قبل أن نواصل رحلتنا مع كتاب الأستاذ عبد النور خليل «سعاد حسني.. ضحية اغتالها المثقفون» أتوقف عند عنوانه الذي أراه مغايرًا لمضمونه، نعم سعاد كانت ضحية، لكنها لم تكن ضحية المثقفين. فليس في الكتاب كله سطر واحد يثبت صحة عنوانه، فمثقفو زمن سعاد حسني قدموا لها كل دعم ممكن، فكيف والحال كما ترى ينسب إليهم المؤلف جريمة اغتيال سعاد؟ّ!
الانتكاسة
في مطلع الستينات أصبحت سعاد شهيرة جدًا وانهالت عليها العروض، حتى أنها كانت تقرأ ثمانين سيناريو في السنة، لكي تختار من بين هذا العدد الضخم اثنين أو ثلاثة، فكل المنتجين والمخرجين كانوا يرشحون سعاد أولًا للقيام ببطولة أفلامهم.
في تلك الفترة بحثت سعاد عن سعاد، عن المرأة الشابة الجميلة المثيرة صاحبة الأشواق الطبيعية في الحياة الطبيعية، فلم يكن أمامها إلا صورة الممثلة التي تعمل ليل نهار ولا تلتفت لشيء سوى عملها.
اقر أ أيضا:
سعاد حسني.. فراشة أحرقتها الأحزان (1)
لقد انقسمت سعاد على ذاتها، فهناك سعاد الممثلة الشهيرة وهناك سعاد الأنثى الجميلة، ذلك الانقسام أدى إلى إهمالها لدروسها، حتى أنها كادت تنسى الإملاء ثم أدى إلى جنوحها وإهمالها لعملها إهمالًا كاد يقضي عليها وهي في مطلع شبابها وتفتح مواهبها الاستثنائية.
وللحق فقد برع الأستاذ عبد النور في الإمساك بتلك اللحظة الفارقة في حياة سعاد، حيث يقول: «حرص المنتج الكبير تاكفور أنطونيان على أن يصطحب نجمته الصاعدة سعاد حسنى إلى أول مهرجان مصرى عالمى للتليفزيون عقد فى النصف الأول من الستينات، كانت تعليمات تاكفور المشددة لسعاد أن تلتصق بي وأن تدعني أقود الحديث والحوار إذا سألها أحد وأن تفعل ما أطلب منها خاصة خلال هذه التجمعات الغفيرة من الجماهير، كانت مطيعة وعندما كنا نجلس فى بهو الفندق أو حديقته ويتقاطر علينا زحام من الجماهير وتمتد الأيادى بـ «الأوتوجرافات» تطلب عبارة تحية وتوقيعاً كانت تنظر فى وجهى ببراءة وتتساءل: «أكتب إيه؟».
ويضيف عبد النور خليل: «واقترحت عليها عبارة موحدة «إلى فلان تحية وتقدير» تتبعها بتوقيعها ومنذ اللحظات الأولى أدركت أنها مرتبكة بسبب أنها تخطئ كثيراً فى الهجاء.. تقدم إليها بالأتوجراف شاب اسمه مدحت، وفوجئت بها تكتب الاسم «ميدحات» وإذ به يقول لها يا أفندم أنا أسمى لا فيه ياء ولا ألف.. وأشاحت محرجة.. وامتلأ وجهها بحمرة والتصقت بى وكأنها تريد أن تتوارى، وكحل بدأت كلما تقدم إليها أحد المعجبين بأوتجراف أتهجى اسمه وتدربت على العبارة المتفق عليها وتضع أسفلها توقيعها».
تلك الواقعة كان يجب أن تكون درسًا قاسيًا لسعاد حتى تعود إلى سابق عهدها من الحرص على المعرفة وتعويض ما فاتها، لكنها في سياق بحثها عن ذاتها الحقيقية فقد وضعت نفسها في حب ليس فيه من الحب إلا اسمه. يقول الأستاذ عبد النور: «كانت سعاد مهيأة تماما لمغامرة شبابية، كانت أرضا خصبة لهزة حياة حقيقية تغرق فيها كل أحاسيسها ومشاعرها الجائعة لتجربة واقعية، وهى ترى وراء الكاميرا عيوناً نهمة تحتويها فى جرأة ووعد بالانطلاق بلا قيود.. عيون المصور الشاب كانت تلك العيون التي تعد بشبع لا محدود من متع الحياة.. وانقادت السندريللا، وأفلتت عقالها فى ذلك الصيف بالإسكندرية، عندما كانت تقوم ببطولة فيلم «ليلة الزفاف».
أسلمت سعاد نفسها لعبارات الغزل وضربت عرض الحائط بميعاد التصوير وبالمخرج هنرى بركات و بفريق العمل كله بما فيه أحمد مظهر وأحمد رمزى وعقيلة راتب، وفى ذلك اليوم وصل المنتج جمال الليثى من القاهرة لكى يعقد جلسة عاجلة مع بركات و تطايرت كلمات غاضبة عن تصرفات سعاد، وفى صخب وزع جمال الليثى الأوامر على فريق انتاج الفيلم «اقلبوا الإسكندرية شبر شبر وعودوا بسعاد».
ولأن جمال الليثى كان يعرف إلى أى مدى يمكن أن تنساق سعاد فى نزقها، قال لشقيق المصور الذي كان يعمل في الفيلم: «أنا عايز الفيلم يخلص وإلا سوف أوقفه و سأقوم بإلغاء عقدك أنت و أخوك وسعاد كمان. دي أموال قطاع عام و مال دولة مش هزار».
كان الموقف صعبًا جدًا فالخلفية العسكرية لليثي لا تجعله يعرف هذا الهزل، ثم إن الفيلم من إنتاج الدولة فعلًا وإهدار المال العام كان تهمة تطير لها الرقاب، وسعاد البطلة مختفية تلهو مع حبيبها أو الذي كانت تظن أنه حبيبها، وحده أحمد مظهر وقف بجوارها وصاح في الجميع: «سامحوا شبابها، وستعود ونكمل الفيلم».
تلك الانتكاسة كان سببها بحث سعاد عن الأنثى التي بداخلها، لأنها مبكرًا عرفت الثمن الذي يجب عليها دفعه مقابل النجومية والشهرة، إنه ليس أقل من قتل الأنثى!
https://youtu.be/hmDKUNrtB74
وسواس ثقافي
تزوجت سعاد من المصور حبيبها رغم آلاف التحذيرات، ومكثت في عصمته سنة واحدة، ثم تكشفت لها الحقائق، فطلبت الطلاق بعد أن لجأت إلى بيت صلاح جاهين طالبة الحماية، طلقها المصور بعد أن حصل على أجرها كاملًا عن فيلم قامت ببطولته.
عادت سعاد مثخنة بجراح الحب الفاشل إلى ملعبها، إلى الكاميرا، وكانت قد نضجت وأصبحت الاسم الأول عند جماعة من المخرجين يطلق عليهم عبد النور لقب «مخرجو اليسار» وهم حلمى حليم وصلاح أبو سيف وفطين عبد الوهاب كمال الشيخ. هؤلاء كانوا من المخرجين المثقفين، وكانت أفكارهم تتعب سعاد بل ترهقها وتجعلها ترتبك.
عند تلك الفترة من حياة سعاد يقول عبد النور: «كانت سعاد تعانى الكثير من الوسوسة بشأن ما يدور حولها، لم يكن سراً أنها حرمت من نعمة الثقافة، ولم يكن سراً أيضاً أن أفكار سينمائيين كبار مثل كمال الشيخ وآراءهم وتعاملهم معها تسلمها إلى حالة مضنية بل ومرهقة من التفكير، كانت أرضاً خصبة للأفكار والآراء لكنها كانت تعجز فى هذه المرحلة عن استيعاب كل فكر يصب فى رأسها، كانت تعانى ما يمكن أن نسميه «الوسواس الثقافى»، خاصة بعد أن حقق لها فيلم فطين عبد الوهاب «إشاعة حب» وفيلم طلبة رضوان «السفيرة عزيزة» قدراً كبيراً من النجومية. كان الخوف من الاتهام بالجهل وعدم المعرفة فى هذه المرحلة يعذب السندريلا وربما بحثت عن نطاق آخر أكثر سهولة وأكثر يسراً من عقدة الثقافة».
بداية النهاية
تربعت سعاد على عرش النجومية في السبعينات بفضل أفلام صلاح جاهين «خلي بالك من زوزو» و «أميرة حبي أنا»، ثم جاء دور زوجها المخرج الكبير علي بدرخان الذي يجوز لنا وصفه بالمشرف الفكري على اختيارات سعاد التي قدمت في السبعينات طائفة من أهم أفلامها. ثم حدث أن طاردتها الأحزان مجددًا فقد فقدت جنينها أثناء عملها في فيلم «المتوحشة» وبذا ضاع حلم الأمومة إلى الأبد، ثم وقع الطلاق بينها وبين راعيها الفنان علي بدرخان، وكانت قبلها قد دخلت معركة شديدة القسوة مع الاسم المرعب صلاح نصر، على خلفية بطولتها لفيلم «الكرنك» وهو العمل الذي رأى نصر أنه يمس سمعته.
وجاءت فترة الثمانينات لتسجل بدايات أفول النجمة، وعن تلك المرحلة يسجل عبد النور خليل هذه الواقعة بقوله: «مرات قليلة كان يتفجر فى أعماقى رثاء حزين للسندريلا، عندما أراها وقد غلب عليها التعب وأرهقها المجهود الضخم. كان الكاتب المسرحى الكبير الصديق سمير خفاجى فى منتصف الثمانينات قد اعتاد أن يقيم فى بيته حفلا ساهرا فخما فى ليلة رأس السنة، يدعو إليه فقط صفوة الأصدقاء من الوسط الفنى.. كنت أجلس بقرب الباب وخطت أمامى ومدت يدها مسلمة، وأنا أبحث فى ذهنى بسرعة عمن يمكن أن تكون صاحبة هذا الوجه الذى ضاعت من عيونه الرموش، ولا تجمله أى رتوش، بل يعكس تعبا باديا، وكأن صاحبته تبدأ فترة نقاهة من مرض طويل، إلى أن نطقت ويدها فى يدي مسلمة ومستغربة: «مالك مندهش كده.. أنا سعاد» أحسست بتيار بارد يجتاحنى ورحت أرحب بها بطريقة غلبت عليها المبالغة».
عبد النور الصديق الصدوق لم يعرف النجمة وكذا لم يعرفها الناقد الكبير رفيق الصبّان، يروي تلك الواقعة عبد النور فيقول: «كنت والصّبان بداخل إحدى دور العرض فسحبني من ذراعي وهو يقول بطريقته التى يغلب عليها التضخيم و الانبهار: «عبد النور.. حأحكي لك حكاية مش حتصدقها، ولا يمكن أن تخطر على بالك.. أنا إمبارح ماشى فى ميدان التحرير، نادت على ست لابسة على رأسها إيشارب و لابسة بلوزة و جيبة عادية ورخيصة و فى رجليها شبشب عادى.. استغربت و قلت الست دى تعرفني منين، وبتنادى عليا باسمي ليه؟ وقفت و قربت منها فوجئت بها بتقولى: دكتور رفيق.. أنت مش عارفنى.. أنا سعاد حسنى» صرخت بعلو صوتي: «موش ممكن.. موش ممكن..» كانت فعلا هى سعاد حسني.. إيه اللي عمل فيها كده.. إيه اللي وصلّها لكده.. أنا لغاية دلوقت مش مصدق نفسي.. أجمل وأرق و أرشق نجمة فى السينما تنتهى ازاى كده؟!».
لم تكن سعاد من اللاتي يستسلمن بسهولة لظروفهن، لقد قاومت ما وسعتها المقاومة، فقد نفضت عن نجوميتها الغبار وعادت لتلهب خيال الملايين من خلال بطولتها لرائعة صلاح جاهين وسناء البيسي وأحمد زكي ويحيي العلمي «هو وهى». لكن ما أن انتهى عرض المسلسل حتى كأن سعاد نظرت حولها فلم تجد رفقتها المساندة والداعمة، كانوا جميعًا قد رحلوا أو توقفوا عن العمل، أو أصبح لهم بطلات غيرها.
هنا تكالبت عليها الأمراض، ألم العمود الفقري لم يكن يسمح لسعاد بمجرد المشي. ثم هناك الزيادة المرعبة في الوزن، وغيرها من الأمراض التي لا يصح معها الحلم بمواصلة التألق.
المنفى
في بدايات التسعينيات قررت سعاد حسني الخروج من مصر إلى لندن، هل كانت تطلب العلاج أو الهروب أم تنفي نفسها لتسدل الستار على النجمة التي كانت ثم هوت في جب الأحزان؟
في لندن ذاقت سعاد مرارة الوحدة المتوحشة، لقد أصبحت بمفردها في مواجهة الأحزان الطاغية، هنا لجأت سعاد لحيلة عجيبة جدًا، لقد راحت تتقمص شخصيات أفلامها القديمة. كتب الإعلامي عمر عبد الرزاق أنه أثناء التجهيز لتسجيل رباعيات جاهين بصوت سعاد لصالح محطة البي بي سي، لاحظ أن سعاد تتحدث بصوت ولكنة «فاطنة» زوجة أبو العلا في فيلم الزوجة الثانية، فاطمة الفلاحة المحبة لزوجها ولأسرتها الصغيرة التي تقاوم بمفردها طغيان العمدة الذي يريدها لنفسه جارية في سريره. وكأن سعاد بهذا التقمص كانت تريد إرسال رسالة مضمونها: أنا سعاد الفلاحة الشابة الجميلة المقاومة، لن ينالني أحد رغم أنفي.
وفي السياق ذاته يسجل الأستاذ عبد النور هذه الواقعة فيقول: «في فبراير 2001 كنت أحضر دورة مهرجان برلين السينمائي الدولى.. طلبت سعاد حجرتى في فندق هامبورج ببرلين وجاءنى صوتها علي الأنسر ماشين تقول: «أنا مدام زوزو من فضلك اترك اسمك ورقمك لكى اتصل بك عقب عودتى من الخارج»، وفعلت ولم أستشعر تغيرا في صوتها المسجل بل أنني شعرت بمدى اعتزازها وفخرها بأن تختار اسم زوزو».
ويضيف عبد النور: «ولم تمض ساعة حتى جاءني صوتها بنبرة ودودة متفائلة ودار بيننا حوار قصير قالت فيه: أنا كويسة جدا ومستمرة فى العلاج وناوية أرجع مصر وأرجع زي ماكنت وأحسن».
آخر مكالمة للسندريلا سعاد حسني مع الصحفي محمود مطر
قفزة الموت
عادت سعاد إلى مصر كما وعدت، لكنها عادت في نعش، موت سعاد أصبح لغزًا نقف أمامه حائرين. لكن عبد النور ،وقد كان على علم بالخفايا، قرر أن يدلي بدلوه في تفسير هذا الحادث المرعب. يقول عبد النور: «عدت من رحلتى إلى برلين وأخبار سعاد فى رحلة علاجها فى لندن تضغط علي القلب والنفس بالوجيعة، وكان الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء قد أصدر قرارا بأن تتحمل الدولة نفقات علاج سعاد، ولكن عاطف عبيد أصدر قرارا بوقف علاج سعاد علي نفقة الدولة مطالبا بأن تعود إلى مصر لتكمل علاجها.. كنت أعلم عن ثقة أن ثمة جهات تسعي جاهدة إلى أن تسكت صوت سعاد ،خاصة عندما أعلنت أنها قد بدأت بالفعل تعقد جلسات مع صحفى مصري مقيم فى لندن لكى تروى وتسجل مذكراتها تمهيدا لإصدارها فى كتاب».
ويبقي السؤال: من قاد سعاد حسني إلى سقطة الموت الأخيرة؟.. «قد يجئ الوقت الذي تنكشف فيه الحقائق عن سقطة الموت الأخيرة فى حياة سعاد، وتتأكد فيه حقيقة أنها لم تنتحر بل اغتيلت بدم بارد، وهذا ما أعتقده ويعتقده كثيرون من الذين كانوا يحيطون بها فى حب طوال حياتها».