في كتابه «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، يقسّم تقي الدين المقريزي المجتمع المصري خلال الحكم المملوكي إلى سبع طوائف،حيث جعل «أهل الدولة» على قمة التقسيم، وقصد بهم الحكام المماليك ورجالهم من أمراء وقادة وحاشية. ثم وضع «أهل اليسار»من التجار وأولى النعمة من ذوي الرفاهية على قمة الرعية، يليهم «متوسطو الحال» من تجار وأرباب السوق.
وجاء الفلاحون وسكان الريف، وفقا للتقسيم الذي أورده المقريزي، في الطبقة الرابعة، يتبعهم «الفقراء»، وهم جل الفقهاء وطلاب العلم والكثير من أجناد الحلقة ونحوهم. وفي القسم السادس وضع «أرباب الصنائع وأصحاب المهن»، وأخيرا وضع «ذوي الحاجة والمسكنة» من الشحاذين والمتسولين الذين يتكففون الناس، ويعيشون منهم في القسم السابع.
حكام ورعية
ويرى الدكتور قاسم عبده قاسم أستاذ التاريخ أن المجتمع المصري في عصر السلاطين المماليك كان مجتمعا يقوم على بناء طبقي حاد، فثمة طبقة من الحكام العسكريين لها كل الحقوق والامتيازات، يمتلك أفرادها الأرض الزراعية التي قام عليها اقتصاد البلاد، ولهم فقط حق الحكم والإدارة، في مقابل الرعية التي اقتصر دور أبنائها على الانتاج ودفع الضرائب والخضوع المتكرر لابتزاز المماليك، دون أن يكون من حق أبنائها المشاركة في مسئوليات الحكم.
وتبعا لهذا التقسيم فإن فرسان المماليك الذين جاءوا عبيدا إلى مصر وسوريا، كان لهم وحدهم حق الحكم، لأنهم كانوا يستأثرون بالرتب العليا في الجيش المملوكي، وكان على أفراد هذه الطبقة عبء الدفاع عن البلاد ضد الأخطار الخارجية من جهة، وحماية عرش السلطان ضد الأخطار الخارجية من جهة أخرى.
وقد كانت هذه الطبقة، تقوي نفسها على الدوام بما يجلبه تجار الرقيق إلى مصر من المماليك، حيث كان من الممكن أن تصل مشتريات السلطان في عصر المماليك البحرية إلى حوالي 800 مملوك، في حين أن مشتريات السلاطين من المماليك لم تزد عن 200 أو 300 مملوك في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وفقا للدكتور قاسم عبده قاسم، في كتابه «عصر السلاطين المماليك».
كان هولاء المماليك ينحدرون من جنسيات مختلفة مثل «الترك» الذين يعيشون في غرب آسيا (تركمانستان وكازاخستان وأوزبكستان حالياً)، أو «الشركس» (الذين كانوا في ذلك الوقت متركزين في إقليمي أبخازيا والشيشان حالياً)، والروم (اليونان) ،والمغول والألمان. أما الرعية من أهل مصر فكان عليهم أن يتحملوا من أراضيهم التي نُزعت منهم، ومن الضرائب التي كانوا يدفعونها ،نفقات الطبقة الأولى.
«أولاد ناس»
مع الوقت نشأت فئة جديدة في المجتمع المصري إبان العصر المملوكي، لا تنتمي إلى طبقة الحكام الذين يستحوذون على كل الحقوق والامتيازات، ولا هم من أبناء الرعية التي اقتصر دور أبنائها على الانتاج ودفع الضرائب والخضوع المتكرر لابتزاز المماليك، لكنهم يملكون الأصل والنسب والعزوة، وقد سُميت تلك الطبقة الجديدة بـ «أولاد الناس».
و«أولاد الناس» هؤلاء هم قوم أعزاء أذلتهم الأيام، كانوا يوما ما ينتمون إلى طبقة الحكام أصحاب سلطة وسلطان، ثم أصبحوا بين ليلة وضحاها بلا جاه ولا نفوذ، يشفق عليهم الناس، ويروون مأساتهم، وغالبا ما ينسون ما أرتكبوه من جرائم أيام كانوا أصحاب سلطة.
وفي تعريفه لـ«أولاد الناس» يقول الكاتب الصحفي الراحل صلاح عيسى في كتابه «هوامش المقريزي.. حكايات من مصر» إنه عندما يموت السلطان أو يُعزل ،كان مماليكه يُطردون من القلعة «مقر الحكم»، ويفقدون ما كانوا يحصلون عليه من امتيازات، فتنزل نساء السلطان المعزول أو المقتول من القلعة وعلى وجوههن غبرة، بعد أن ذهب زمن السلطة والتحكم والعزة والكرامة والتسلط على الناس، وآن لمماليك السلطان الميت أن يعودوا إلى أصولهم، وحينئذ كانوا يسمون ب«أولاد الناس»، أو «مماليك السلطان القديم».
وقد كان هؤلاء يعيشون -وفقا لعيسى – على مخصصات يقبضونها من بيت المال لا تقاس بما كانوا يحصلون عليه من أموال في عهد سلطانهم القديم، فلم تعد الدولة عزبتهم يتحكمون فيها ويوزعون أنفسهم على مناصبها وينزحون بيت مالها.
أعلام «أولاد الناس»
كانت المكانة الاجتماعية لـ «أولاد الناس» أدنى من المماليك، وغالبا ما كانوا ينصرفون عن الحياة السياسية والعسكرية التي كانوا يعيشونها في ظل سلطانهم، ويختارون لأنفسهم حياة السلم والدعة. وقد يساهم بعضهم في النشاط الأدبي والثقافي لعصره، مثل ابن إياس الحنفي صاحب كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، وابن تغري بردي الأتابكي صاحب كتاب «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، وابن أيبك الدوادار صاحب «كنز الدرر وجامع الغرر» وابن دقماق صاحب «الجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين».هذا فضلاً عن أسماء بارزة في مجالات علمية أخرى مثل ابن مغلطاي في علم الحديث، والقاسم بن قطلوبغا في الفقه، وابن خليل الصفدي في الأدب صاحب «الوافي بالوفيات»، وابن المجدي في الرياضيات والفلك، وعبد الباسط بن خليل في الطب، وناصر الدين بن البابا في الموسيقى، وغيرهم.
ويرى الدكتور قاسم عبده قاسم أنه يمكن تفسير الحالة الاجتماعية لـ«أولاد الناس» في ضوء الحقيقة القائلة بأن المماليك لم تكن لهم حياة أسرية بالمعنى المألوف، ذلك أن وجودهم في المجتمع المصري لم يكن قائما على أساس الأسرة كخلية أولية في البناء الاجتماعي. فقد اعتمد وجودهم على القوة الذاتية لكل أمير ممثلة في مماليكه الذين كانوا سنده وعدته في الصراع المرتقب مع غيره من الأمراء، ومن ثم كان الامراء يولون عنايتهم ورعايتهم الكاملة لمماليكهم، ولم يكن الأمير يتناول طعامه إلا مع مماليكه، وكان يغضب ممن لا يأكل عنده منهم، وهكذا لم يكن لدى أمراء المماليك وقت لرعاية أبنائهم الذين كانوا يتركونهم لكي ينشؤا في الحريم بعيدا عن الجو المملوكي أو في حجور النساء».
كان «أولاد الناس» يمضون أوقاتهم في ممارسة بعض الألعاب والرياضات مثل الفروسية ولعب الكرة ورمي الرمح والنشاب، أو يختلفون إلى مجالس العلم، كما كان بعضهم ينضم إلى «الحلقة» ليكون من جنود الجيش المملوكي.
وقد ترقى بعض «أولاد الناس» ووصل إلى المناصب العليا في الجيش ، فوصل منهم نحو 35 إلى رتبة «أمير مئة» أو «مقدم ألف» (أمير مئة في السلم ومقدم ألف جندي في الحرب)، و51 منهم حملوا رتبة «أمير طبلخانة» (أمير عدد لا يقل عن 40 مقاتل ويحق له ضرب الطبول في تحركاته)، و56 «أمير عشرة»، و4 نواب للسلطنة، و2 في الأتابكية، وحوالي 150 اسماً بين ولاة وحُجّاب وأمراء سلاح (قائم بالأسلحة السلطانية) ومسؤولين عن مناصب مختلفة في الدولة، وذلك وفقا لما جاء في دراسة ماجستير بعنوان «أولاد الناس في عصر سلاطين المماليك» للباحث التاريخي السيد صلاح الدبيكي.
عزيز قوم ذل
تعرض «أولاد الناس» لنكسات وضاقت بهم الحياة تحت حكم عدد من السلاطين الذين شهدت البلاد في عهدهم أزمات اقتصادية في العصر المملوكي، فقد كانت مخصصات «أولاد الناس» هي البند السهل في ميزانية الدولة، فإذا حلت الأزمة المالية منع بيت المال عنهم مخصصاتهم، فعانوا شظف العيش.
ويروي المؤرخون أن السلطان قايتباي قرر إرسال حملة عسكرية، واحتاج إلى تمويل هذه الحملة، فاستدعى أولاد الناس إلى القلعة وقرر أن يختبر كفاءتهم الحربية، فاختبرهم في الرماية، فمن أجاد منهم أبقاه على درجته ومن لم يجيد الرماية عنّفه ونزع إقطاعه أو أمره أن يمّول إرسال مقاتل محله للحرب، كما قطع قايتباي رواتب كثيرين منهم وفرض عليهم غرامات حربية لعدم جدواهم، رغم تسجيلهم في الجند.
وللأستاذ صلاح عيسى رواية أخرى عن الذل الذي لحق بـ «أولاد الناس»، فيقول: ذات مرة قرر أحد السلاطين أن يخرج في تجريدة (حملة عسكرية) فصرف لمماليكه نفقة لكل واحد مائة دينار، ومرتب أربعة أشهر وثمن جمل وثمن مؤونة، ثم أصدر أمرا بأن يلحق «أولاد الناس» بالحملة على أساس أنهم يصرفون مرتب أربعة أشهر فقط، فحصل لـ«أولاد الناس» كسر خاطر شديد.
ويكمل عيسى روايته قائلا: «وعلى الرغم من تخاذل «أولاد الناس» الذين لا تبدو شجاعتهم أو وقاحتهم إلا وهم في السلطة، إلا أن جماعة منهم وقفت للسلطان بسبب النفقة، فلما وقفوا له ساعدهم أحد الأمراء على عرض شكواهم، لكن السلطان لم يهتم بهم ولم يرث لحالهم، وقال «أنا ما عندي نفقة لهؤلاء ،فالذي لا قدرة له على السفر يرد الأربعة شهور التي أخذها، وأنا أترك شهرا ويستريح وتنقطع مرتباته». وما إن قال السلطان ذلك حتى سكت «أولاد الناس»، وانتهت لحظة شجاعتهم المؤقتة، وقبلوا صاغرين كل ما جرى في حقهم.
ويصفهم عيسى بأنهم كانوا كثيري الكلام قليلي الفعل، «يهاجمون ما يجري في عهد السلطان الجديد حنقا على المكاسب التي ضاعت منهم، لا معارضة لما يفعله، فإذا ما زاد السلطان في مخصصاتهم مدحوه وشببوا به. كانوا قد تعودوا ذلة الالتحاق والهتاف لكل سلطة حتى تسقط، طالما تعطيهم مخصصات ونفوذا وسلطة، وسرعان ما كانت الحال تتدهور بهم، فيحترفون اللصوصية والقتل ويدخلون السجون».
النهاية
ومع الزمن ذاب الكثير من «أولاد الناس» في المجتمع المصري ،تصاهروا ودخلوا في نسب مع عائلات قبلت بهم رغم عدم معرفة معظمهم لأصله أو نسبه، ومن نسل هؤلاء خرج مصريون عملوا في مجالات عدة وبرز منهم علماء ومؤرخون كما أسلفنا.
وبعد مقتل آخر سلاطين المماليك طومان باي، ومع الغزو العثماني لمصر، وقعت انتهاكات ومداهمات، وأعمل الغزاة آلة القتل في الشوراع حتى يستتب لهم الأمر. فطاردوا المماليك الشراكسة وقتلوا منهم من قتلوا وأخذوا في طريقهم أهل البلد «الرعية» فنزعوا الأبناء من أهلهم وهجّروا الصناع المهرة إلى إسطنبول، ومن أراد أن يفتدي نفسه كان عليه أن يدفع وإلا تعرض للقتل، وسرى على «أولاد الناس» ما سرى على الشراكسة والمصريين.
دفع الظرف السياسي الجديد من تبقى من «أولاد الناس» إلى الذوبان بين الرعية، وبذلك اندثرت تلك الفئة كطبقة منفصلة، وأصبحت جزءاً من الشعب المصري، بكل مكوناته وطبقاته، وبقى مسمى «أولاد الناس» ليطلق على أعزاء القوم الذين أذلتهم الظروف، من أهل السلطة والجاه الذين فقدوا سلطانهم وأتت عليهم الدنيا، فجاوروا العامة وصاورا منهم، يمشون في الشوارع ويرتادون الأسواق، ومن آن لآخر يذَكرون الناس بأنهم «أولاد ناس»، فيشفقون عليهم ويتبادلون قصصهم ومآسيهم، وينسى البعض ما اقترفوه عندما كانوا أصحاب سلطة… وما أشبه الليلة بالبارحة.