منوعات

الفلاحون في بر مصر (5): ثورات الصعايدة وأبناء بحري ضد الفرنسيس

هذه صفحة قديمة من كتاب المصريين، لكنها جديرة بالتأمل واعادة  القراءة والتقليب والتفتيش عن تاريخنا فيها، وتحديدا الفلاحين.

أقف معكم على أعتاب الإسكندرية ورشيد وشباس عمير وطنطا وجرجا وقنا، أكاد أرى وأسمع وقع سنابك الخيل وضرب البنادق على قوات الفرنساوية من قبل الفلاحين والأهالي.. حيث الحملة الفرنسية تشهد انحسارا سببه الرئيسي بطولات المصريين في مواجهة 3 سنوات من الاحتلال الفرنسي.

كان نابليون بونابرت نجما صاعدا في أوروبا بأكملها، ظهر تأثيره القوي خلال أحداث الثورة الفرنسية، وقاد حملات عسكرية جميعها ناجحة ضد «أعداء فرنسا» خلال حروبها الثورية، ثم حكم فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر بصفته قنصلا عاما، ثم امبراطورا، وقاد فرنسا في سلسلة انتصارات مبهرة على القوى العسكرية الحليفة التي قامت في وجهها، فيما عرف بالحروب النابليونية، ثم استهدف مصر للدفاع عن مصالح بلده لمنع انجلترا من الوصول إلى الهند، لكن ما لم يكن في حساباته أن المصريين سيناضلون بكل هذا الإصرار في طريق الاستقلال وإجلاء الفرنساويين.

خطاب «المصلحة»

كتب نابليون بيانا مثيرا للاهتمام حقا إلى سكان الإسكندرية، بينما سفينة «المشرق» ترسو في ميناء الإسكندرية: «لطالما أهان البكوات الذين يحكمون مصر الأمة الفرنسية، وغطوا تجارهم بالافتراءات. لقد حانت ساعة عقابهم. لطالما استبد هذا الحشد من العبيد (قاصدا المماليكالذين تم شراؤهم في القوقاز وجورجيا، بأجمل جزء من العالم. لكن الله قد قرر أن إمبراطوريتهم ستنتهي. يا شعب مصر، لقد أخبروكم بأنني جئت لتدمير دينكم، لكن لا تصدقوهم. أخبروهم أنني جئت لاستعادة حقوقكم ومعاقبة المغتصبين، وأنني أحترم الله ونبيه والقرآن أكثر من المماليك. قولوا لهم إن جميع الناس متساوون أمام الله».

خطاب نابليون للمصريين

وتابع القائد الداهية: «أيها القضاة، الشيوخ، الأئمة، وأعيان الأمة، أطلب منكم أن تخبروا الناس أننا أصدقاء حقيقيون للمسلمين. ألم نكن نحن من دمر فرسان مالطا؟ ألم نكن نحن من دمر البابا الذي كان يقول إنه من الواجب الحرب على المسلمين؟»

هذا الجزء من بيان نابليون يدلل جيدا على سياسة فرنسا الدبلوماسية المعلنة تجاه مصر، لكن يظهر مثلا من كلام مسيو ده سارتين وزير البحرية آنذاك من خطابه في مجلس الوزراء خطاب «المصلحة» الذي كان يسيطر على الحملة الفرنسية، حيث يقول: «إن احتلال مصر هو الطريقة الوحيدة لحفظ تجارتنا في البحر المتوسط، ومتى توطدت قدمنا في مصر صرنا أصحاب السيادة على البحر الأحمر، وصرنا نستطيع أن نهاجم انجلترا في الهند، أو ننشيء في تلك الأصقاع متاجر ننافس بها الإنجليزي».

انتهى كلام وزير البحرية الفرنسي، وأرى أنه حان الوقت للدخول في قضيتنا كمصريين، للحديث عن نضالات الشعب المصري أثناء الحملة الفرنسية..

الوجه البحري ينتفض

أوفد نابليون جنرالا يدعى «دوجا» بهدف احتلال مدينة رشيد، فتقدم واحتل أبو قير أولا ثم رشيد، وكان عليه أن يتجه عن طريق النيل إلى منطقة الرحمانية، وترك في رشيد حامية بقيادة أحد الضباط إلى حين وصول الجنرال مينو الذي عين حاكما لرشيد، فاجتمع أهالي المدينة من الفلاحين والعمال والتجار وقرروا إقامة حكومة أهلية بينهم، واختاروا لها ثلاثة من خيارهم وجعلوهم في مقام الحكام، وحين وصل مينو إلى رشيد لم يستطع أن يتفاهم مع الأهالي مباشرة، فطلب إمداده بقوة من الجنود وذكر في طلبه أن العرب يزعجونه على الدوام، وأن الأهالي لا يطيعونه ودائما ثائرون.

واجه مينو مصاعب كثيرة، من بينها مثلا أنه لم يستطع  مراسلة نابليون حيث هاجم أهالي مطوبس وأدفينا رسله، كما أطلقوا النار على سفينته فعادت دون أن تتم مهمتها، وحدث أن أرسل مينو بعض جنوده إلى نابليون يحملون إليه البريد فخرج إليهم أهل السالمية بمدينة رشيد وهاجموهم وقتلوا منهم ثمانية.

وعند قرية شباس عمير التابعة لكفر الشيخ خرج الأهالي يقاومون قوة يصطحبها مينو وأطلقوا عليها الرصاص، وقتل الفنان «جولي» وتراجعت الكتيبة ثم عادت من جديد إلى القرية، وكان الأهالي قد احتلوا سورها وأبراجها الحصينة، وبدأوا يطلقون منها النار، ودارت معركة عنيفة بين الطرفين، وأدرك مينو خطورة الموقف وخاصة أن رصاصة أصابت جواده، فأمر جنده بإضرام النار في القرية، وجاء الفلاحون من القرية المجاورة يُنجدون جيرانهم، حتى بلغت الجموع ثلاثة آلاف من الفلاحين، وتحت الضغط العنيف عاد مينو بكتيبته إلى دسوق ثم إلى رشيد بعد أن فقد عددا كبيرا من رجاله.

تهريب الجمال والخيول

وفي 17 يوليو من عام 1798 علم أهالي البحيرة أن كتيبة فرنسية يقودها الجنرال «ديبوي» قادمة من الإسكندرية قاصدة دمنهور ثم رشيد ثم أبو قير، ثم الإسكندرية للاطمئنان على سلامة مواصلات الجيش الفرنسي ولصيانة المواقع المهمة، فهرَّب الأهالي الجمال والخيول حتى لا يستعين بها الفرنسيون وامتنعوا عن تزويد القوات الفرنسية بالماء والزاد، واستعدوا لمهاجمتها، واجتمع عدد كبير من رجال البحيرة، وتربصوا بالفرقة ثم هاجموها في مواقع مختلفة، وأطلقوا عليها الرصاص وشتتوا جموعها، وأنزلوا بها خسائر فادحة، ولقيت الكتيبة مشقة شديدة حيث قابلها الأهالي بمقاومة وبأس.

وفي دمنهور واجهت الكتيبة 6 آلاف مصري مجهزين للقتال غصت بهم الطرق والشوارع وأسطح المنازل، مما أجبر قائد الكتيبة على الانسحاب إلى بركة «غطاس» حيث تعرضوا لهجوم آخر في رشيد، فاضطرت للانسحاب إلى الإسكندرية منهوكة القوى، والمصريون من خلفها يطاردونها وينزلون بها الخسائر الفادحة.

وفي أغسطس من العام نفسه، تحرك جنرال آخر يدعى «لكليرك» من القاهرة متجها إلى بلبيس، فاحتل مناطق القبة والمطرية والمرج والخانكة وأبو زعبل، فتصدت له قوة من الفلاحين المسلحين بالبنادق والعصي، واستطاع الرجال أن يوقفوا تقدم الكتيبة، ثم أجبروها على الانسحاب إلى الخانكة، وبعد ذلك بدأوا في مطاردتها وتعقبها الأهالي وهاجموا المخافر الأمامية لمعسكر الخانكة، وانضم إليهم فرسان من العرب وحشد كبير من الفلاحين الذين كانوا يحملون الأسلحة الخفيفة، وأحاط الأهالي بالفرنسيين وأطلقوا عليهم النار، فأدرك الجنرال لكليرك الخطر، وخاصة أن أهالي قرية الخانكة، قد تجمعوا هم الآخرون وخرجوا يشدون من أزر أخوانهم فاستقر رأي الجنرال الفرنسي على إخلاء الخانكة وارتد فعلا إلى المطرية، ثم أخلاها إلى المرج.

وفي أوائل أكتوبر من العام نفسه، ظهرت بوادر الثورة في طنطا، إذ قرر أهلها الامتناع عن دفع الضرائب والغرامات التي تفرض عليهم، فأرسل نابليون كولونيل ألقى القبض على أربعة من أئمة السيد البدوي، ووضعهم في مركب يتجه إلى القاهرة، وكان من سوء حظ الفرنسيين أن الأهالي في طنطا  كانوا يحتفلون بمولد السيد البدوي، فلما أحسوا بما أقدم عليه الكولونيل الفرنسي هرعوا بالبنادق والحراب رافعين الرايات والبنادق، وانضمت إليهم حشود من أهالي البلاد المجاورة مما اضطر الكولونيل إلى الدفاع، وبعد معركة استمرت أربع ساعات استطاع الكولونيل أن يسحب معظم قواته بالسفن التي أقلعت وتركت المنطقة وترك الأسرى الأربعة للأهالي.

فرق مقاومة بالمنوفية

كان في قرية عشما بالمنوفية رجل مشهور من أعيان المنطقة يدعى «أبو شعير»، أعلن عداءه الواضح للفرنسيين، وأخذ يجمع الأهالي ليقاتل بهم الجنود الفرنسية، فسارت إليه حملة على رأسها الجنرال «لانوس» لقمعه.. حاول الجنرال في البداية أن يتفاهم معه إلا أن «أبو شعير» جمع رجاله وحصن القرية وأمد الفلاحين بالسلاح، وانتظر قدوم لانوس وعند وصوله فتحت عليه النيران، وبذل أبو شعير ورجاله جهدا كبيرا في مقاومة الفرنسيين الذين  استطاعوا أخيرا -استنادا إلى كثرة عددهم وسلاحهم – أن يقضوا على قوة أبو شعير وأن يقتلوه ويقبضوا على اثنين من أخوته وبعض أولاده وحاشيته ثم قتلوهم.

وفي دمياط والمنصورة، ظن جنرال آخر يدعى «فيال» كان قائدا للفرنسيين فى المديريتين أن الأمر قد استقر بدخوله مدينة المنصورة، لكن الأهالي تجمعوا ضده واتفق أهل القرى على الفتك بجنود الحامية.

وفي 10 أغسطس 1789، قامت  مدينة المنصورة كلها برجالها ونسائها ضد الفرنسيين وحاصروا معسكرهم وبدأوا في مهاجمته، وأشعلوا فيه النيران، فتركه الجنود وهربوا واتجهوا إلى السفن في النيل يبغون الفرار، وحالت الحشود بينهم وبين ركوب النيل، فعادوا إلى البر وسلكوا طريق دمياط، إلا أن الثوار قطعوا عليهم الطريق وقتلوهم جميعا إلا ثلاثة جرح واحد منهم وأسر اثنان.

الوجه القبلي.. العدو الشرس

حوادث القتال في الوجه القبلي تؤكد أيضا أن الصعايدة لم يستكينوا  ولم يستسلموا -بمئات الشواهد والأمثلة- وأود التذكير هنا بأن  المملوكى مراد بك الذي كان يحكم مصر آنذاك، كان يفر من معركة إلى أخرى ولا يصمد في قتال أبدا، فمثلا عندما وصل الجيش الفرنسي إلى الفشن في بني سويف، تراجع مراد بك قبل أن يدركه الجيش، وظل الفرنسيون يتعقبونه ثلاثة أيام وهو ينتقل من قرية إلى قرية، وحين تقدمت القوات الفرنسية إلى أسيوط انسحب منها المماليك وعندما وصلت إلى «دنقيق» وطيبة لم تلق مقاومة، وعدما تتبع الجنرال فريان مراد بك إلى أرمنت بالأقصر تركها وفر إلى أقصى الجنوب، وظل ينسحب أمام الجيش الفرنسي دون أن يلتقي معه في معركة فاصلة.

طالما أن المماليك ومراد بك دأبوا على الفرار، فمن الذي قاوم؟

يظهر أن الوطنيين من الفلاحين والصعايدة وأهل البلاد جميعا قد تلبستهم روح المقاومة والاستبسال رغم ضعف المماليك، فلم يكن سكان القرى يتركون فرصة تمر دون أن يثوروا في وجه السلطات المحتلة، وقد ذكر مؤرخو الحملة الفرنسية أنفسهم أن المقاومة في الوجه القبلي كانت أشد عنفا من الوجه البحري، وكان الأهالي أعنف مقاومة وأكثر استبسالا، مما أصاب الفرنسيين بالإنهاك الشديد، فضلا عن صعوبة المواصلات وطبيعة بلاد الصعيد الصعبة الحارة.

يكتب الجنرال ديزيه مثلا في فبراير من عام 1799 وقد أحس بخطورة الاضطرابات في الصعيد وبعنف حركة المقاومة «إننا نسير بلا انقطاع وقد ساءت حالة الجنود في ملابسهم وأحذيتهم، وأن دعاة الثورة مثابرون على نشر دعايتهم».

كلهم يحملون السلاح

في الصعيد، حمل السلاح ضد الفرنسيين كل من شب على قدميه، الرجال والنساء والأطفال خرجوا من ديارهم وحقولهم متعاونين كتلة واحدة وقلبا واحدا، مما شكل خطرا حقيقيا على الفرنسيين، وفي ذلك يقول الجنرال دافو: «إننا نتعرض لأخطار كثيرة كلما أوغلنا في بلاد يحمل جميع أهلها السلاح» ومما هو جدير بالذكر أن النساء والأطفال من الرجال خاضوا غمار المعارك وأدركوا أهمية دورهم في النضال فأبوا إلا أن يسهموا في هذه المهمة، وفي هذا السياق أيضا يقول الجنرال بليار يصف موقفه من حركة المقاومة الشعبية «رأينا النساء ينشدن أناشيد الحرب ويحثون التراب في وجوهنا».

ومع بداية عام 1799 سرت روح الثورة المصرية في المدن الواقعة بين أسيوط وجرجا، وصارت هذه المنطقة شعلة من الهياج المستمر والصداع المزمن للفرنسيين، فقد تجمع  عدد كبير من أهالي ما يقرب من أربعين بلدا بلغ سبعة آلاف، وانضم إليهم بعض من أعوان مراد بك الذي استنجد بأشراف مكة وعرب ينبع وجدة وبعث برسله إلى النوبة يستفزون الناس لمقاومة الفرنسيين، وتصالح مع خصمه حسن بك الجداوي الذي كان مقيما في إسنا يوحد الجبهة ضد الفرنسيين، وتميزت الثورة في الصعيد بنطاقها الواسع ومداها البعيد.

وفي سوهاج التقى الجنرال دافو بـ 4 آلاف فلاح و700 فارس وأطلق عليهم نيرانا حامية رفعت عدد القتلى إلى 800. وظن الفرنسيون أن الثورة ستخمد لكن الواقع أن الأهالي احتشدوا مجددا على مقربة من أسيوط، وانضم إليهم مقاتلون كثيرون من المنيا وبني سويف والفيوم وكلف الجنرال دافو مواجهة هذه الجموع، فوصل في 8 يناير تجاه طهطا بسوهاج حيث التقى بنحو 800 فارس، إلا أن هؤلاء تقهقروا أمام القوة الفرنسية وأخلوا الطريق لها ثم زاد عددهم إلى نحو ألفين نتيجة للإمدادات التي وصلت إليهم، وهاجموا مؤخرة الجيش الفرنسي ودارت معركة عنيفة بين الطرفين وكانت الخسائر كبيرة فى الفريقين.

وهكذا دارت معارك كثيرة في جرجا وفيله وقنا أنهكت الجيوش الفرنسية لمدة 3 أعوام لم ير فيها الفرنسيون يوما راحة أو هدوءا.

مراجع:

ـ نابليون بونابرت في مصر. أحمد حافظ عوض.

ـ النضال الشعبي ضد الحملة الفرنسية. محمد فرج.

ـ كفاح الشعب المصري كما رواه الجبرتي. محمود الشرقاوي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock