
لكن الرصاصات والزغاريد التي تبعتها ،والتي انطلقت في بيوت مركز البداري، لم تستقبلها الإدارة السياسية الحاكمة في القاهرة بالصمت أو التجاهل، بل فهمت أن هذه الرصاصات موجهة إلى صدرها، وللاطاحة بها وبسياستها، وليس المأمور المقتول، وأن الزغاريد هي زغاريد الانتصار عليها والتشفي فيها، فبدأت في الدفاع عن نفسها وأن ترد الاهانة التي طالتها.
وهنا يظهر البعد السياسي للقضية، وكما يقول صلاح عيسي «كان إسماعيل صدقى هو رئيس الوزراء بعد استقالة وزارة مصطفى النحاس عام 1930، حيث أقدم على إلغاء دستور 1923، وإعداد دستور جديد معروف تاريخيا بـ«دستور 1930».
ويضيف «عيسى»: «أطلق صدقى يد الإدارة لتبطش بخصومه، فتخطت العنف الفردى إلى العقوبات الجماعية، ولم تقصر بطشها على الخصوم السياسيين، بل تعدتهم إلى المواطنين الذين لا علاقة لهم بالسياسة، ولا دور لهم بالمعارضة».
ووسط هذه الأجواء المشتعلة، وقعت «جريمة البداري»، والتي كان يمكن لها أن تمر، لولا يقظة وعظمة محكمة النقض برئاسة «عبدالعزيز فهمى باشا» التى قضت بأن هناك تشددا فى الحكم ضد المتهمين فى القضية، حيث حكمت «جنايات أسيوط» بإعدام «أحمد جعيدى عبدالحق»، ومعاقبة «حسن أحمد» الشهير بـ«حسونة» بالأشغال الشاقة، ليخرج موقف «النقض» من حيز القضاء إلى فضاء السياسة، بل وللصحف المصرية المعارضة التي شنت هجوما لاذعا على النظام، بينما تقدم أحد النواب باستجواب، واستقال وزير العدل علي ماهر باشا، وفتحت هذه التطورات مجال البحث عن: هل جريمة مقتل مأمور البداري هي قضية جناية يمكن لنا البحث فيها عن قاتل ومقتول؟، أم أن لها أبعادا اخري تسبقها وتمهد لها؟
السبب الأول الذي يظهر للعيان، هو سقوط مرشح إسماعيل صدقيفي الانتخابات البرلمانية في دائرة أسيوط، حيث انتصرت إرادة البداري وفاز مرشح الوفد ضد مرشح حكومة «الدستورين الاحرار»، ليقرر بعدها إسماعيل صدقى الانتقام من البداري شر انتقام، فأوعز إلى وزير الداخلية أن يعين لها مأمورا عرف بالقسوة الشديدة ويستجيب وزير الداخلية فيختار يوسف أفندى الشافعى، الذى كان أقل ما يمكن أن يوصف به أنه شخصية سادية.
يبدأ يوسف الشافعى حملة التنكيل بأهالي البداري، حيث كان يلقي القبض على كل من لا يروق له من المواطنين بسبب أو بدون سبب، وقد كان من بين المقبوض عليهم شاب يدعى أحمد جعيدى عبد الحق وشهرته «الضرس جعيدى»، أما سبب القبض عليه فهو أنه كان يرتدى جلبابا فاخرا من الحرير «السكروتة»، ويمسك فى يده عصا خيزران ذات مقبض من العاج ويسير مزهوا بنفسه أمام مركز البوليس. تعرض الضرس للضرب فى مركز الشرطة وقام يوسف أفندى بنفسه بإدخال العصا فى دبره حتى يتأكد بنفسه أنه لا يجوز لأى إنسان أن يرفع رأسه أمام المركز، إلا إذا كان من رجال الشرطة أو من أتباع إسماعيل باشا صدقى، ثم أخلي سراحه بعد ذلك، بعد أن ناله ما ناله من التعذيب والإذلال بدون أى سبب حقيقى أو ذنب جناه.
ويقول «أبوالمجد»: «كانت كلمة المأمور نافذة فى مديرية أسيوط كلها، لا يهتم بأى قانون وعرف، بل كان يتباهى بأنه يتحدى سلطة النيابة». أما صلاح عيسي فيقول عنه: «كان حريصا على أن يبدو أمام الجميع نموذجا للحاكم المخيف الذى يرهبه الجميع، ويعملون له ألف حساب، ويعترفون بأنه السلطة الوحيدة فى البندر والمركز. أما «أحمد جعيدى» فهو حسب عيسى: «أفندى متعلم، قضى عامين بأسيوط، وكان حريصا على مظهره، يتنقل من المقاهى والغرز، تلتف حوله شلة أصدقاء الفراغ والشباب، كان أقربهم إليه «حسن عاشور» أو «حسونة».
وقد كان سلوك «جعيدى» وأصحابه يلفت نظر «المأمور»، فهم «شلة أفندية عاطلين» بوصف عيسى، فى نفس الوقت الذى يتذكر فيه العمدة محمد همام أنه على خلافات قديمة مع عائلة «عبدالحق» التى ينتمى إليها «جعيدى»، فقام بدس اسم «أحمد جعيدى» وصديقه «حسن عاشور» بين الذين يرشحهم للخضوع لقانون المشبوهين والمتشردين، باعتبارهما عاطلين وبلا عمل معروف، وكان عدد الموجودين فى القائمة 36 شخصا، يتم مراقبتهم يوميا من جانب الشرطة، ومن حق المأمور أن يحتجزهم ويقبض عليهم فى حال وقوع أى جريمة فى المدينة. وبالفعل سيق «جعيدى» و«حسونة» أكثر من مرة إلى مبنى المركز، حيث انهال عليهما العساكر ضربا بمؤخرات البنادق والسياط ، وتم حسبهما فى اسطبل الخيل، ويؤكد عيسى أن النيابة تواطأت فى هذا الأمر، فحين تقدم «جعيدى» بشكوى إلى وكيل نيابة البدارى «حسنى زيان»، وكان خطيب ابنة المأمور ، يطلب فيها رفع اسمه من قوائم المشبوهين، لم تهتم النيابة، فقرر أن يثأر لكرامته المهدرة، وأقدم مع صديقه «حسونة» على هذه الجريمة التي كان لها صداها فى اليوم التالى.
إسماعيل باشا صدقي، يوسف أفندي الشافعي
حكم النقض التاريخى
أصبحت البداري تحتل مساحة كبيرة من الصحف، سواء الحكومية أو المعارضة، وأصبح اسم هذا المركز يُتداول على ألسنة رجال السياسة المصرية، وفي مقدمتهم اسم هذا الفلاح المصري «أحمد جعيدي» الشهير بالضرس. كانت البلد مشتعلة، وجاءت تلك القضية لتصبح رأس الحربة، واللغم الذي وضعت عليه الحكومة حينها قدمها ولم تستطع أن ترفعها.
فقد تحولت أوراق القضية بسرعة شديدة، فبعد أن حكمت محكمة جنايات أسيوط بإعدام «جعيدي» وبالأشغال الشاقة المؤبدة بحق زميله «حسونة»، تم الطعن على هذا الحكم أمام محكمة النقض التي أكتشفت أن جريمة القتل كانت بسبب قيام المأمور بتعذيب المواطنين الذين يقبض عليهم، وكان من بين من تعرضوا للتعذيب الرجلان اللذان قتلا المأمور، حيث قام بتعذيبهما وتعريتهما وهتك عرضهما أمام الأهالى. وهنا أطلق رئيس محكمة النقض عبد العزيز فهمي باشا جملته الشهيرة «إجرام في إجرام»، قاصدًا بذلك ما كان يفعله رجال البوليس، ليس في البداري فقط، بل في بر مصر. وهو الموقف الذي صدر في حكم تاريخى يوم 5 ديسمبر سنة 1932 يدين فساد النظام وأفعال رجال البوليس. وفي نقضها للحكم السباق قالت محكمة النقض أيضا: «إن من وقائع هذه القضية ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال الشاقة، وإنها من أشد المخازى إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلى الانتقام». ورأت محكمة النقض أن ما جعلته محكمة جنايات أسيوط موجبا لاستعمال الشدة كان يجب أن يكون من مقتضيات استعمال الرأفة.
وبناء على هذه الحيثيات أصدرت المحكمة حكمها بتخفيف حكم الاعدام الصادر بحق جعيدي إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، والأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاما بدلا من الأشغال الشاقة المؤبدة لصديقه حسونة، فيما بدأت النيابة العامة بعدها التحقيق فى وقائع التعذيب التى يتعرض لها المواطنون على يد رجال البوليس فى مختلف أنحاء البلاد.، وكان هذا الحكم وما تبعه من تحقيقات سببا فى انقسام فى حكومة صدقى الذى أوقف التحقيقات، فاستقال بعض وزرائه احتجاجا على هذا الإجراء، وتم تغيير الحكومة بعد استبعاد الوزراء المستقيلين، واستمرت انتهاكات البوليس ورجال الإدارة، لكن حكومة صدقى الجديدة لم تصمد أكثر من تسعة أشهر لتسقط ويسقط معها صدقى باشا الذي حل محله أحد الوزراء المستقيلين وهو عبدالفتاح باشا يحيى.
وبعد تسعة اشهر من تداول القضية يغرب اسماعيل صدقي عن وجه السياسة المصرية، حيث لا يتذكره أحد الا بكثير من الغضب والسخط الاخفاقات والانتكاسات.