انتهت حلقات مسلسل «ممالك النار» قبل أيام، ومع ذلك لايزال الجدل قائما على مواقع التواصل الاجتماعي حول ما اعتبره البعض أخطاء تاريخية سقط فيها مؤلف العمل محمد سليمان عبدالمالك، فالأحداث التي رصدها مؤرخون عاصروا تلك الحقبة في تاريخ مصر أو آخرون معاصرون حققوا وقائعها في أزمنة لاحقة كشفت اختلافات كبيرة بين ما جاء في سياق العمل الدرامي وبين الوقائع التي وردت في مصادر تاريخية معتبرة.
مؤلف «ممالك النار» برر في مقابلة مع وكالة رويترز الخلاف بين الوقائع التاريخية وما جاء في سياق عمله قائلا: «كنت أتوقع من البداية وحتى قبل عرض المسلسل أن يثار حوله الجدل على مستويات متعددة منها نقطة صحة الوقائع التاريخية ودقتها، لكن ما أؤكد عليه هو أن العمل الدرامي التاريخي دوره ليس توثيق التاريخ بقدر ما هو محفز على التفكير والبحث وإعادة قراءة الأحداث».
محمد سليمان عبدالمالك
ويرى عبد المالك أن حالة البحث التي انطلقت على الانترنت وفي الكتب عن شخصيات المسلسل ووقائعه هي حالة إيجابية جدا، «الدراما التاريخية لا تدون التاريخ لأن هذا عمل المؤرخين، ودور الكاتب الدرامي هو قراءة التاريخ وفهم ما بين السطور ونقل هذه القراءة والرؤية للجمهور من خلال عمله».
وحرص عبد المالك على توضيح مصادر توثيق عمله «تحرينا الدقة التامة فيما يتعلق بسرد الأحداث وكانت جميع الحلقات تعرض على مراجع تاريخي متخصص هو الدكتور محمد صبري الدالي»، مشددا على أن الدقة التاريخية في «ممالك النار» تتجاوز 100 بالمئة.
محمد صبري الدالي
وأشار عبد المالك إلى أنه اعتمد في كتابة عمله على مرجعين أساسيين :الأول كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» للمؤرخ ابن إياس، والثاني «واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني» للمؤرخ ابن زنبل الرمال، اللذين «كُتبا أثناء الاحتلال العثماني لمصر ومؤلفاهما كانا شاهدي عيان على الأحداث، إضافة لمراجع تركية وإنجليزية وعربية».
وقائع لم ترد في «ممالك النار»
كلام عبد المالك عن تجاوز الدقة التاريخية لـ«ممالك النار» نسبة 100 بالمئة، حديث تنقصه الدقة، فالحلقة الأخيرة من المسلسل فقط والتي جسد فيها الممثل خالد النبوي مشهد نهاية السلطان طومان باي آخر سلاطين المماليك وشنقه على باب زويلة، تجعل كلام المؤلف محل شكوك، وتفتح الباب أمام التشكيك في وقائع آخرى وردت في العمل الدرامي.
فما يذكره المؤرخ المصري ابن زنبل الرمال، في كتابه «انفصال دولة الأوان واتصال دولة بني عثمان»- الذي رصد فيه زوال دولة المماليك وبداية حكم العثمانيين لمصر- أن طومان باي فر إلى الصعيد واجتمع حوله هناك كثير من الجنود وأبناء صعيد مصر، ليلتقي جيشه مع الجيش العثماني مجددا بعد موقعة الريدانية قرب الجيزة، وهي الموقعة التي لم ترد في سياق العمل الدرامي.
وعن تلك الموقعة قال المؤرخ المصري محمد بن إياس الحنفي، في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور»: بلغت قوات كل من سليم وطومان باي الجيزة لتندلع المعركة الأخيرة التي كانت الغلبة في أولها للمماليك لكنهم انهاروا أمام ضربات العثمانيين الذين أمطروا الجند المماليك بوابل من رصاص بنادقهم، فكانت الهزيمة وفرار طومان باي إلى البحيرة.
وفي البحيرة التقى طومان باي بزعيم العربان حسن بن مرعي وأقسم الأخير على الولاء للسلطان، ومع ذلك خانه ودل عليه بعد أن وعده العثمانيون بزعامة عربان مصر، فقُبض على طومان باي واقتادوه إلى معسكرهم في إمبابة.
وفي معسكر إمبابة دار بين سليم الأول وطومان باي حوار، برر فيه الأخير هزيمته وذكر خيانة خاير بك وجان بردي الغزالي والتي لولاها ما تمكن العثمانيون من احتلال مصر «الأنفس التي تربت على العز لا تقبل الـذل، وهل سمعت أن الأسد یخضع للذئب، لا أنتم أفرس منا ولا أشجع» ،فأعجب سليم بشجاعة وفروسية أسيره، وقال فيه «واالله مثل هذا الرجل لا یُقتل ولكن أخروه في الترسیم حتى ننظر بأمره».
ولأن الخيانة كانت تجري في بعض أمراء المماليك مجرى الدم في العروق، خشى كل من خاير بك وجان بردي الغزالي من بقاء طومان باي حيا، فبقاؤه يعني استمرار المقاومة ، بل واحتمال عودته إلى الحكم ،وهو ما يعني أيضا نهايتهما، فألحا على السلطان سليم بقتله، فاقتنع وأصدر قراره بإعدامه.
أمر سليم بأن يعبروا بآخر سلاطين المماليك شوارع القاهرة، «قيدوه وأركبوه على بغلة، وساروا في شوراع المحروسة حتى وصلوا به إلى باب زويلة»، وهناك رأى طومان باي الحبال تتدلى فعلم أنه مشنوق.
على باب زويلة
يصف المؤرخ ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» مشهد الشنق فيقول: «كان الناس في القاهرة قد خرجوا ليلقوا نظرة الوداع على سلطان مصر.. وتطلع طومان باي إلى قبو البوابة فرأى حبلاً يتدلى، فأدرك أن نهايته قد حانت.. فترجّل.. وتقدم نحو الباب بخطى ثابتة.. ثم توقف وتلفت إلى الناس الذين احتشدوا من حول باب زويلة.. وطلب منهم أن يقرأوا له الفاتحة ثلاث مرات، ثم قرأها معهم وقال للجلاد: «اعمل شغلك»، فشنقوه بعد أن انقطع حبل مشنقته مرتين».
ويضيف ابن إياس :«فلما شنق وطلعت روحه صرخ عليه الناس صرخة عظيمة وكثر الحزن والأسف عليه»، مشيرا إلى أن طومان باي ظل ثلاثة أيام معلقا على باب زويلة حتى جافت رائحته، وفي اليوم الثالث أنزلوه وأحضروا له تابوتا ووضعوه فيه، وتوجهوا به إلى مدرسة السلطان الغوري عمه، فغسلوه وكفنوه وصلّوا عليه هناك، ودفنوه في الحوش الذي خلف المدرسة،ومضت أخباره كأنه لم يكن.
ويصف ابن إياس طومان باي بأنه كان بطلا شجاعا تصدى لقتال ابن عثمان وثبت وقت الحرب بنفسه، وفتك في عسكر ابن عثمان وقتل منهم ما لا يحصى وكسرهم ثلاث مرات، وهو في نفر قليل من عسكره، رفض أن يظلم أو يفرض مظالم.
وقال في رثائه أبياتا منها:
لهفي على سلطان مصر كيف قد.. ولى وزال كأنه لن يذكرا
شـنقوه ظلما فوق باب زويلة.. ولقد أذاقوه الوبال الأكبرا
ويصف ابن زنبل الرمال يوم شنق طومان باي بأنه أشأم الأيام على أهل المملكة «”بكت عليه الأرامل والأيتام».
هوامش المقريزي
وفي رواية ليست ببعيدة أوردها الأستاذ صلاح عيسى في كتابه «هوامش المقريزي.. حكايات من مصر»، قال فيها: إنه عندما وقع طومان باي في أيدي السفاحين الأتراك أعجب السلطان سليم العثماني بشجاعته، ولم يكن في نيته قتله، وعندما وردت الأخبار إلى القاهرة بوقوع السلطان أسيرا في يد الغزاة لم يصدق الشعب ذلك ،فسرت الإشاعات بأنه مازال هاربا ويستعد للمقاومة، واستفزت الاشاعة السلطان العثماني الذي سارع بإعلان وقوع طومان باي في الأسر ليمنع المصريين من التكتل والتجمع للحرب ضد الغزو، وأمر بأن يمر السلطان الأسير في شوارع القاهرة راكبا حمارا صغيرا وبالملابس نفسها التي كان يرتديها عندما وقع في الأسر.
وفي تلك الأثناء أشيع أن الغازي العثماني نوى نفي طومان باي إلى مكة وليس في نيته قتله، لكنه عدل عن فكرته، بعد أن شعر بأن بقاء طومان باي حيا سيستفز الرغبة في المقاومة لدى المصريين ويدفعهم للتجمع والتربص بالغزاة،: «كان يريد أن تستسلم كل رموز المقاومة لكي يفقد الشعب القدرة عليها نهائيا، وهكذا تقرر أن يُعدم طومان باي ويمر موكب السلطان الشاب في شوارع القاهرة، وعلى طول الطريق كان يسلم على الناس».
سُلم طومان باى إلى على باشا دلقدار أوغلو ليعدمه على باب زويلة، وكان المماليك قد أعدموا شهسوار بك والد على باشا دلقدار أوغلو قبل 40 سنة (1472م) على نفس هذا الباب لصداقته مع العثمانيين، وذلك حتى لا يرق قلب شانقه وينفذ مهمته بمنتهى القوة وكأنه يأخذ ثأر أبيه.
وعندما وصل طومان باي إلى باب زويلة أنزلوه عن دابته وأرْخوا له الحبال ووقف حوله الجنود العثمانيون بالسيوف المسلولة ولما تحقق أنه سوف يشنق وقف على أقدامه على باب زويلة، وقال للناس الذين حوله «أقرأوا لي الفاتحة ثلاث مرات.. ثم بسط يديه وقرأ الفاتحة ثلاث مرات وقرأت الناس معه وبهدوء قال للسياف «أعمل شغلك».
وضعوا الخية على رقبة طومان باي، لكن الحبل انقطع به ثلاث مرات، فسقط على باب زويلة، فلما شنق وطلعت روحه، صرخت عليه الناس صرخة عظيمة، وكثر عليه الحزن والأسف، فقد كان شابا حسن الشكل كريم الأخلاق، لم يتجاوز الرابعة والأربعين من عمره.
بين التوبة والخيانة
ويسترجع عيسى كيف نصب الأمراء والأهالي طومان باي سلطانا على مصر فيقول: «عندما قتل السلطان قنصوه الغوري وهزم جيشه في مرج دابق،عادت إلى القاهرة فلول أمراء الجيش المهزوم، وكان طومان باي حينها نائبا للسلطان، فأمر بحبس الخونة والجبناء الذين فروا في موقعة «مرج دابق» وتركوا الغوري حتى دهسته سنابك الخيل.وطالبه العائدون بتولي السلطنة فرفض، وألحوا عليه فرفض، فذهبوا معه إلى العارف بالله الشيخ أبو السعود وعرضوا عليه الأمر، وقالوا إن السلطان الغوري قد مات،ونصف السلطنة قد وقع في أيدي الغزاة، ولا يمكن أن تظل البلاد بلا سلطان،وطومان باي يرفض السلطنة، فدعاهم الشيخ إلى القسم على المصحف بأنهم إذا سلطنوه لا يخونونه ولا يغدرونه ولا يخامون عليه فحلفوا على ذلك.
واشترط الشيخ ابو السعود ألا يعودوا إلى ما كانوا عليه من ظلم وأن يبطلوا جميع ما أحدثه الغوري من مظالم، وأن يلغوا عددا من الضرائب غير الضرورية، وختم حديثه لهم بقوله: «إن الله تعالى ما كسركم وذلكم، وسلط عليكم ابن عثمان، إلا بدعاء الخلق عليكم في البر والبحر».
صاح الأمراء: «تبنا إلى الله تعالى من اليوم عن الظلم»، وانفض المجلس، لكن الظلم لم ينفض، بحسب ما أورد صلاح عيسى في «هوامش المقريزي».
تولى طومان باي السلطنة حاول أن يبر بقسمه، إلا أن أمراء المماليك عادوا إلى سيرتهم في الظلم والغدر، فحق عليهم قول ابن إياس عندما فتك الطاعون بهم وبالمصريين فتابوا ولما انحسر عنهم عادوا إلى ما كانوا عليه فقال فيهم:
قد قلت للطعن والمماليك .. جاوزتما الحد في النكاية
فترفقاً بالورى قليلا .. في واحد منكما كفاية
غروب دولة المماليك
وبحسب المؤرخين فإن تشييع جثمان طومان باي كان لا مثيل له لدرجة أنه لو كان مات وهو على العرش لما أقيم له مثله «حضر مراسم تشييع الجثمان الرسمي رجال كثيرون من العثمانيين والمماليك معا، ووزع السلطان سليم الأول على الفقراء تطييبا لروحه، النقود الذهبية لمدة 3 أيام».
ويقول ابن إياس أنه «باستشهاد طومان باي غربت شمس دولة المماليك وخيم الحزن على البلاد والعباد وتحولت مصر من دولة كبيرة ذات سيادة كاملة تحكم الشرق، إلى ولاية تابعة للخلافة العثمانية».