يلاحظ المتتبع لتاريخ ونشأة الجامعات المصرية أن هناك حالة من التواصل والاتصال بين نشأة وتطور تلك الجامعات وبين تطور التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي لمصر. فميلاد «الجامعة المصرية» كجامعة أهلية في (21 ديسمبر 1908)، والتي عرفت فيما بعد باسم «جامعة القاهرة» اقترن بأكثر اللحظات التاريخية في مصر زخما بالنضال والكفاح الوطنى من أجل الاستقلال.
فميلاد هذه الجامعة جاء مصاحبا لاشتعال جذوة الحركة الوطنية، لاسيما في أعقاب حادثة دنشواي (1906)، حين أطلق الزعيم مصطفى كامل صيحته المدوية بصحيفة «المؤيد» بالدعوة لجمع التبرعات لإنشاء «جامعة مصرية» تهدف إلى العمل على النهوض بالمجتمع المصري في شتى المجالات. تلك الدعوة التي استجاب لها رجال الفكر والثقافة وزعماء الحركة الوطنية أمثال سعد زغلول وقاسم أمين ومحمد فريد وأحمد لطفي السيد وغيرهم. كانت مصر في تلك اللحظة التاريخية تعاني من وطأة الإحتلال البريطاني وآثار الركود الإقتصادي العالمي (1907)، لكن ذلك لم يمنع المجتمع الأهلي في مصر من الحماس الشديد لفكرة انشاء «الجامعة المصرية».
عبر سلسلة من المقالات سنتتبع تاريخ نشأة وتطور الجامعات المصرية وعلاقتها بتطور التاريخ السياسي والإجتماعي والثقافي في مصر عبر ما يزيد عن قرن من الزمان، ومن ثم نطرح تساؤلات عديدة حول مسار التحول في طبيعة الجامعات المصرية من مؤسسة أهلية في البداية إلى مؤسسات حكومية تشرف عليها الدولة؟ وكيف لعبت الجامعات المصرية دورا في حركة الإستقلال الوطني؟، وكيف تفاعلت واشتبكت مع أهم اللحظات والأحداث التاريخية التي مرت بها مصر منذ تأسيس «الجامعة المصرية» (1908) وصولا للحظة الراهنة؟ وكيف تأثر في المقابل مسار الجامعات المصرية بمجمل الأحداث التي مرت بها مصر عبر تاريخها الممتد؟، ومن هم أبرز رواد التنوير الذين اقترن دورهم بالجامعات المصرية؟، و ما هى أبرز القضايا التي خاضتها الجامعات؟ وإلى أي مدى كان لتلك القضايا حضورها على الساحة العامة المصرية؟ وكيف تبدو طبيعة العلاقة التي باتت تربط الجامعات بالمجتمع المصري؟.
جامعة القاهرة أثناء افتتاح الملك فؤاد لها
بذور النشأة الأولى
مخطىء من يتصور أن نشأة الجامعات المصرية قد ارتبطت بتأسيس الجامعة المصرية (1908) فقط، ذلك أن بذور تلك النشأة قد غُرست في عهد محمد على (1805- 1848)، حيث كان التعليم في مصر لقرون عدة يعتمد اعتمادا كليا على ما عُرف بنظام الكتاتيب والمدارس الملحقة بالمساجد بالقرى والمدن، إلى جانب التعليم الأزهري، حتى جاء محمد على باشا ليضع أسسا لمنظومة تعليم جديدة لم تشهدها مصر من قبل.
وقد كانت الكليات التي ضمتها «الجامعة المصرية»، التي أعيدت تسميتها عام 1940 فأصبحت جامعة فؤاد الأول، ثم أصبحت «جامعة القاهرة» عقب ثورة يوليو (1952)، بمثابة امتداد لعدد من المدارس التي كانت قد أنشئت منذ بداية عهد محمد علي وما تلاه خلال القرن التاسع عشر. مثال: مدرسة المهندسخانة التي تأسست (1816) ومدرسة الطب التي تأسست (1827) ومعها مدرسة الطب البيطري التي تأسست بذات العام، وتبعتها مدرسة الصيدلة (1829)، فمدرسة الزراعة التي تأسست (1833)، ومدرسة التجارة التي تأسست (1837) ومدرسة الحقوق التي تأسست (1868) وكانت آخرهذه المدارس مدرسة دار العلوم التي تأسست (1872).
يربط المؤرخون لنظام التعليم في عهد محمد علي باشا نشأة منظومة التعليم في عهده سنة (1811) بمشروعه الحربي والنهضوي الذي سعى إليه في أعقاب مذبحة القلعة، واحتياجه لإعداد كوادر من الموظفين لإدارة دواوين الحكومة، وعدد من المترجمين وغيرها من التخصصات اللازمة لتأسيس جيش حربي قوي.
وقد اعتمدت منظومة محمد علي التعليمية على عمل تلك اللجان التي طافت البلاد بحثا عن أبرز تلاميذ الكتاتيب بالقرى والمدن إلى جانب أبرز طلاب الأزهر الذين تم إلحاقهم بالمدارس الحديثة، التي أفاد منها عدد غير قليل عبر إلتحاقهم بالبعثات العلمية للخارج، والتي التي أوفدها والى مصر إلى فرنسا. غير أن هذا الحال لم يدم كثيرا، فمع إبرام التسوية «المصرية العثمانية» التي عقدت سنة (1841م) تم إنقاص وتقييد وتحجيم الجيش المصرى، ما دفع محمد علي إلى اتخاذ قرار بتسريح عدد كبير من الجنود والضباط، ومن ثم كانت هناك ضرورة لإعادة النظر في المنظومة التعليمية، فتم إلغاء أغلب المدارس الإبتدائية وتخفيض عدد تلاميذ المدارس الخصوصية «العليا» بما يتناسب مع حاجة الدولة من خريجين، مع تخفيض مخصصات التلاميذ والمدرسين من الأموال على حد سواء.
لكن عهد الخديوي إسماعيل (1863- 1879) شهد عودة مرة أخرى لإحياء منظومة التعليم بعد أن كانت قد تآكلت خلال عهد كل من عباس الأول ومحمد سعيد باشا، خاصة مع تولى علي باشا مبارك (ديوان المدارس) سنة (1868)، حيث جمع عددا من المدارس الخصوصية «العليا» بسراي درب الجماميز فكادت بذلك أن تتهيأ الفرصة لقيام جامعة مصرية، إذ حقق التواجد المكاني المتجاور لتلك المدارس «العليا» نوعا من التواصل العلمي بين الأساتذة والطلاب بعضهم ببعض بمختلف التخصصات. غير أن الأزمة المالية التي عانت منها مصر أواخر عصر إسماعيل والتدخل الأجنبي قد أديا إلى تصفية المشروع النهضوي الذي كانت بوادره قد لاحت آنذاك.
ومع بداية عهد الإحتلال البريطاني لمصر (1882) اقتصر التعليم على أبناء القادرين الذين يمكنهم دفع مصروفات التعليم، وذلك على عكس ما كان متبعا منذ عهد محمد علي وحتى عهد إسماعيل، ذلك أن التعليم المجاني كان متاحا لذوي الكفاءات وليس لأبناء الطبقة الإجتماعية التي تمتلك المال فقط، وارتكزت سياسة التعليم على مدى إحتياج سلطة الاحتلال لصغار الموظفين والكوادر الفنية البسيطة.
وفي ظل الاحتلال لم يقتصر الأمر على قصر التعليم على من يملكون تكلفته فقط، بل وصل مع سيطرة سلطة الإحتلال البريطاني على منظومة التعليم، أن تم الحد من البعثات العلمية للخارج وباتت تلك البعثات تتجه بالطبع إلى بريطانيا بدلا من فرنسا ومن ثم ارتبطت منظومة التعليم بفرض اللغة الإنجليزية وحصر الإعتماد على اللغة الفرنسية. في المقابل تعالت صيحات قادة الحركة الوطنية بضرورة تعريب التعليم في مصر.. وفى خضم تلك الأجواء المشحونة بالغضب ورفض الإستعمار انطلقت الدعوة لتأسيس «الجامعة المصرية.
الجامعة المصرية.. أهلية النشأة
مع بدايات القرن الماضي سعت النخبة الوطنية المصرية إلى تأسيس «الجامعة المصرية» كخطوة أولى نحو تحديث الوطن، قد تبنت هذه النخبة فكرة إنشاء «جامعة» لكل فئات المجتمع، ذلك أنهم رأوا أنه لا سبيل إلى تحقيق الإستقلال الوطني دون تعليم وطني مستقل. وكان من بين هؤلاء «جرجي زيدان» الذي نادى على صفحات مجلة «الهلال» «بإنشاء كلية لتثقيف الشباب المصريين بدلا من إرسالهم للتعليم بأوروبا»، كما دعم الشيخ محمد عبده فكرة إنشاء جامعة «علمانية» على الرغم من كونه أزهري الإنتماء.
غير أن الدعوة لتأسيس «الجامعة المصرية» لم تحظ بدعم كبير إلا مع نجاح مصطفى كامل في حملته ضد الإنجليز ردا على «حادثة دنشواي» (1906)، حيث بادر في أعقابها بإطلاق دعوته بضرورة بدء «مشروع إكتتاب عام» تشارك فيه كل فئات الشعب، وهى الدعوة التي تبنتها كافة الصحف المصرية على إختلافها.
وقد تحمس سعد زغلول لتأسيس الجامعة، كما لعب قاسم أمين دورا بارزا داخل اللجنة التي تم تأسيسها للإشراف على عملية «الإكتتاب»، ومن ثم الإشراف على تأسيس «الجامعة المصرية»، وفي هذا الإطار دعا قاسم أمين إلى أن تكون الجامعة بمثابة خطوة أولى نحو إطلاق «ثورة» في مجال اللغة والأدب. غير أن الدعوة لتأسيس «الجامعة المصرية» قوبلت بالرفض الشديد من قبل سلطة الإحتلال البريطاني ممثلة في «اللورد كرومر» الذي أعلن أن «مشروع الجامعة سابق لأوانه وأنه يحتاج لمزيد من التدقيق».
«الجامعة المصرية» كانت «أهلية» بالمعنى الحقيقي للكلمة حيث ساهم في تأسيسها كل فئات الشعب المصري، بداية من الفقراء الذين تبرع كل منهم «بعشرة ملاليم» وصولا لمن تبرعوا بمبالغ مالية كبيرة، ومن خصص مساحات من الأرض الزراعية كوقف للإنفاق على الجامعة. وكان من بينهم الأميرة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل التي تبرعت إلى جانب الأرض بمجوهراتها لصالح بناء الجامعة، حتى أن كلية الآداب مازلت تحتفظ بلوحة كتب عليها «ذكرى عطرة للأميرة فاطمة إسماعيل التي أسهمت في بناء هذه الكلية».
في الحلقات القادمة: رحلة تأسيس الجامعات المصرية وأبرز روادها وعلاقتها بالتاريخ الإجتماعي لمصر وطبيعة القضايا الإجتماعية والثقافية التي خاضتها تلك الجامعات وأبرز العلماء والمفكرين الذين تخرجوا من كل جامعة.
(يتبع)