رؤى

من الترمذي إلى ابن عربي.. الختم.. المقام الذي حيَّر الأولياء

كان المتصوفة حتى نهاية القرن الثالث الهجرى يوجهون جل جهدهم نحو الزهد وتربية النفس ورياضتها ومحاسبتها وغيرها من الإعدادات الروحية، فلم يكون التصوف العرفاني أو الفلسفي قد ظهر بعد. إلا أن باب الولاية والعرفان قد فتحا على مصراعيهما بقدوم «أبو عبدالله محمد بن الحسن» أو الحسين بن بشر الملقب بالحكيم الترمذي، والذي وُلد في أواخر القرن الثالث للهجرة وتوفي في أواخره في مدينة ترمذ على نهر جيحون في إقليم ما وراء النهر. وهو صاحب واحدة من أقدم السير الذاتية التي تحكي لنا تجربته الشخصية في التدرج في منازل السائرين حتى وصل إلى أعلى مقامات الولاية بشكل ربما لم يناظره فيه سوى محي الدين بن عربي الذي سيأتي بعده بعدة قرون.

على غير المعهود صنف الحكيم الترمذي رسالة أسماها (بدو شأن أبى عبدالله) ويقصد من هذا العنوان الإشارة إلى بدايته مع الولاية، وهي تشبه ذلك النوع من السير الذاتية الذي نجده في اعترافات القديس أوغسطين. غير أن الترمذي لم يكن في حاجة للاعتراف، فوفقا لهذه الرسالة فقد قيض الله له منذ الثامنة من حمله على حب علم الآثار وعلم الرأي، وقد وجد ف ذلك عوضا عما استهوى من هم في مثل سنه من حب المرح واللعب، ثم خرج إلى البصرة والكوفة طلبا للعلم والمعرفة، ثم في السابعة والعشرين وضع الله في قلبه حب زيارة بيته الحرام فخرج في هذه الرحلة التي أكثر فيها الدعاء بأن يفتح الله عليه، وأن يُطهّر قلبه فما عاد إلا وقد أتم حفظ كتاب الله في طريق العودة، ووجد حلاوته ومالت نفسه إلى من يساعده على تطهير قلبه ورياضة نفسه التي حرمها حتى شرب الماء البارد، وتورع عن شرب ماء الأنهار خوفا من أن يكون ماؤه قد مر على موضع بغير حق، ووقع في يديه كتاب (الأنطاكي)، كما وقع في قلبه حب الخلوة والخروج إلى الصحراء.

رؤى غرائبية

في تلك المرحلة خالط الترمذي بعض العارفين وتسامروا معا، فقص عليهم بعضا من شأنه، فحاصرته الفتن وطاردته الاتهامات بإدعاء النبوة وغيرها مما لم يخطر له بال، ووشوا به إلى والي بلخ بأن هناك من يتكلم في الحب، فأمره والي بلخ بألا يتكلم في الحب ثانية، ثم كان فتح عظيم عليه إذ وقعت الفتن، فطُرد كثير ممن خاضوا في حقه، بينما بقي بعضهم يقف على بابه يطلب العلم والحديث إلى الناس.

 إلا أنه في هذه الرسالة سيبدأ الحكيم الترمذي قص عدد من الرؤى الغرائبية بحيث تطوى دوائر الأزمنة وتتقلص مسافات الأمكنة وترفع من أمام ناظريه الحجب، ويظهر في أحاديثه بعض الاصطلاحات التي كانت حتى ذلك الحين غريبة على المتصوفة أنفسهم أو أنهم تورعوا عن استخدامها، ففي واحدة من رؤياه وقد كانت برفقته أخته رأى أنهما جلسا معا يأكلان من عناقيد عنب متدلية، يحادثهم أحد ملائكة السماء، ثم يوجه الكلام إلى الأخت الصغرى التي تنقل كلماتها إلى أخيها (أنت وتد من أتاد الأرض، تمسك طائفة من الأرض، فأقول من أنت؟ فيقول. محمد وأحمد. وهذا عيسى)، فمنذ هذا التاريخ بدا الحديث مستساغا عن مراتب، ودرجات للولاية لم تكن معروفة (كالأوتاد، والأبدال، والنقباء، والنجباء)، ولم يكن لأي من تلك التسميات أصول في القرآن والسنة باستثناء حديث (الأبدال بالشام) الذي رفع إلى علي بن أبي طالب، وقد علق عليه ابن تيمية بكونه حديث مقطوع.

غير أن الرؤى التي قدمها الحكيم الترمذي تحمل قدرا من الخيال المتراتب والمتسق في صياغة نسق ونظرية متكاملة في الولاية، ربما لم يسبقه إليها أحد، ولم يناظره فيها سوى الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى في الفتوحات التى أعقبت زيارته لمكة أيضا فيما عرف بـ (الفتوحات المكية).

الولي الخاتم!

غير أن الأهم في تلك المسألة هو ما أثاره الحكيم الترمذي بحديثه عن مقام للولاية هو مقام (الختم)، وهي درجة للولاية لا ينالها إلا فرد واحد. ففي معرض حديثه عن الولاية والتمييز بين أولياء الله وأولياء حق الله، تحدث الترمذي عن مقام الختم ثم طرح مائة وثمانية وخمسين سؤالا قال إنه لا يستطيع الإجابة عنها سوى من حاز مقام ودرجة الولي الخاتم، وهي لا تعني من تتوقف عنده الولاية زمنيا، كما تتوقف النبوة عند النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما المقصود بها من نال الحد الأقصى من الولاية والقرب.

وإذا كان الحكيم الترمذي قد طرح أسئلته في القرن الثالث الهجري، وهي أسئلة من قبيل، صف لنا منازل الأولياء إذا استفرغوا مجهود الصدق؟، كم عدد منازلهم؟، وأين منازل أهل القربة؟ وأين الذين جاوزوا العساكر؟ وبأي شىء تجاوزوها؟ وإلى أين منتهاهم؟ وغير ذلك من الأسئلة الغرائبية والتي وصلت إلى المائة وثمانية وخمسين سؤالا متحديا أن يجد من يجيب على أسئلته، فقد بقيت هذه الأسئلة لا تجد من يتصدى للإجابة عنها، حتى جاء الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي ليفرد لها رسالة بعنوان (الجواب المستقيم فيما سأل عنه الترمذي الحكيم) والتي جائت ضمن مصنفه الفتوحات المكية، كما صنف مؤلفه (عنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب) معلنا عن حيازته لمقام ختم الأولياء، الطريف أن هذه الدرجة من الولاية ظلت محل تطلع و إدعاء من قبل الأولياء جيلا بعد جيل حتى وقتنا الراهن، ففي ترجمته للعارف بالله السيد محمد وفا وهو من أقطاب مدرسة أبو الحسن الشاذلي يقول صاحب الطبقات الكبرى عبدالوهاب الشعراني (كان من أكابر العارفين، وأخبر ولده سيدي علي رضى الله عنه، أنه هو خاتم الأولياء، صاحب الرتبة العالية)، كما كان الشيخ عبدالغني النابلسي وهو أحد أهم شراح ابن عربي في القرن الثامن عشر الميلادي ممن ادعوا حيازتهم على مقام الختم، كما ينسب أتباع الطريقة التيجانية المعاصرون إلى شيخهم أبى العباس أحمد بن محمد بن المختار التيجاني المولود بالجزائر سنة (1150هـ) حيازته على مقام الختمية، ورغم ذلك فإننا لا نملك إجابات واضحة ومباشرة على أسئلة الحكيم الترمذي سوى تلك التي قدمها الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في مطلع القرن السابع الهجري.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock