هناك قاعدة فنية فى مصر والعالم العربى مفادها أن الممثل كلما كبر فى السن أصبح مثل خيل الحكومة، يتجاهله الجميع ويتم الاستغناء عن خدماته، ويعيش على الهامش فى انتظار رصاصة الرحمة، لكن الفنان القدير محمود المليجى استطاع بموهبته العبقرية، وإبداعه التمثيلى المتجدد أن يكسر هذه القاعدة فاستمر يعمل فى الفن حتى آخر نفس. وحتى فاضت روحه فى بلاتوه التصوير وهو يجهز نفسه لأداء دوره فى آخر أعماله «أيوب» مع النجم عمر الشريف، ليظل المليجى حالة خاصة جدا فى تاريخ الفن المصرى.
https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/858463934597112/?t=135
وسام الوطنية
هناك اختلاف على تاريخ ميلاد المليجي، ولكن الراجح أنه من مواليد 1910 وبالتحديد في 22 ديسمبر، والده كان تاجر خيول في حي المغربلين وتأثر المليجى به كثيرا. وقد كان كغيره من شباب وفتيان تلك الأيام مفعما بالحس الوطنى، فشارك مع الطلبة فى ثورة 1919 وأصيب بطلق ناري وهو في التاسعة من عمره، وفرح به والده فرحا شديدا واعتبر أن هذا وسام على صدر ولده.وقد ظهر اسم محمود المليجي في الصحف عام 1930 قبل أن يظهر كممثل حيث كان واحدا من المعتقلين في مظاهرات الاحتجاج على دستور إسماعيل صدقي.
الأب الذي توفيت ابنته الكبرى في سن مبكرة ركز اهتمامه وحنانه على ابنه محمود، ورأى أن تعليمه الموسيقى سيساعده على تجاوز حزنه لوفاة أخته. وقد أخذ الابن ذلك الاقتراح على محمل الجد حتى أنه ذهب إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب مدرس الموسيقى بمدارس القاهرة في ذلك الوقت كي يُسمعه صوته، لكن عبد الوهاب صدمه بعد أن سمعه يغنى وقال له بالحرف الواحد: «انت صوتك نشاز مينفعش حتى تتكلم مش تغني».
اتجه المليجى بعدها للعزف وتعلم آلة الكمان، لكن في أحد اختباراته مع بديعة مصابني قطع وترا من أوتار الآلة من شدة عصبيته، فقامت بديعة بطرده، فترك المليجي الفن واتجه للرياضة حيث تدرب على الملاكمة وحصل على بطولة المدرسة في الملاكمة، وشعر أن مستقبله في تلك اللعبة، لكن حين شارك في مسابقة المنطقة التعليمية جاءته ضربة كانت سببا في خسارته للبطولة واللعبة إلى الأبد.
نقطة تحول
موقف إنساني صعب ربما كان هو الذى غيّر حياة محمود المليجى ليصبح هذا الممثل العملاق. فحين التحق بمدرسة الخديوية الثانوية، دخل فصل الموهوبين «أبناء الذوات».. وفى أول يوم جاء موعد وجبة الغذاء ففوجىءالمليجي بأن مع كل طالب وجبة خاصة به جاءته مع السفرجي، واكتشف أن جميع زملائه من الأغنياء ووحده ابن الأفندي الذى كان عليه أن يتناول وجبته المدرسية. وفى تصرف أحمق قام زملاؤه بجمع وجباتهم المدرسية التى لا يأكلونها ووضعوها أمامه، فشعر بنوع من المهانة وغضب وقام بضربهم ،فقام ناظر المدرسة بحرمانه من وجبته المدرسية لمدة أسبوع، وحين حكى المليجى ما حدث بالضبط للناظر تأثر كثيرا ودعاه إلى بيته وأصر على أن يأكل معه على السفرة، ومن وقتها أصبح ناظر المدرسة الداعم الأول للمليجي في بداية التحاقه بالتمثيل.
انضم المليجي لفريق التمثيل بالمدرسة تحت إشراف المخرج والممثل «عزيز عيد»، وبعد أول تدريب نصحه الأخير بأن يبحث لنفسه عن عمل آخر غير التمثيل، فتأثر المليجي وتوجه إلى فناء المدرسة وانخرط فى البكاء حتى جاءه أحد زملائه يخبره أن عزيز عيد مقتنع جدا بموهبته لكنه تخوف من أن يغتر بنفسه، وشارك المليجي في مسرحية «الدهب» وفي يوم عرض المسرحية حضرت العرض «فاطمة رشدي» زوجة عزيز عيد وشريكته المسرحية، فأعجبت بأداء المليجي وطلبت انضمامه للفرقة الخاصة بها وخصصت له راتبا 4 جنيهات شهريا.
وفي عام 1927 أعلنت الرائدة السينمائية عزيزة أمير عن حاجتها لوجوه جديدة لفيلمها «نداء الله» الذي أصبح بعد ذلك «ليلى»، فشارك المليجى في هذا الفيلم كـ «كومبارس صامت» وأستمر بعدها لفترة طويلة محصورا في أدوار الكومبارس الصامت وأدوار الخدم، حتى عام 1933 حين شارك في فيلم «الزواج» الذي ألفته وأنتجته وأخرجته «فاطمة رشدي» ولعب فيه دور ابن عمها أحمد، وتم تصوير أجزاء من هذا الفيلم في باريس. واستمر المليجي في فترة البحث عن تحقيق ذاته في التمثيل إلى أن وجد ضالته في الفرقة المسرحية القومية التي أسستها الدولة بعد ذلك، وكان من نجومها أنور وجدي وحسن فايق وزكي رستم وعباس فارس وحسين رياض إلى جانب جورج أبيض. وقد قدم المليجي مع هذه الفرقة العديد من المسرحيات المتنوعة والمهمة التي أشبع من خلالها حبه لفن المسرح وللتمثيل بشكل عام.
المليجي وعلوية جميل
في فترة من أصعب فترات حياته يحكي المليجي قصة تعرفه على شريكة حياته الفنانة «علوية جميل» ،فقد كانت زميلة للمليجى ضمن الفرقة القومية وقد سافرت الفرقة إلى رأس البر لتقديم بعض العروض في فصل الشتاء ،لكن لسوء الأحوال الجوية تم إلغاء جميع العروض مما عرَّض المليجي لضائقة مالية شديدة، وفي نفس الوقت وصله تلغراف يخبره برحيل والدته ،فلم يكن يملك مصاريف دفنها ولا مصاريف العودة إلى القاهرة، وعندما رأته علوية منهارا وحكى لها ظروفه غابت عنه ساعة ثم عادت وأعطته مصاريف السفر والدفن واكتشف المليجي بعد ذلك انها قد باعت ذهبها لتعطيه هذا المبلغ. تكرر ذلك المشهد مع المليجي عند وفاة والده، فوالده الذي كان يعشق والدته أصيب بالعمى من شدة حزنه عليها وتوفي بعد عامين من وفاتها، ولم يكن المليجي يملك تكاليف الدفن ،ولكن هذه المرة قرر ألا يطلب من علوية أموالا مرة اخرى، وأثناء سيره في شارع عماد الدين تقابل والمخرج «إبراهيم لاما» فأعطاه 10 جنيهات عربونا لفيلم، فدفن بها والده.
وقد نشأت علاقة حب بين المليجي وعلوية جميل واسمها الحقيقى «إيليا سباط خليل مجدلاني» وقد ولدت في السنبلاوين وهى من أصل لبناني، كللت هذه العلاقة بالزواج، ويحكى أنها كانت تكبره بست سنوات. وقد استمرت علاقتهما الزوجية إلى ما يقرب من نصف قرن.
«محمود المليجي» وزوجته «علوية جميل»
لعنة أدوار الشر
المفارقة أن نفس الجنيهات العشرة لتي أعطاها المخرج إبراهيم لاما للمليجى كجزء من أجره عن أحد الأفلام، والتي غيرت حظه وأوصلته إلى النجومية، هي نفسها التي أصابته بلعنة الارتباط الطويل بأدوار الشر، حيث كان هذا الفيلم هو «قيس وليلى» المأخوذ عن الرواية الرومانسية «مجنون ليلى»، وركز فيه المخرج على قصة الصراع بين قيس وغريمه أكثر من تركيزه على قصة الحب بين قيس وليلى، وقام بدور قيس الفنان أنور وجدي، بينما قام المليجي بدور الغريم. وقد أدى دور الغريم ببراعة فائقة جعلت كل المنتجين والمخرجين يختارونه لأداء أدوار الشر. ففي عام 1944 نجده يجسد دور الشرير في خمسة أفلام في نفس العام، وفي عام 1945 يلعب المليجي دور الشرير في 13 فيلما في العام نفسه، وفي وقت قياسي وصل عدد الأفلام التي لعب فيها المليجي دور الشر 45 فيلما. ويقول المؤرخ الفني «إبراهيم رمزي» في كتابه «نجوم زماننا»: «ولولا فداحة طلباته لما ظهر فيلم واحد لا يمثل فيه الأستاذ محمود المليجي، فرغم رفع أجره كانت الطلبات تنهال عليه».
مراحل فنية
يرى النقاد والباحثون السينمائيون أن المسيرة الفنية للفنان الراحل محمود المليجي مرت بعدة مراحل..المرحلة الأولى كانت مرحلة الشر الاضطراري مع يوسف وهبي ،ثم مرحلة الصراع الطبقي مع أنور وجدي التى لعب خلالها أدوار ابن الذوات المتعجرف ، ثم مرحلة فريد شوقي التي قال عنها المليجي بأنها أخذتنا إلى متاهات التهريج والإجرام. وحين سأله الصحفي «شفيق أحمد علي» عن سبب اضطراره لهذه المتاهات رد المليجي «في الصحراء يضطر الإنسان إلى أن يشرب بوله، ولو رفضت مش هقدر ادفع إيجار البيت لأن الفنان الحقيقي كلما كبر في السن قلت قيمته»- وقد قال المليجى هذا الكلام رغم أنه استمر يعمل حتى وفاته لكنها القاعدة التى ذكرناها فى البداية والتى أكدها المليجى وغيره فكلما كبر الفنان فى السن قل الإقبال عليه.
علاقته بيوسف شاهين
ربط محمود المليجي علاقة متميزة وقوية مع المخرج يوسف شاهين حيث كان الأخير يعتبره من أعظم الممثلين المصريين مع أنه بنص تعبيره «من أجهل الناس بشئون السياسة، ضئيل الحظ من الثقافة، وكثيرا ما كنا نضحك منه أثناء مناقشاتنا، إلا أنه في التمثيل لا يضاهى، وكنت أبكي في تصويري لمشاهده». وهنا لا يمكن الحديث عن مسيرة المليجي الفنية دون التوقف عن دور محمد أبو سويلم في فيلم «الأرض» الذي أخرجه يوسف شاهين، والذي يعد أهم الأدوار في تاريخ المليجي السينمائي، المفارقة أن مسئولي مؤسسة السينما كانوا معترضين على أن يلعب المليجي شخصية محمد أبو سويلم، وكانت وجهة نظرهم كيف يلعب الشرير الأشهر دور فلاح مناضل.
الخاتمة التي تمناها
كثيرة هي التفاصيل التي لا يتسع المجال لذكرها في حياة ومسيرة فنان بحجم محمود المليجي كان يعتبر التمثيل حياته وحلمه الوحيد، وكان يتمنى دائما أن يدركه الموت وهو يعمل. وما تمناه المليجي حدث بالفعل، فقد توفي أثناء تصوير دوره في فيلم «أيوب» مع النجم عمر الشريف والمخرج هاني لاشين، ففي إحدى الجلسات للتحضير لتصوير بعض المشاهد، كان المليجي يتحدث عن أن الإنسان ينام ثم يستيقظ ثم ينام فلا يستيقظ وتكون نهايته، وأخذ في تمثيل دور النائم وسط ضحك الحاضرين، وطال النوم حتى أن عمر الشريف ناداه «كفاية بقى يا محمود.. قوم بقى»، ليكتشف الجميع أنه مات ورحل دنيانا في السادس من يونيو عام 1983، ليسدل الستار على حياة واحد من أهم فرسان السينما المصرية.
الفيديو جرافيكس
نص: Belal Momen
تحريك ومونتاج: Abdalah Mohamed