يتذوق البشر على مدار حياتهم ألوانا مختلفة من الألم، أحيانًا يكون نفسيا وأخرى جسديا، وفي كلتا الحالتين قد لا يسعف الكلام الإنسان لوصف ما يشعر به من ألم، فيلجأ إلى الفن ليجسد معاناته وآلامه المعنوية في صورة مادية يمكن لآخرين أن يرونها ويسمعونها فيتفهمون هذا الشعور بشكل أعمق ويتشاركونه مع الفنان. فكثيرًا ما يجد المتلقي ما يعبر عنه داخل مقطوعة موسيقية أو لوحة أو حتى منحوتة، فالألم هو المادة الخام للفن التي تحفز الفنان على تفجير طاقاته الإبداعية فينتج عملًا يعبر عنه ويضيف إلى الفن في الوقت ذاته.
«فريدا كالو» من الجسد الضيق إلى رحابة الفن
واحدة من أشهر من جسدن الألم، هي الرسامة المكسيكية «فريدا كالو» التي بدأت مسيرتها الفنية بعد إصابتها في حادث مروع بالحافلة التي كانت تقلها عام 1925، ما أدى إلى بقائها طريحة الفراش لمدة عام كامل، فوضعت لها أمها سريرًا متحركًا في غرفتها ليسهل حركتها، ومرآة كبيرة، لتصبح وحيدة تحدق بصورتها في المرآة طوال اليوم، وذات يوم طلبت فرشاة وألوانا وبدأت ترسم لوحات ذاتية سريالية جسدت فيها ما شعرت به من ألم دون تجميل.
الرسامة المكسيكية فريدا كالو
ورغم أنها لم تتلق تعليمًا فنيًا أكاديميًا، إلا أنها نجحت في تعليم نفسها الرسم خلال فترة مرضها وخلقت الخط الفني الخاص بها، والذي كان صادمًا في معظم الأحيان يعري الحقائق ويعرض موضوعات خاصة وحساسة، ففي لوحة «مستشفى هنري فورد» جسدت تعرضها للإجهاض وهي ملقاة على سرير المستشفى بعد فقدانها لجنينها، وفي لوحة «العمود المكسور» استبدلت عمودها الفقري بقضيب معدني على وشك الانهيار وتخترق جسدها مسامير لتثبيته، وغيرها من التجارب الشخصية جدًا في محاولة منها للتغلب على ما عانته من أمراض وجراحات وإجهاض وحتى خيانة زوجها لها، وكان الفن مخلصها من كل هذا العذاب، وفي إحدى المرات قالت «فريدا»: «أنا لست مريضة، أنا مكسورة، ولكنني سعيدة أنني مازلت حية طالما أنني أرسم».
«بيتهوفن» الأصم الذي أسمع العالم فنه
على صعيد فني مختلف في النوع ولكن متشابه في الحاجة إلى التعبير، كان عبقري الموسيقى «لودفيج فان بيتهوفن» قد بدأ يشعر بضعف في السمع في أوج تألقه على الساحة الفنية في منتصف العشرينات من عمره، فحاول أن يخفي الأمر عن الناس حتى لا يفقد سمعته الموسيقية، إلا أن الأمر انكشف على أي حال، وأصبح أصما بشكل كامل في بداية الأربعينات من عمره، ورغم أنه لم يكن يسمع أحدا إلا أنه أجبر العالم أجمع أن يسمعه من خلال موسيقاه الاستثنائية.
لودفيج فان بيتهوفن
بعدما فقد «بيتهوفن» سمعه انتقل إلى الريف وانعزل عن الناس وتعامل مع ألمه من خلال العزف على البيانو، ورغم أن موسيقاه تغيرت في تلك الفترة لتميل أكثر إلى الحزن، إلا أنه أنهي تأليف السيمفونية التاسعة والأخيرة له عام 1824 وهو أصم تمامًا، وتعتبر تلك المقطوعة هي أعظم أعمال «بيتهوفن» على الإطلاق، بل وأعظم قطعة موسيقية في التاريخ، وكأن فاقد الشىء يعطيه لأنه بأمس الحاجة إليه، حيث وجد «بيتهوفن» في الموسيقى لغة عالمية يمكنه من خلالها التواصل مع العالم كله دون الحاجة لأي كلام، وإنما فقط إحساس وأصوات.
«البرت جيورجى».. الفقد والتعزية
وبنفس دافع ألم الفقد، ولكن ليس فقد حاسة وإنما فقد عزيز، نحت «ألبرت جيورجي» الروماني الأصل تمثالا بسيطا بعنوان أكثر بساطة وهو «الحزن» في حديقة صغيرة بمحاذاة بحيرة جنيف بسويسرا، وهو عبارة عن رجل يجلس على مقعد الحديقة بفراغ كامل في الجزء العلوي من جسده، وقد نحت «جيورجي» هذا التمثال بعد وفاة زوجته، معبرًا عما شعر به من إحساس بالخواء.
شاهد التمثال ملايين من البشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتفاعلوا معه، كل حسب ما مر به من تجربة فقد ابن أو أب أو أم أو حبيب، وكأن جماد «جيورجي» المصنوع من النحاس والقصدير دبت فيه الحياة وتمكن من التواصل مع كل من فقد عزيزا وعبر تعبيرًا أدق من ألف كلمة، ليصبح أيقونة في ألم الفراق، وكأنه كلما فارقنا عزيز أخذ معه قطعة من روحنا، وكتب الآلاف من الناس حول العالم رسائل لجيورجى يشكرونه فيها على مشاركته إياهم طريقته الخاصة في التعبير عن الألم بهذا العمل الرائع الذي اعتبروه تعزية لهم.
للألم قدسيته التي تجعلنا غير قادرين على التعبير اللفظي عنه ،لأن الخيار الأسهل هو أن نخفيه عمن حولنا في صمت، لكن بدلًا من محاولة تجاهل هذا الشعور أو حتى كبته يوفر الفن ملاذًا يمكن لأي أحد اللجوء إليه للتعبير عن همومه وآلامه في صورة راقية لا تحتاج بذل مجهود في محاولة انتقاء الكلمات المناسبة، وإنما يكفي فقط ما نشعر به، وكأن داخل كل منا لحنا حزينا ولوحة ملونة بألوان زاهية ومنحوتة صنعت بدقة، كل ما نحتاجه فقط أن نسمح لأنفسنا بأن نحول ما بداخلنا من مشاعر تكاد أن تبتلعنا إلى أخرى أكثر عذوبة ورقة نشارك بها الآخرين ونخفف عن صدورنا ثقلها.
المصادر:
Artist Frida Kahlo Transcended Suffering through Art