إذا كان المسرح هو أبو الفنون، فإن الإخراج المسرحي هو عماد العمل المسرحي، ومركز الإبداع فيه، والمحقق الأهم للغاية الفنية من النص، والمسئول عن نجاح العمل بإنتاج الرؤى الجادة التي تستوفي العناصر الأساسية، وتصل بها إلى ذروة الإتقان.. وهذا بعض ما أرساه ودعا له «كرم مطاوع» (7 ديسمبر 1933 – 9 ديسمبر 1996 )، والذي يستحق بحق لقب فارس المسرح العربي وباعث التجديد فيه.
بعد عودته من إيطاليا حاملا درجة الدكتوراه في الإخراج المسرحي من الأكاديمية الوطنية للفنون الدرامية بروما، عمل “كرم مطاوع” بالتدريس بالمعهد العالي للفنون المسرحية، كما تولَّى منصب مدير مسرح الطليعة.. كان الواقع المسرحي في تلك الفترة شبه راكد يحتاج إلى من يحرك واقعه الآسن برؤى جديدة ومستحدثة تزيح عنه ركام القوالب القديمة، والأساليب التي إذا وصفناها بالبدائية لا نكون قد جاوزنا الإنصاف.. آمن «مطاوع» أنَّ دور المخرج لا يجب أن يقتصر على ترجمة النص، بل من المحتم أن يتعداه إلى إنتاج الرؤى التفسيرية الإبداعية، ومن ثم فإن علاقة المؤلف بالنص المسرحي يجب أن تنتهي بمجرد موافقته على تقديمه كعرض مسرحي.
استوعب «كرم» فنون المسرح الإيطالي على نحوٍ من التمكن المذهل، وأضاف إلى ذلك معرفة معمقة بمسارح عدد من البلدان الأوروبية مثل: فرنسا وألمانيا وإنجلترا.. لكنه كان واعيا لخصوصية المسرح العربي، وبالتحديد خلال تلك الفترة التي كانت تموج بالعديد من المتغيرات الاجتماعية والسياسية، كما أنَّ عينه لم تنصرف أبدا عن التراث التاريخي والمنجز الحضاري للأمة العربية، وفي القلب منها مصر؛ كلبنة قوية في بناء الفكر الإنساني المؤسس على العلم بفرضياته وتجاربه.
انشغل فناننا خلال فترة دراسته برصد التباينات بين الثقافتين العربية والغربية، وانعكاساتها على السلوك اليومي للناس خلال تفاعلهم مع الواقع بكل تفاصيله، وخَلُصَ الفنان إلى أنَّ دور المسرح يجب أن يمتد كمؤثر قوي وفاعل ومشتبك مع قضايا الجماهير، بالكشف وطرح الحلول لبناء الوعي؛ بعيدا عن المباشرة ومن خلال رؤى فنية مكتملة تقوم على الابتكار وكسر القوالب النمطية، باعتبار أنَّ أبا الفنون لابد أن يكونَ حائط الصد الأول أمام هجمات التطرف والتغريب والانهيار الأخلاقي التي استهدفت مجتمعاتنا العربية.
https://youtu.be/62XNlVrE6HE
نبوءة على خشبة المسرح
ولأنَّ «كرم مطاوع» كان يعتبر نفسه ابنا مخلصا لثورة يوليو؛ فقد آل على نفسه أن يقدمَ من خلال عمله المسرحي نقدا بناءً لها يُعدُّ بمثابة تصحيح من الداخل، وكانت مسرحيته الأولى «الفرافير» التي كتبها «يوسف إدريس» بقدر ما تحمل من رؤى التجديد المسرحي؛ تتناول بشيء من السخرية المقبولة شعارات من نوع «تصفية الطبقات المستغلة» و«إذابة الفوارق» وصولا إلى مواجهة الجماهير بأنَّ سادة جددا قد حلوا مكان السادة السابقين، بينما بقي «الفرافير» على حالهم.. وفي نفس العام 1964، أخرج «مطاوع» للمسرح القومي «مذكرات محتال» عن نص للكاتب الروسي «ألكسندر أوستروفسكي». ومسرحية «ياسين وبهية» من تأليف «نجيب سرور».
وفي مسرحية «الفتى مهران» لـ «عبد الرحمن الشرقاوي» استطاع «مطاوع» الوصول إلى أقصى درجات التفاعل الجماهيري مع «المونولوجات» الشعرية على لسان بطل العمل، وقد استخدم مخرجنا الرمزية الشفافة للإشارة إلى أمور بعينها كـ «حل الأحزاب السياسية» ومصادرة الحق في الاختلاف والمشاركة، والدخول في حرب اليمن، والتحذير من موجة النفاق التي يركبها مجموعة من الوصوليين، لحجب الحقائق وعزل الحاكم عن الشعب، وتنبأت المسرحية التي قدمها «مطاوع» عام 1966، بأن كارثةً ما توشك أن تحدثَ لو لم ننتبه إلى هذه المؤشرات الخطرة.
ورغم وقوع الكارثة في يونيو1967، إلا أنَّ الفتى «كرم» لم ييأس واستمر يقدم من خلال أعماله تساؤلات عن الأسباب الحقيقية للهزيمة، مطالبا بالصمود والمقاومة وتصحيح المسار حتى يتحقق النصر.. وقد تقبَّل النظام السياسي تلك الآراء التي طرحها «مطاوع» وغيره من المبدعين مثل: «ألفريد فرج» و«ميخائيل رومان» و«سعد الدين وهبة» وغيرهم.. إلا أنَّ الاستفادة منها لم توضع موضع التنفيذ، ورغم ذلك استمر «كرم» في تقديم الأعمال التي تحمل نقدا بناءً نذكر منها: دنيا البيانولا – اليهودي التائه – السؤال – أوديب – هاملت – خشب الورد – وطني عكا – ليلة مصرع جيفارا – يا بهية وخبرينى – شهرزاد – كوابيس في الكواليس.
فى حضرة سيد درويش
يذكر أن الفنان «كرم مطاوع» قدم أول أعماله السينمائية عام 1966، عن سيرة وحياة فنان الشعب «سيد درويش» من إخراج «أحمد بدرخان» وقد كان أداؤه لشخصية «درويش» بالغ الروعة والتمكن، إذ اهتم بالتفاصيل الدقيقة للشخصية، بعد أن جمعته جلسات مطولة بمعاصري الشيخ «سيد»، خاصة الفنان «حامد مرسي» الذي كان يكتب «النوتة» الموسيقية لـ «درويش».. وفي العام التالي شارك «كرم» بالبطولة في فيلم «إضراب الشحاتين» قصة «إحسان عبد القدوس» ومن إخراج «حسن الإمام» ويروي الفيلم جانبا من كفاح الشعب المصري ضد الاحتلال البريطاني في أعقاب ثورة 1919، حيث يضطر الشاب الثوري «حسنين» الذي لعب دوره «مطاوع» إلى الولوج إلى عالم المتسولين، وتقع في حبه المتسولة «شَكَل» –قامت بالدور «لبنى عبد العزيز»- وتتغير بفعل الحب، فتساعده في النضال من أجل التحرر من الاحتلال البغيض.. بعد هذا الفيلم انقطع «كرم مطاوع» عن السينما لنحو عقدين من الزمان.
مرارة
وخلال عام 1972، حاول «مطاوع» إخراج مسرحية «ثأر الله» من تأليف عبد الرحمن الشرقاوي التى كتبها في جزأين هما «الحسين ثائرا» و«الحسين شهيدا» وتمت البروفات، وقد أسند «كرم» دور الإمام الحسين لـ «عبد الله غيث» ودور السيدة زينب لـ «أمينة رزق» لكنَّ الأزهر اعترض على العرض بحجة أنَّه لا يجوز تصوير آل البيت على خشبة المسرح، واستجاب «مطاوع» وأجرى التعديلات بحيث يصبح دور الحسين من خلال الرواية عنه، لكن الأزهر لم يوافق على ذلك الحل أيضا، ورأى مسئولوه وقتها أنَّ العمل سيُحدث فتنةً بين السنة والشيعة، وهو ما ترك غصةً ومرارةً كبيرة لدى «كرم» ظل يتذكرها إلى آخر أيامه..
ويشير الكاتب «صلاح عيسى» إلى أنَّ هذه المرحلة الفنية بالغة الثراء في مسيرة «كرم مطاوع» انتهت بشكل طبيعي عام 1974، عندما قام فناننا ببطولة مسرحية «جواز على ورق طلاق» التي كتبها «ألفريد فرج» ليعلن من خلالها أنَّ «الأسياد لا يمكن إلا أن يكونوا أسيادا وأنَّ زواجهم من الفرافير هو بحكم طبائع الأمور وضع مؤقت ومزيف ويخلو من الحب الحقيقي إذ هو زواج على ورق طلاق»..
سفر
بعد هذه المسرحية غادر «كرم» البلاد متوجها إلى الجزائر للتدريس بالمعهد الوطني للفنون الدرامية ببرج الكيفان، وربما أوعز إليه أحدهم أن لا دور له في المرحلة الجديدة، وأنَّه لم يعد مرغوبا فيه.
ويضيف عيسى أنَّ حالة الابتعاد والعزلة تلك قد عمَّت أرجاء الوطن العربي خلال العقد التالي، فخرست الألسنة المطالبة بالحرية والوحدة والاشتراكية، وأصبحت الدعوة لاسترداد فلسطين إرهابا، ومحاباة العدو الصهيوني فرضا، وفشل الهجوم على ثورة يوليو ليس لأنها لم تكن ثورة كما ادعوا، بل لأنها كانت ثورة تسامحت مع أعدائها أكثر بكثير مما يجب.
وخلال أواخر عقد السبعينات انتقل مخرجنا إلى الكويت للعمل بالتدريس في معهد الفنون المسرحية، كما قدم في تليفزيون الكويت برنامجا بعنوان «عندما يرتفع الستار» شاركه في تقديمه الدكتور «علي الراعي».
فى أسر المقاولات
وعندما عاد كرم مطاوع إلى أرض الوطن في أوائل الثمانينات كانت موجة أفلام المقاولات والأفلام التجارية قد بلغت ذروتها، وقد شارك «مطاوع» في عدد منها مثل: «أنا والعذاب وهواك»، «امرأة للأسف»، «المشاغبات الثلاث»، «مصرع الذئاب»، «خطة الشيطان»، «الذكاء المدمر»، «لحظة خطر»، «احتيال»، «معركة النقيب نادية»، «ترويض الرجل».. وغيرها، وكانت آخر أعماله السينمائية فيلم «المنسي» من إخراج «شريف عرفه» عام 1993.
لكن الفنان «كرم مطاوع» عوَّض هذه الأخطاء السينمائية بعدد من الأعمال الدرامية التليفزيونية الرائعة مثل: «لا تطفئ الشمس» و«الصبر في الملاحات» و«الأنصار» و«امرأة وثلاثة وجوه» «الصمت» و«أرابيسك» و «أبو البنات» و«برديس» و«الحرملك» و«بلاغ من النائب العام» و«بين الحقيقة والخيال» و«الطریق إلی القدس» و«جوارى بلا قيود» و«ناس ولاد ناس» و«سبعة وجوه للحقيقة» و«الآنسة كاف» و«أبدأ لم يكن حبا».. وغيرها،
ٍكما استمر عطاؤه المسرحي ليتجاوز حاجز الستين عملا منها «حدث في أكتوبر» و«النسر الأحمر» و«إيزيس».. وكان آخرها مسرحية «ديوان البقر» التي تناول من خلالها «قضية الإرهاب وكيفية تغيير عقول الشباب، وبث الأفكار الهدامة والتشاؤمية وكراهية المجتمع من جانب الجماعات الإرهابية وتنامى الفاشية الدينية».
ولاشك أن اسم الفنان «كرم مطاوع» سيظل متوهجا لأمد بعيد في تاريخ مسيرة الفن المسرحي المصري والعربي بعد أن أسهم بجهد لا ينكر في التأصيل لذلك الفن باعتباره تجسيدا للوضع الإنساني، وإبداعه حيا ليكون محرضا على التساؤل وداعيا إلى الاستمتاع بالكشف عن الجمال أينما وجد.