فن

سعاد حسني.. فراشة أحرقتها الأحزان (1)

عاش الكاتب الصحفي الكبير عبد النور خليل حياته بين الفنانين، مستشارًا أو صديقًا، وفي الحالتين حرص الرجل على تنقية ثوبه من الشوائب فلم يُعرف عنه حب الغيبة أو النميمة، فأستحق عن جدارة لقب مؤرخ الفنانين. وقد ربطته بالسندريلا سعاد حسني رابطة صداقة متينة للغاية تواصلت منذ عرفها في منتصف الخمسينات حتى رحيلها الملغز في العام 2001.

وبعد رحيل سعاد كتب عبد النور كتابه «سعاد حسني.. ضحية اغتالها المثقفون»، والذي أعتمد فيه على تاريخ صحبته لسعاد، ثم على معرفته الوثيقة بآل حسني وبعضهم عمل معه في دار الهلال التي كان عبد النور من قياداتها.

 العجيب أن كتاب عبد النور الذي نفدت طبعته الأولى فور ظهورها، لكن لم يقدم أحد على إعادة طبعه مجددا، فأصبح نادرًا لا يعرف به كثيرون رغم التفرد الذي تناول به حياة سعاد.

سأعتمد في تناولي للكتاب على مصادر إضافية وذلك لرسم صورة أكثر وضوحًا لسيدة كانت تملأ الدنيا وتشغل الناس، وظني إنها ما زالت كذلك.

بداية المأساة

هل لا يكون الفنان فنانًا إلا إذا ضربتْ مأساة ما قلبه؟.. السيدة آمال العمدة وكانت إعلامية متميزة قدمت للإذاعة برنامجًا شهيرًا تحت عنوان «عقدتي» كان ضيوفها فوق الحصر، وباحوا جميعًا بـ «عقدة» ما فجّرت بداخلهم ينابيع الفن.

أما عقدة سعاد أو مأساتها التي ستكون مأساة آل حسني جميعًا، فكانت هي شخص الوالد محمد حسني البابا. كان الرجل فنان خط عربي لا يُشق له غبار، جاء من سوريا إلى مصر في العام 1912 فتربع على عرش فن الخط العربي، ولم يكن له من منافس سوى الأستاذ محمد إبراهيم كاظم والد الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم .

 حسني البابا كان مزواجًا مطلاقًا كثير العيال بطريقة مرعبة، وكان من أخلاقه العجيبة عدم الاهتمام بأولاده فهو يهبهم للحياة، ولم يحدث مرة واحدة أن حرص على تعليم أولاده ولو مبادئ القراءة والكتابة، وليس بين أولاده إلا ولد واحد تلقى تعليمًا منتظمًا، أما الباقون فعلموا أنفسهم بأنفسهم في ظروف شاقة جدًا.

أولاد وبنات حسني البابا جميعًا كانوا فنانين بالفطرة، تقول الأستاذة رحاب خالد كاتبة سيرة الفنانة «نجاة» في كتابها «نجاة الصغيرة»: «كانت نجاة شأن الأطفال تغنى دائمًا فى بيت أبيها، وذات مرة أنصت إليها شقيقها عز الدين، فوجدها لا تخرج عن اللحن الذى تترنم به. عز الدين هذا هو الوحيد بين آل حسنى الذى عرف التعليم النظامي فالتحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية وأصبح فيما بعد ملحنًا يشار إليه بالبنان. وإلى جانب عز كان هناك سامي محمد حسنى يجيد العزف على الكمان والرق، ومعه فاروق يعزف على القانون والعود ويجيد الرسم، ومعهما سميرة تجيد العزف على القانون والعود والكمنجة، ومن هؤلاء جميعًا وبقيادة الكبير عز تألف أول تخت للمطربة نجاة الصغيرة».

في بيت الفن الفوضوي هذا ولدت سعاد في يناير من العام 1942، ومثل أخوتها لم تذهب سعاد إلى المدرسة أو حتى إلى الكُتّاب، فالأب لا يؤمن بقيمة التعليم. فقدت سعاد حضن الأب في سن مبكرة جدا، فهو حاضر بجسده فقط، أما روحه واهتمامه فلا وجود لهما.

كان افتقادها لحضور الأب هو بداية دوامات من الحزن الثقيل القاسي الذي لم تجد سعاد منه نجاة، حتى وهي تتصنع الفرح والانطلاق بقدرة تمثيلية عالية جدًا، تجعل من ينظر إليها يظنها منعمة لم تعرف البؤس قط.

حصلت أمها على الطلاق لتتزوج من ناظر مدرسة ابتدائية هو عبد المنعم حافظ، الذي كان محبًا للفن وحريصًا على حضور محاضرات في التذوق الموسيقى كان يلقيها الفنان الكبير عبد الرحمن الخميسى. الأم زادت طينة المأساة بلة عندما راحت تلد لزوجها الجديد مولودًا كل عام حتى بلغ عدد أولادها من الزيجتين سبعة عشر ولدًا وبنتًا. هذا التكوين الأسري العجيب هو ما سيجعل من سعاد طفلة لا تنضج أبدًا، فهى دائمًا تبحث عن الاهتمام وعن دفء وحضور الأب.

سعاد حسني، وعبد الرحمن الخميسي

مكتشفو سعاد

لم تكن سعاد طفلة كغيرها من الأطفال، شيء ما في تكوينها كان يغري الفنانين بأن يلتفتوا إليها، وقد حدث ان ألتقط هذا الشيء الملحن والشاعر أحمد خيرت، الذي كان زوجًا لسميحة أخت سعاد، وكان خيرت يتعاون مع الإذاعي العملاق بابا شارو صاحب أعظم وأشهر برنامج قدمته الإذاعة المصرية للأطفال.

قدم خيرت سعاد الطفلة لبابا شارو فغنت في برنامج كلمات كأنها تخبر عن مستقبل حياتها، تقول كلمات الأغنية: «طولي شبر .. وجهي بدر.. صوتي سحر.. كلي بشر». ثم غنت أغنيتها الشهيرة «أنا سعاد أخت القمر بين العباد حسني أشتهر».

لكن مرحلة بابا شارو انتهت سريعا لتعود سعاد إلى الظل، لكن دائمًا هناك ضوء في آخر النفق، وقد كان زوج الأم الأستاذ عبد المنعم حافظ هو ذلك الضوء، نعم هو لم يعلم سعاد ولم يلحقها بمدرسة، لكنه كان يمتلك جهاز راديو ستتعلم سعاد من برامجه وأغنياته ومسلسلاته الكثير.

سعاد حسني، وبابا شارو

كان عبد المنعم حافظ يعرف الشاعر الكاتب عبد الرحمن الخميسى وحدث أن ألتقي به صدفة ليطرق الحظ باب سعاد. يروى لنا الكاتب أحمد الخميسى تلك الواقعة النادرة فيقول: «كنت أسير ذات يوم مع والدى الشاعر الفنان عبد الرحمن الخميسى، وكان يسكن فى عمارة فى نهاية شارع الجمهورية قرب قصر عابدين، وكنا عائدين من مشوار حين استوقفنا شخص فى الشارع وذكّر والدى باسمه وبأنه كان ممن يستمعون إلى محاضراته عن التذوق الموسيقى فى «جماعة الجرامفون» بكلية الآداب».

يضيف أحمد الخميسي: «تذكره والدى.. هذا كان عبد المنعم حافظ الذى اتضح أنه زوج الست جوهرة والدة سعاد حسنى. دعانا الرجل إلى الغداء فى بيته مع أسرته فى حى الفوالة القريب، دخلنا عمارة متواضعة ثم شقة بسيطة الأثاث. وعرفنا عبد المنعم حافظ بزوجته الست «جوهرة» والدة سعاد. جلسنا وأكلنا ثم ظهرت سعاد ونحن نوشك على الانصراف. دخلت بصينية شاى صغيرة، نحيفة، خجولة. ابتسمت ووضعت الصينية وجلست ولم تنطق بحرف. فقط كانت تنظر إلينا. تأملها والدى طويلا لا أعرف لماذا ثم قال: هذه البنت نجمة..كنت معتادا على أن والدى مجامل فسألته فى الشارع بعد انصرافنا: أكنت تقصد بالفعل ما قلته من أن هذه البنت نجمة؟ أم هى مجاملة منك؟.. توقف وتنهد بعمق قائلا: لا والله يا إبنى. إنها نجمة. نجمة كبيرة».

أحمد الخميسي

حتى الآن ثلاثة اكتشفوا نجومية سعاد، وهم أحمد خيرت وبابا شارو والخميسى، ثم جاء الرابع وهو المخرج الكبير أحمد بدرخان. يروى الأستاذ عبد النور خليل تلك الواقعة فيقول: كانت نجاة قد اعتادت أن تصطحب سعاد الى الإستديو إذا كانت تمثل فيلما وذهبت معها سعاد وهى تقوم بدور البطولة فى فيلم يخرجه أحمد بدرخان هو: «غريبة» وكان النجم أحمد مظهر يشارك نجاة بطولة الفيلم المسمى باسم أغنية لحنها عبد الوهاب لنجاة يقول مطلعها «أما غريبة» توقف أحمد بدرخان طويلا أمام وجه الشابه الصغيرة سعاد حسنى وهى فى الإستديو بصحبة بطلته نجاة وعندما عرف أنها أختها قال لنجاة: أريد ان يظهر هذا الوجه الطعم التقاطيع فى الفيلم وصورها فى لقطة واحدة دون أن تنطق حرفا أى «كومبارس» ولم يكن يدرى أن سينتج ويخرج لها أحد أفلامه وهو فيلم «نادية» عن قصة يوسف السباعى بل لم يكن يدرك ولا يعلم أنها ستنضم إلى أسرته ذات يوم زوجة لابنه وامتداده فى السينما المصرية علي بدرخان».

أما المكتشف الخامس فكان ضابط الجيش الفنان جمال الليثي وعنه يقول عبد النور: «رأى جمال الليثى سعاد تجلس بجوار شقيقها عز الدين حسنى فى سيارته الصغيرة وكان عز الدين يعمل عازفا فى الفرق التى أحيت حفلات الأندلس احتفالا بالثورة، وكان جمال يعمل فى إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة تحت قيادة قائد الجناح وجيه أباظة وسأل جمال: مين البنت الحلوة اللى جنبك دى يا عز؟ وأجاب عز الدين: «دى أختى الصغيرة سعاد» وطلب منه جمال الليثى أن يحضرها معه إلى مكتبه ليجرى لها اختبارا سينمائيا ولكن هذا الاختبار لم يحدث».

لكن هذه التقلبات التي مرت بها مسيرة سعاد حسني الأولى ستنتهي على يد عبد الرحمن الخميسي الذي كان مؤمنًا بأن سعاد استثنائية منذ شاهدها لأول مرة. يقول عبد النور عن ذلك: «كوّن الخميسي فرقة مسرحية، وقام بتمصير رائعة شكسبير «هاملت» وجعل عنوانها «نجفة بولاق» و أراد الخميسى أن تكون سعاد هى بطلة المسرحية مؤدية دور «أوفيليا»، لكن سعاد بكت لأنها لا تستطيع أن تفهم أو تستوعب دورها، فحرمانها من التعليم النظامي المنتظم جعلها أمية، تستطيع الحفظ فقط».

من حسن حظ سعاد ان فرقة الخميسي أفلست فأغلقت أبوابها، لكن إيمان الخميسي بموهبة سعاد لم يتزحزح، فعهد إلى الفنانين إبراهيم سعفان وإنعام سالوسة بتعليمها القراءة والكتابة وتدريبها على الإلقاء والتمثيل. على يد سعفان وإنعام ستكتسب سعاد المزيد من ثقتها بنفسها، فهى الآن أصبحت تعرف مبادئ القراءة والكتابة مع تمتعها بقدرة خارقة على الحفظ.

إبراهيم سعفان، إنعام سالوسة

ضربة بركات

كان عبد النور قريبًا جدًا من الخميسي ورأى بعينيه كم كان متعلقًا بسعاد ومؤمنًا بموهبتها، فعندما فكّر في تحويل مسلسله الإذاعي «حسن ونعيمة» إلى فيلم سينمائي قرر أن تكون سعاد ابنة السابعة عشرة هى البطلة، وقد وافق هنري بركات المخرج الشهير الخميسي على رأيه. الوجهان الجديدان سعاد حسني ومحرم فؤاد هما بطلا الفيلم، لكن منتج الفيلم الموسيقار محمد عبد الوهاب تخوّف من فشل الوجهين وتكبيده خسائر مالية فادحة، إلا أن إصرار الخميسي وبركات جعل عبد الوهاب يوافق على مضض.

في ذلك العام 1958 تقرّبت سعاد من عبد النور الذي أصبح يلازمها لكي يرشدها إلى ما لا تعرف، سعاد الآن عرفت الكثير، فقد بدأت تتذوق الشعر وكثيرًا ما سمعها عبد النور تنشد لصلاح عبد الصبور: «إن أتيت الروض يومًا لا تلمنى فأنا أهوى الضياء».

من الأمية الكاملة إلى شعر عبد الصبور رحلة شاقة قطعتها سعاد حسني بعزيمة من حديد. ومع تلك العزيمة على تعويض ما فات، كان للأمر وجه آخر يرويه عبد النور فيقول: «ثلاثة من أبناء محافظة الشرقية كانوا قريبين من بعضهم البعض، وهم عبد الحليم حافظ وصلاح عبد الصبور ومرسي جميل عزيز، والثلاثة كانوا أصدقاء لعبد النور وللخميسي، ومن خلالهما عرفت سعاد الثلاثة وأصبحت متيمة بفنان عصره عبد الحليم الذي كان يشعر تجاهها بمسئولية ما، حتى أنه جاء لها بشقة في حي الزمالك لكي تنجو من زحام بيت أمها، ومن خلال عبد الحليم عرفت سعاد شعر صلاح عبد الصبور وتقربت من الشاعر الذي كان حكيمًا في التعامل مع فتاة فنانة مراهقة، فوضع علاقته بها في إطار الملهمة الساحرة ولا شيء آخر».

نجح فيلم بركات والخميس وسعاد «حسن ونعيمة» نجاحًا ساحقًا، وأخيرًا عرفت سعاد طعم النجاح والشهرة ولكن كان للقدر رأي آخر.

حزن جديد

كانت لسعاد شقيقة هى صباح، التي لها الوجه الجميل والحضور الفاتن، وكثيرون قالوا إن صباح متى عرفت طريق الفن ستنافس سعاد ونجاة، وقد كانت صباح رفيقة سعاد وراعيتها، وكانت كما يروى عبد النور في كتابه: «أطول قامة وأكثر سمرة من سعاد، لكنها كانت تتمتع أيضاً بطعامة الملامح، ودائما وأبدا تحتل عيون صباح نظرة حزن دفين، وكانت قليلة الحديث لا تسترسل فيه، بل تجيب باقتضاب واختصار ثم تنصرف لشأن من شئون البيت، وكنت دائما ألمح نظرة الحزن العميقة فى عينيها وأشاهد على وجهها علامات انكسار كنت أفسره عادة بأنها دائما فى الظل بجوار شقيقة مشهورة تنطلق إلى قمة المجد كالصاروخ، وكم سعدت ذات يوم وهى تخبرنى برنة فرح فى صوتها أنها قد خُطبت لشاب جاد ناجح من قطرعربى، على أن هذه الفرحة خُنقت بقسوة وقُضى عليها عندما كانت مسافرة رفقة خطيبها فى سيارته إلى الإسكندرية وتعرضا لحادثة ولقيا مصرعهما».. وبرحيل الشقيقة الصديقة ستدخل سعادة مرحلة جديدة من الأحزان.

(يتبع)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock