في كتابه «رهانات العقل العربي.. من التقليد إلى التبديد» يقدم الدكتور عصمت نصار أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، قراءة مغايرة لما اصطُلح عليه بين الفقهاء المسلمين بـ (السياسة الشرعية)، من خلال الكشف عن السياقات التاريخية والجذور اللغوية والإجرائية للمفهوم في تجلياته التاريخية المختلفة.
د عصمت نصار، وكتابه «رهانات العقل العربي.. من التقليد إلى التبديد»
تطور تاريخى
يؤكد نصّار منذ البداية أن المصطلحات والمفاهيم تتبدل وفقا لثقافة كل عصر، على نحو يُبعدها عن أصولها اللغوية، ومعانيها الإصطلاحية والإجرائية، وهو ما حاول تتبعه من خلال رصد التطور التاريخي للتعريفات التي طالت مفهوم «السياسة الشرعية»، وتباينات تعريف المفهوم مابين الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء، ثم القضية الأهم وهي تأثير امتداد الفكر الوهابي في الثقافة العربية على مفهوم السياسة الشرعية، وما ارتبط بها من قضية الحاكمية.
فمن خلال الاستقراء التاريخي لمفهوم السياسة الشرعية الذي قدمه الفقهاء والمتكلمون المسلمون، يكشف نصار كيف لازمت صفة المدنية مفهوم السياسة الشرعية عبر عصور مختلفة إلى أن نجحت الوهابية في الزج بها في ميدان العقيدة، بعدما رافق مفهومَ السياسة الشرعية عددٌ من المفردات والتراكيب الأخرى مثل (دار الإيمان، ودار الكفر، والشرك الأكبر والأصغر، والطاغوت، ودار الحرب). ثم كانت الطامة الكبرى حين طرح أبو الأعلى المودودي في ثلاثينيات القرن الماضي (مفهوم الحاكمية) استنادا إلى الفكر الوهابي، وهو ما كان له عظيم الأثر في تحديد مفهوم الخلافة. فأصبحت السياسة الشرعية في ظل الحاكمية من الشؤون العقدية التي يُكفّر من لم يأخذ بها، وأصبح مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذا صيغة سياسية عقدية، حيث تضطلع به الفرقة الناجية، مما يسمح لها باستخدام العنف والعنف المفرط حتى تستقيم المجتمعات من وجهة نظرهم.
أبو الأعلى المودودي
مفهوم السياسة الشرعية
في كتابه يكشف الدكتور عصمت نصار الأصول اللغوية لمفهوم (السياسة) ثم السياسة الشرعية، كما يستعرض عددا كبيرا من التعريفات التي قدمها الفقهاء المسلمون عبر التاريخ كابن الربيع، والقاضي عبدالجبار، والغزالي، والمواردي، وابن عقيل الحنبلي، وابن القيم، وأبو بكر الحداد، والقرافي وأبو بكر الطرطوشي. ويخلص نصار من هذه التعريفات إلى نتيجتين مهمتين:
أولاها: أن مفهوم السياسة الشرعية بسياقاته المختلفة كان واضحا في معانيه اللغوية والاصطلاحية والإجرائية، وأن التشويش الذي صاحب هذا المصطلح جاء في وقت متأخر، ومرده كان الانحياز إلى أحد التعريفات الإجرائية الشاذة مثل تعريف ابن تومرت.
أما ثانيتهما فهي أن السياسة الشرعية بمفهومها الحقيقي لا يمكن خلطها بمصطلحي الفقه والشريعة، لأن اجتهادات الفقهاء في شؤون العبادات تحكمها ضوابط شرعية مغايرة للأحكام السلطانية، فالأحكام الشرعية القطعية مثل الحدود على سبيل المثال لا يمكن إلغاؤها، بينما القوانين والعقوبات السياسية تٌعدل تبعا لدرء المفسدة وجلب المصلحة، لذلك تٌدرءُ الحدود بالتعازير في السياسة، فالسياسة الشرعية تستند في اجتهاداتها وتدابيرها على روح الشريعة ومقاصدها من جهة، والعقل واحتياجات الواقع من جهة أخرى. فهي في الأساس علم تطبيقي تدور صحته وخطؤه قياسا على إمكانية التحقق في الواقع، ومن ثم يُعرّف نصار السياسة الشرعية بقوله: «هي اجتهادات الحاكم في أمور تدبير الدولة على نحو يٌمكنه من إقامة العدل واستتباب الأمن، لتحقيق المقاصد الشرعية، وهي الحفاظ على العقل والدين والنفس والمال والعرض، ثم الكرامة والحرية، ودرء المفاسد وجلب المصالح العامة، شريطة الالتزام بقطعي الثبوت والدلالة من الأوامر والنواهي الشرعية، والاستعانة بأهل الدربة والدراية في تدبير شؤون الدولة عن طريق مبدأ الشورى، والعقد السياسي الذي حدد حق الحاكم على الرعية بالطاعة، وحق الأمة عليه في تنصيبه ومعارضته وعزله إذا ما أخل بمهامه الرئيسية، ودون ذلك لها عليه حق العون والنصرة».
على هذا النحو حظي مفهوم السياسة الشرعية طوال التاريخ الإسلامي بدرجة معتبرة من النضج والوضوح حتى أخريات القرن التاسع عشر، ولم يحدث الالتباس في المفهوم إلا مع ظهور الجماعات الدينية في النصف الأول من القرن العشرين. إذ على الرغم من ظهور العديد من المحاكم المدنية في القرن التاسع عشر في الولايات العثمانية المختلفة لتقنين أوضاع الجاليات الأجنبية، إلا أن أحدا لم يستدعى مفردات يصف بها المجتمعات الإسلامية بأرض الكفر أو الطاغوت، ولم تظهر هذه المفردات في المجتمعات العربية أو الخاضعة لسلطة الدولة العثمانية وإنما كان ظهورها الأول في بلاد الهند -التي كانت تحت الحكم الانجليزي- مع أبو الأعلى المودودي، وهي مناطق انتشار ونفوذ للفكر الوهابي.
ثم بدأت الإرهاصات الأولى للجماعات الإسلامية في ثلاثينيات القرن الماضي بتأثير من الدعوة الوهابية التي نجحت في إقامة دولة، فرفعوا شعار الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، وزجوا به في آتون السياسة، وبدأت منذ ذلك الحين الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وهي في ظنهم ليست إلا الحدود وإيقاف التوسع في محاكات النظم الغربية في السياسة والاجتماع والاقتصاد.
ولأن أصحاب هذه الرايات – من وجهة نظر نصار- كانوا من قليلي الكفاءة العلمية بالشريعة ظنوا أن مدنية السياسة خروج عن الدين، إذ كان أغلبهم ممن تثقفوا ثقافة حرة معتمدين على قراءاتهم الذاتية في الكتب التراثية، وأفضلهم حالا هو من كان من خريجي دار العلوم، ولم يكن لهم دراية بأمهات الكتب الفقهية والكلامية، بالإضافة إلى تزامن ذلك مع وجود نخبة عربية ذات ثقافة غربية وعلمانية اشتبكت كلاميا وثقافيا مع هؤلاء المحافظين، في وقت كانت فيه البكائيات على سقوط الخلافة، وظهور العديد من الكتب التي اجترأت على نظام الخلافة والدولة العثمانية والرابطة الإسلامية، فكان رد الفعل أكثر عنفا من أنصار مفهوم الخلافة وعلى رأسهم مفتي الدولة العثمانية الشيخ مصطفى صبري الذي شن حملة تكفيرية ضارية على كل من يصف الخلافة بأنها نظام مدني، مؤكدا أنها النظام الشرعي والسياسي للدولة الإسلامية، وهو ما تلقفته الجماعات الدينية فيما بعد لتنافح عن وهم الخلافة الذي بات في اعتقادهم من الثوابت الشرعية، وهو ما جعل نصّار يفرد جزءا خاصا لتناول مفهوم «الحاكمية» منذ المودودي، وسيد قطب والذي دارت في فلكه جماعات العنف الديني وفق ما سيرد في الجزء الثاني من هذا المقال.
(يتبع)