منوعات

حين سكتت «أمينة هانم» عن الكلام بعد مذبحة القلعة

«القلب يحب مرة ميحبش مرتين».. لم أجد غير تلك الأغنية التي غنتها أيقونة الغناء المصري شادية، من كلمات فتحي قورة ولحن منير مراد، كمدخل لهذا الموضوع الذي يبدو فيه أن قلب العاشق كان هو الأرض التي كانت تقام عليها المبارزات والغزوات والفتوحات، وتندلع منها الحروب وتتحقق الإنتصارات.. والقلب المتيم العاشق هو الذى يحب مرة واحدة فيكون محبوبه هو كل حياته ودنياه وملاذه وأمنياته..

هكذا كان  قلب «محمد علي باشا» مؤسس مصر الحديثة، تجاه محبوبته وزوجته الأولي أمينة هانم النصرتلي، غير أن محمد علي، الذى لم يحب سوى زوجته أمينة هانم، رغم أنه كان له عدد كبير من الجوارى.. فكيف حدث ذلك؟

 تقول الأوراق الرسمية إن محمد علي كانت له زوجتان، الأولى هي أمينة هانم والتي رزق منها بخمسة أبناء، أما زوجته  الثانية فهي الأميرة «ماه دوران» هانم، ولم يرزق منها بأولاد، وتزوجها بعد رحيل زوجته، ومالكة قلبه أمينة هانم. وكان له 11  جارية معروفة، لكن المؤكد إنه كان له الكثير من النساء اللاتي لم تذكرهن تلك السجلات، وإن كانت بعض المصادر تذكر أنهن وصلن إلى 27 جارية، وكان له من هذا الجيش من النساء جيش آخر من الآبناء يصل عددهم إلى 30 ابنًا، منهم 17 ولدًا و13 بنتًا.

أمينة هانم

السيدة الأولى

شهريار الذى هو هنا محمد علي، و رغم نسائه أو حريمه الكثر، لم تسكن قلبه إلا واحدة كما أشرنا وهي أمينة هانم، تلك  أرّقت نومه، وهي التى كان يعشقها، والتي كانت تحكي الحكايات كشهرزاد تماما. لكنها ذات يوم سكتت عن الكلام المباح وتوقفت عن الحكي، في غضب وثورة لم يستطع أمامها  الباشا أن يفعل أي شيء.

 استطاعت أمينة هانم أن تستأثر بحب محمد علي، وملكت كل شغاف قلبه، ناهيك على إنها كانت الوحيدة التي ظلت تصده وتتصدى له بل وتعنفه بسبب تصرفاته.

إذ يروى كثير من المؤرخين أنها كانت سيدة عظيمة حقًا، معتزة بنفسها في كبرياء، تجمع بين حضارة الشرق التركي والبهاء الأوربي، جريئة في حواراتها معه، ولا تخشي مصارحته برأيها، وكانت هي الوحيدة التي تمتلك الجرأة علي مواجهته بأخطائه.

تزوج محمد علي من «أمينة هانم النصرتلى» قبل بلوغه العشرين من عمره، وقد كانت سيدة ثرية، وعندما الخدمة ترك الجهادية، انتقل الى منطقة نصرتلي مسقط رأس زوجته، حيث دخل عالم التجارة واهتم بتجارة التبغ والدخان وكانت تجارته رائجة جدًا.

ويذكر أنه التقي بها في أرض الحجاز، قد أعجبت به فطلب يدها للزواج، وذكر أنها سافرت إلى بلاد الحجاز لأداء فريضة الحج، وزارت الروضة النبوية في المدينة المنورة، ثم نزلت في جدة ومنها سارت إلى مكة المكرمة في موكب يتكون من 500 جمل تحمل خدمها ومتاعها، حيث التقت بزوجها محمد علي باشا. وقد لقبها أهل الحجاز بـ «ملكة النيل» لجلال موكبها وعظمة الحرس، الذي كان يحرسها وفخامة الخيمة.

وهناك الكثير من الحكايات التي تروى عن أمينة هانم، منها أن محمد علي منذ مجيئه لمصر نهاية أيام الحملة الفرنسية عام 1801 وإلى أن أمسك زمام الحكم في عام 1805 لم ير زوجته، بل استمر ذلك حتى مجيئها مصر عام 1808، وخلال ثلاث سنوات من 1805 وحتى 1808 طلب منها محمد على- بعد أن أصبح والي مصر – أن تسافر إلى اسطنبول لتتعلم آداب المجتمع الراقي استعدادا لمقابلة السلطان العثماني كزوجة والي مصر.

ملكة القصر

سافرت أمينة هانم إلى اسطنبول ومكثت بها فترة طويلة وكان برفقتها أبناؤها «توحيدة وإسماعيل ونازلي»، وبقى فى مصر إبراهيم وأخوه طوسون. ورغم قلقها لتأخر عودتها إلى مصر، وخوفها من أن يكون محمد علي قد تزوج عليها، إلا إنها في اسطنبول كانت تحضر المناسبات والاستقبالات والاحتفالات الكثيرة وكانت تتعلم كل شيء عن أسرار وقواعد المعيشة في البلاط الملكي.

وفي اسطنبول التقت أمينة هانم بالسلطان سليم الثالث، ولم تدم المقابلة طويلا، حيث كان يريد أن يطمئن عليها وعلى أولادها وعن سفرها إلى مصر، وماذا تتوقعه هناك. ثم التقت في قصر الحريم بالوالدة – وهي والده السلطان – وتعلمت منها أول دروس اللياقة الملكية، وهي أنه أيا كانت مشاعر سيدة القصر فابتسامتها الدائمة سمة ملكية لا يجب أن تفارقها وترحابها بضيوفها واجب قومي.

اخيرًا عادت أمينة هانم إلى مصر، يمتليء قلبها بالشوق الكبير لزوجها، فاستقبلها محمد علي بترحاب شديد. وعندما انصرف الحرس والوصيفات وانفردت بزوجها أخبرته بأن عليه أن يختار بأن تكون هي زوجته وملكة قلبه إذا سارت حياتهما كما كانت، وألا يتزوج عليها، حيث إنها ترفض أن تتقاسم زوجها مع الجواري، وأن تكون هى فقط ملكة قصره وأن تمارس دور السيدة الأولي، وتمثل دور زوجته أمام الناس إذا تزوج عليها. وقد كانت عند كلمتها حتى وفاتها.

أم إبراهيم باشا

 أنجبت أمينة هانم لمحمد علي خمسة من البنين والبنات، ثلاثة أولاد وبنتين، هم الأمير إبراهيم باشا الذي خلف والده عام 1848 وتوفي قبل رحيل والده بشهور، ثم الأمير طوسون باشا، والثالث الأمير اسماعيل كامل باشا، ثم الأميرة توحيدة هانم والتي تزوجت من «محرم بك» والذي سمى باسمه حى محرم بك الشهير بالأسكندرية، حيث كان محافظا للجيزة ثم للاسكندرية حينها، ثم أميرالاي للأسطول المصري، والابنة الثانية كانت الأميرة نازلي والتي تزوجت محمد بك الدفتردار.

لم يكن محمد علي يعلم ما ستجلبه عليه الأيام، فرغم أن الحياة سارت سعيدة على بين الزوجين، إلا أنه وفي عام 1811 انقلبت الدنيا داخل القلب وفي غرف القصر وعلى أرض الوطن.

لم يكن قد مر  وقتها على وجود أمينة في القصر بجوار زوجها محمد علي إلا أقل من أربع سنوات فقط، عندما حدثت مذبحة القلعة، تلك المذبحة التي ستظل علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث.

إبراهيم باشا، طوسون باشا

وصمتت شهرزاد

دعا محمد على لاجتماع مهم أكبر رموز ووجهاء المماليك في مصر للتشاور في أمر التخلص من الوهابيين في جزيرة العرب، وتكريم الجيش الذاهب لقتالهم بقيادة ابنه إبراهيم، ومن ثم خرج محمد علي في موكب التوديع ومن ورائه قادة المماليك بكامل زينتهم، ثم أمر بإغلاق أبواب القلعة عليهم  وإمطارهم بطلقات الرصاص، التي حصدت المئات منهم في مذبحة مروعة.

من المؤكد أن أمينة هانم سمعت استغاثات القتلي في المذبحة مثلما سمعها محمد علي وهو جالس في غرفته بالقلعة، وبالتأكيد لم يكن أحد يتصور ما حدث وبشاعته.فيذكر أن أصوات الاستغاثات و الصراخ كانت تملأ الاجواء و تنشر حالة من الفزع أشبة بيوم القيامة، حتي أن محمد علي باشا نفسه أصابه الرعب عند سماعه لاستغاثات امراء المماليك.

فمثلا يروى أن سليمان بك البواب كبير المماليك جرى ناحية بيت الحريم يستغيث بهن و هو مصاب رغم ما في ذلك من مهانة، لكن الجنود لاحقوه بسيف و جزوا رقبته. بينما جري آخر يستغيث بإبراهيم باشا لأنه صديقه، لكن ذلك لم يشفع له و جز الجنود رقبته.

في نهاية اليوم  الدامي كان الجنود قد جمعوا 500 رأس و وضعوها في كومة عند قدمي محمد علي باشا الجالس علي أريكته في قاعة الاستقبال. لكن الوحيدة التي كرهت ما جرى كانت أمينة هانم زوجة الباشا، والتي اصيبت بحالة من الهلع الشديد و حرّمت نفسها علي زوجها بسبب تلك الواقعة.

بعد تلك الحادثة، لم تنطق شفاه أمينة هانم بكلمة واحدة تجاه محمد علي، ولم تنصت أذنها لأي رجاء أو توسل من ناحيته كي تعود إلى فراشه. أغلقت ملكة النيل أو شهرزاد قلبها بعد تلك المجزرة أو المذبحة والتي حدثت يوم جمعة عند باب العزب، حيث أطلق المصريون بعد المذبحة أسم «الدرب الأحمر» على الحارة المقابلة لباب العزب بعد أن سالت فيها دماء المماليك.

كانت الحالة النفسية التي دخلت فيها أمينة هانم بعد تلك المذبحة، فارقة في حياة محمد علي نفسه، فحبها في قلبه يؤرقه ويمزق احشاءه، لكنه في المقابل الرجل الكبير الذي يخشاه الجميع، وظل والى مصر القوى حزينا كسيرا لجفاء زوجته ومحبوبته. لكن أمينة هانم التي توقف قلبها عن حب محمد على لزمت الصمت واشتد حزنها، ظلت كذلك حتى رحلت عن الدنيا عام 1824، حيث دفنت بمدافن الإمام الشافعي..

وبعد رحيلها أطلق محمد علي العنان لحياة جديدة مع النساء، ففتح باب الجواري على مصراعيه، وتزوج مرة ثانية، لكنها كانت حياة بلا حب وبلا قلب. فالمؤكد أنه خلال فترة حكمه الطويلة والتي بلغت 43 عاما (من 1805 إلى 1848)، حفلت بالمؤامرات والمعارك والفتوحات، لم يكن قلب هذا الرجل القوي ليرق إلا لواحدة فقط هي «أمينة هانم» تلك التي توقفت في نهار يوم مذبحة القلعة عن الحكي، وتوقف قلبها ايضا عن النبض وان ظل جسدها يتحرك بين أروقة قصر قاد دولة عظيمة هي مصر

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker