يمكن تعريف الانتحار بأنه موت صاخب، وتعبير عن رفض قاطع لاستمرار الحياة، في نمط وظروف تصل بصاحبها إلى درجة من الاكتئاب يبقى استمرار العيش في ظلها أمرا مستحيلا. وقد يحمل في طياته عددا من الرسائل المضمرة لأشخاص بعينهم في حياة المنتحر حين لا يصبح للكلام جدوى، وكلما ازدادت الطريقة التي يقدم عليها المنتحر في إنهاء حياته، قسوة وعنفا، كلما كان موته أكثر صخبا، وكانت الرسائل أكثر دويا.
لهذا قد يختار أحدهم انهاء حياته أمام عجلات قطار، أو من فوق سطح أعلى برج بالعاصمة، بدلا من موت صامت بين جدران تملؤها الكآبة. لا نسعى هنا بطبيعة الحال لتبرير الانتحار أو إثارة مشاعر التعاطف لدى الجماهير إزاء المنتحر، وإنما هي محاولة لفهم الدوافع النفسية التي تدفع أحدهم في لحظة ما لإنهاء حياته بتلك الطريقة الشائنة مجتمعيا والمحرمة دينيا، لكن هل ينشغل كثيرا من قرر إنهاء حياته، بطريقة النظر إليه مجتمعيا أو الحكم الشرعي المترتب على إقدامه على الانتحار؟ لا أعتقد ذلك، فقرار بهذا القدر من التهور والانفعال والمأساوية لا يتٌخذ إلا بعدما تسقط في نظر المنتحر، كل القواعد و الأطر والواجبات، سواء كانت اجتماعية أم شرعية.
وقد أثارت حالات الانتحار التي شهدناها على مدار الأيام الأخيرة جدلا كبيرا في وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما أقدم أحدهم على تسريب فيديو لأحد الشباب الذي تخرج لتوه من كلية الهندسة، وهو يلقي بنفسه من فوق «البرج» أعلى قمة في القاهرة.، الكثيرون حاولوا التعرف على ملابسات حياة الشاب، بينما راح البعض يحمّل المجتمع المسئولية عن تضييق العيش، وحالة الإحباط وإنسداد الأفق التي دفعت عددا معتبرا من الشباب على مدار هذا الأسبوع، والأسابيع الماضية إلى الإقدام على الانتحار، فهل تكون حالة الإحباط الاجتماعي وما يصاحبها من قلة فرص العمل، وتدني الدخول وسط موجة من الغلاء غير المحدود هي المفسر الحقيقي لهذه الظاهرة؟
أرقام صادمة
وفق تقارير منظمة الصحة العالمية فإن نحو 800 ألف شخص يضعون نهاية لحياتهم سنويا، تشغل البلاد الأكثر فقرا والأقل نموا نحو 79% من هذه الاحصائية، من الضروري أن ننتبه إلى أن 80 دولة فقط من بين دول العالم هي التي توفي منظمة الصحة العالمية وفق سجلاتها المدنية ببياناتها الرسمية حول حالات الانتحار التي يتم رصدها، بينما لاتشمل الاحصائية بقية دول العالم، وهو ما يعني ان التقدير الحقيقي لحجم الظاهرة قد يفوق عدد الـ 800 ألف منتحر سنويا، أمر آخر يجب الانتباه إليه، وهو أن الانتحار في كثير من المجتمعات الشرقية لاسيما العربية والإسلامية أمر مشين اجتماعيا حيث يوصف المنتحر دينيا بـ(الكافر)، وهو ما يدفع كثيرا من الأسر إلى التبرؤ من هذه الوصمة بإنكار حقيقة انتحار ذويهم، وكثيرا ما يتم التحايل على التقارير الطبية، وهو ما يعني صعوبة الحصول على تقديرات حقيقية حتى لو توفرت النية للدولة في وضع أيديها على الحجم الحقيقي للظاهرة.
ورغم ذلك فوفق تقرير نشره موقع مصراوي فإن إحصائية صادرة عن المركز القومي للسموم التابع لجامعة القاهرة تحدثت عن تزايد أعداد الشباب المصريين المنتحرين بسبب العنوسة والبطالة، حيث تقدم حوالي 2700 فتاة على الانتحار سنويًا بسبب العنوسة، فضلا عن إقدام العديد من الشباب على الانتحار أيضا بسبب البطالة وصعوبة الزواج، خصوصًا ممن يعيشون قصصا غرامية.
يشير التقرير نفسه إلى أنه في عام 2007: أظهرت دراسة مصرية أن هناك 3708 حالة انتحار وقعت في مصر خلال العام، وأن نسبة المنتحرات من الإناث كانت أكثر من الذكور لتصل إلى 68 في المئة للإناث مقابل 32 في المئة للذكور، وسبق أن سجلت إحصائيات المركز القومي للسموم التابع لجامعة القاهرة وقوع 2355 حالة انتحار بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 22 و23 عامًا خلال عام واحد طبقا للإحصائيات الرسمية.
كما بلغت محاولات الانتحار فقط في مصر عام 2009 نحو 104 آلاف حالة، تمكن 5 آلاف منهم في التخلص من حياتهم. وتقول الإحصائيات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إن جريمة الانتحار في مصر، أصبحت ظاهرة خطيرة تتصاعد يوما بعد يوم.
وشهد عام 2011 نحو 18 ألف حالة محاولة انتحار وصلت إلى مركز السموم خلال العام، أغلبهم من الرجال. وتشهد مصر سنويا نحو 3 آلاف حالة محاولة انتحار لمن هم أقل من 40 عاما، فيما تقول تقارير أخرى إن خمسة أشخاص من بين كل ألف شخص يحاولون الانتحار بهدف التخلص من مشكلاتهم، يقول علماء الاجتماع والطب النفسي إن الكثير من الناس تراودهم أفكار الموت والخلاص بإنهاء حياتهم؛ عندما لا يستطيعون مواصلة الحياة في ظل المعوقات والملمات التي تصاحبهم، لاسيما بعد إصابتهم بحالة من حالات الاكتئاب النفسي الذي يفقد فيه الإنسان أي رغبة في الحياة في إطار الضيق والشعور بالضياع، فلا يرى مخرجا ومفرا من معاناته سوى إنهاء حياته بيده، وبالطريقة التي يختارها كلون من ألوان الاعتراض، ولكن القليل من هؤلاء من يجرؤ ويمتلك القوة والإصرار على تنفيذ هذه الفكرة وتصفية نفسه جسديا.
تجمل المنظّمات الرسمية الأسباب التي تدفع بالأشخاص إلى التّفكير بالانتحار سعياً للخلاص من الحياة التي يعيشونها، كالاضطرابات النّفسيّة: حيث يعاني بعض الناس من أمراض نفسيّة تؤدّي به إلى الانتحار؛ كالهوس، والانفصام، والاكتئاب الحادّ، كما تدفع الصّدمات القوية التي قد يتعرض لها البعض إلى الإقدام على هذه الخطوة غير المحسوبة، بالإضافة إلى أسباب أخرى كإدمان المخدّرات وتعاطيها: حيث تعد المخدّرات من مذهبات العقل التي تؤدّي بالإنسان إلى فعل كلّ ما لا يتقبّله العقل البشريّ السّليم، فمن الممكن لمدمن المخدّرات أن يمارس سلوكيات، ويقدم على أفعال، وهو غير مدرك لها تحت تأثير المخدّر، كالقتل والاغتصاب والانتحار.
الأرقام خطيرة ومخيفة وسط تصاعد للظاهرة في مصر تزامن بشكل أو بآخر مع ضغوط الحياة في السنوات الأخيرة التي اعقبت ثورات العقد الثاني من القرن الجاري، بالإضافة إلى إمكان رصد عشرات الآلاف من محاولات الانتحار غير المباشر نتيجة الوقوع تحت ضغوط الحياة، فالأب الذي يلقي بأبنائه في مياه النيل لأنه غير قادر على الوفاء باحتياجاتهم المادية لاشك قرار منتحر، والأم التي تقرر التخلص من أبنائها عند أبواب ملجأ للأيتام أو دار للرعاية الاجتماعية أو في الطرقات وعند أبواب المساجد هي بلاشك منتحرة، وربما لا يفصلهم عن قرار إنهاء حياتهم الخاصة سوى بضع خطوات، ومن ثم فالتصدي للظاهرة وفق آليات ونصائح المنظمات الصحية والنفسية العالمية بات ضرورة ملحة، ومحاولة تيسير حياة الناس وسط واقع مرير ربما يكون هو الأكثر إلحاحا فى وقتنا الراهن.