الثالث من ديسمبر هو ذكرى مفارقة أبي الشاعر أحمد فؤاد نجم بجسده، فقد رحل عن عالمنا فى مثل هذا اليوم من عام 2013. هناك من هم أقدر مني على الحديث عن قيمة أحمد فؤاد نجم الشاعر والمناضل، ولكن يحق لي أن أتحدث هنا عن أبي.
على غير عادة أبناء المشاهير حين يتحدثون عن آبائهم، ويفصحون عن أسرار تظهر لأول مرة، ليس لدي أسرار بشأن والدي، فلم يكن يتمتع بخاصية حفظ السر، أو الظهور على العلن بشكل مغاير لما يمارسه في حياته العادية.
كان أبي دوما يقول إنه لن يبرح الدنيا حتى يرى مصر «عروسة»، ويراها أفضل بلد في العالم. ولسبب ما، كان ذلك مبعث شعور بالأمان بالنسبة لي: فأبي لن يغادر الدنيا، لأن مصر لن تصبح أفضل بلد في الدنيا في القريب المنتظر، وهو لن يبرح حتى يراها كذلك… فهوإ باق معي إذن. إلا أنه غادر فجأة. و حين تلقيت الخبر من زوجته «أم زينب»، تعاملت معها بوصفها تهذي، وأخبرتها بأنني قادمة لأثبت لها أنها واهمة: «هو نايم بس». هكذا قلت لها.
في الطريق خابرني أصدقائي معزين: البقية في حياتك.
– لا.. أنا رايحة أهو وحاجيب دكتور وحننقله المستشفى.. هو نايم
– طيب يا حبيبتي..
***
حين طلبت منه النهوض لم ينهض. وكان ذلك مبعث غضبىى الشديد.
كنت أجلس وحيدة وأحدثه في نفسي حول غضبي، وحول ما فعله بي، وكيف أنه أخطأ في حقي خطأ لا يغتفر، وأنه وعدني بأن يظل، وأن هناك الكثير من الأمور المعلقة بيني وبينه، وأنه ذهب قبل أن يصلح الكثير مما أفسده، بقصد أو بغير قصد، وقبل أن يشرح أو حتى يبرر لي بعض التصرفات التي لم أحدثه عنها، لكن لا بد أنه كان يعلم أنها لم تكن مناسبة.
رسائل نجم
أثناء حواري معه بعد رحيله، فتحت أحد مواقع التواصل الاجتماعي لأجد رسالة من شابة جميلة لم يسبق لي التشرف بمعرفتها، يقول نصها: «أستاذة نوارة.. أنا آسفة إني باقتحم الرسايل الخاصة.. بس أنا حلمت بعم أحمد وطلب مني أن أبلغك رسالة غريبة».. كان فحوى الرسالة أنه لم يقصد الإساءة، لكنه اعتمد علي وعلى حسن ظنه بقوتي. اندهشت قليلا. لكنني أرجعت الأمر لحب الناس جميعا، على اختلاف مشاربهم، لوالدي.
تمر الأيام ولا يزورني أبي في المنام إلا لماما، ربما مرات معدودة على أصابع اليد الواحدة. ذات مرة، رأيت وكأن أناسا يرتدون بزات سوداء، وكأنهم في مهمة خاصة يرغبون في محاسبته وضربه، ثم خرج من بين أيديهم سليما معافى، سألته: كيف أفلت من بين أيديهم، فأجاب ببساطة: ضحكتهم.
ثم جاءتنى رسالة من شابة جميلة أعرفها بالكاد، لتخبرني بأن والدي بلغها أنني غاضبة، وأنه حزين لغضبي. ذهبت لزيارة قبره وبكيت، واعتذرت عن لومه على ما أسميته لحظتها: المقدر والمكتوب، وطلبت منه أن يطمئنني عليه.
في اليوم التالي، أرسلت لي شابة باهرة الجمال رسالة فحواها أن أبي في مكان جميل وبصحة جيدة ويضحك كثيرا، وأبدت الشابة اندهاشها: «ما تآخذنيش يا نوارة أنا ما أعرفش حاجة عن باباكي غير إنه كان بيطلع في التلفزيون، وعمري ما فكرت فيه عشان عقلي الباطن يطلعه في الحلم».
شكرتها. ثم وجدت رسالة من المحامي مالك عدلي بها صورة للرقم القومي لوالدي، يخبرني فيها أنه وجد رقمه القومي في هذه اللحظة، وهو يبحث في أوراقه عن شيء ما.
يبعث الأمل من قبره
اشتدت الأزمات على الجميع. تفرق الجمع، تعارك البعض، انعزل البعض الآخر. حالة من الكآبة تسود. شاب صديق يرسل لي رسالة مطولة، يعتذر فيها عن تقصيره في السؤال عني، ويخبرني بأنه قضى الأسبوعين المنصرمين مستلقيا على فراشه، لا يقبل الدنيا، ولا يرغب في استقبال الأيام. ثم يطلعني بإن أمرا غريبا حدث، وأنه رأى فيما يرى النائم، أنه كان جالسا على ضفة ترعة، منكمشا يبكي، ثم رأى والدي يأتي من الضفة الأخرى ويهزه من كتفه، انتفض الشاب مرحبا بأبي واحتضنه، وطلب منه أن يصطحبه معه إلى الضفة الأخرى. والدي يرفض، ويخبره بأن أمامه الكثير ليقوم به، وقال له نصا: أنا جاي أشقر عليكم.. وأقول لكم إنكم عيال «*****» (لفظ ناب جدا معناه الافتقار للرجولة) ثم أكمل: أمال لو كنتوا شوفتوا اللي أنا شفته كنتوا عملتوا إيه؟، وأكد له أنه سيأتي كثيرا للاطمئنان علينا، وطلب منه أن يوصل السلام لي ولمحمد هاشم الناشر ولمصطفى إبراهيم الشاعر.
ضحكت.. وضحك الشاب قائلا: هو ينفع؟ الناس هناك بتشتم عادي ولا ده استثناء معمول له هناك زي ما كان معمول له هنا؟!
أردف الشاب مخبرا إياي بأنه استيقظ من نومه على صوت ضحكاته، وكانت المرة الأولى التي يضحك فيها منذ أسبوعين. وأنه قام بعدها وأخذ حماما وحلق لحيته وخرج من منزله ليبحث عن عمل.
رويت له الرسائل التي تأتيني من أبي عبر النساء الجميلات، وأبديت اندهاشي، ضاحكة، من أن ياسمين الخطيب لم تحمل لي بعد رسالة منه!.
سألني إن كان هناك تفسير علمي لما يحدث؟، فقلت له إن أبي ارتبط في أذهان الناس بالأمل والحياة والضحك، ومن الطبيعي أن يستحضروا ذكراه في عقلهم الباطن في لحظات الشدة، كما أن الجميلات يشعرن بالامتنان لتثمينه جمالهن دون رغبة في استغلالهن، لذلك فمن المتوقع أن عقلهن الباطن يستحضره من آن لآخر.
***
منذ وفاة والدي، وعلاقتنا في تذبذب، أحيانا نتصالح، وأحيانا أتشاجر معه من جانب واحد، وأعود للشعور بالغضب: «بس أنت كان لازم تصلح ده كله قبل ما تمشي».
اتصلت بي صديقة وأخبرتني أنها رأت والدي في المنام، وأن فحوى الرسالة أنه يستطيع أن يصلح ما أفسده من مكانه، وأنه قام بتعبئة صندوق مليء بالهدايا، وطلب منها أن توصله لي، ثم أعطاها ظرفا قديما مغلقا وطلب منها ألا تفتحه وأن تقوم بتسليمه لي.
بكيت كثيرا وهي تروي لي الحلم، ثم ضحكت فجأة حين تذكرت أن صديقتي التي تروي لي الحلم امرأة جميلة، وقلت له: «مش حتجيبها البر أبدا يا نجم».
اكتشاف شاعر
في يوم من الأيام دخلت على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» لأجد صديقة قد أرسلت لي منشورا لشاب يطلب فيه عنوان مقبرة والدي، وضمّن منشوره تسجيلا مصورا لوالدي وهو يضع ذراعه على قبر الشيخ إمام ويتساءل: يا ترى حنلاقي حد يحط لنا صبارة احنا كمان ولا لأ؟
أرسلت للشاب اتساءل عن سبب سؤاله عن قبر والدي؟. فأجابني بأن أبي كان مصاحبا له طوال الليل، وأنه يريد أن يذهب إليه ليضع صبّارة، فوالدي هو الذي جعله يكتب الشعر. طلبت من الشاب أن يرسل لي جزءا من شعره، فأرسل لي رباعية بالغة الروعة. ذهلت من المستوى الشعري الرفيع، وظننت أن هذه الرباعية ربما تكون فلتة، فطلبت منه المزيد، ثم المزيد ثم المزيد.
الله. شعرك حلو قوي، أنا عايزة الديوان.
– ديوان؟ أنا ما عنديش ديوان.. وأنا لاقي آكل؟!
أعطيته رقم الناشر محمد هاشم واتصلت بـ«عمو» محمد، وطلبت منه أن يقرأ الشعر، وإذا لم يعجبه فلينسى الأمر.
ونسيت الأمر.
بعد فترة اتصل بي الناشر محمد هاشم قائلا: «يا نوارة.. الواد اللي أنت جبتهولي ده… حلو قوي.. بس هربان مش لاقيه.. معاه غلاف الديوان وبنتصل بيه مش لاقيينه، عايزين نلحق نطبع الديوان قبل المعرض».
تواصلت مع الشاب: أنت فين يابني؟
أجاب: أنا خايف… هو أنا بعرف أكتب شعر فعلا؟
قلت: ما كانش أبويا اكتشفك. روح يابني لعم هاشم قالب عليك الدنيا.
وكان الشاعر «أحمد بسيوني»، صاحب ديوان «مآذن إبليس».
اكتشفه والدي وهو على الضفة الأخرى من الترعة..
الفيديو جراف:
نص: بلال مؤمن
تحريك ومونتاج: عبد الله محمد