شهدت خريطة تنظيمات التطرف العنيف والجماعات التكفيرية في مصرالعديد من التحولات والتطورات منذ نهاية عام 2013، بتوقف نشاط بعض تلك التنظيمات أو ظهور تنظيمات عنيفة جديدة.
فخلال العامين الماضيين تراجع نشاط أغلب التنظيمات القاعدية الفاعلة في مصر بشدة، وهو ما أنعكس في خروج مصر من ترتيب الدول العشر الأولى الأكثر تأثرا بالإرهاب، حيث انتقلت من المرتبة التاسعة عام 2017، إلى الحادية عشرة عام 2018، وهو انتقال قد يبدو محدودا، لكنه ذو دلالة مهمة، قياسا بتعقيد الصراع والصعوبات المرتبطة ببيئة ساحات القتال.
وقد أتخذ هذا التغير وذاك التراجع صورا عديدة، منها اضطرار بعض هذه التنظيمات للاختفاء، كما حدث مع تنظيم «جند الاسلام» في سيناء، أو انتقال البعض من تنظيم القاعدة وفك الارتباط التنظيمي معه إلى تبعية تنظيم داعش، كما حدث مع تنظيم «بيت المقدس» في سيناء، أوظهور تنظيمات جديدة في العمق المصري «الوادي والدلتا» أخذت سمات وخصائص مختلفة، منها ما هو تقليدي كتنظيم أنصار الاسلام ومنها ما هو غير تقليدي كتنظيمى «حسم» و«لواء الثورة».
في سياق هذه الحالة من السيولة والتراجع النسبي وإعادة صياغة خريطة التطرف العنيف والجماعات التكفيرية في مصر، تأتي منطقة الصحراء الغربية كحالة خاصة مع اتخاذها نقاط تمركز لبعض تنظيمات التطرف العنيف منذ عام 2015، حيث شهدت هذه المنطقة بعض العمليات الارهابية خلال الأعوام الثلاثة (2017/2016/2015)، قبل أن تهدأ خلال العامين الأخيرين، وهو ما يطرح تساؤلا حول مدى ارتباط تمركز هذه التنظيمات بالبيئة المحلية لهذه المنطقة الجغرافية ذات الطبيعة الخاصة على وجه الخصوص؟.
ستة عوامل تحدد التطرف العنيف
هناك عوامل ستة تحدد أدوار تنظيمات التطرف العنيف الفاعلة عموما، من حيث الظهور والاختفاء والفاعلية، بعضها متحقق بشكل لافت في منطقة الصحراء الغربية، ويمكن إيجازها علي النحو التالي:
1-البيئة الجغرافية: تلعب البيئة الجغرافية دورا رئيسيا في تمركز تنظيمات وجماعات التطرف العنيف من حيث عملية الاختفاء وتدريب العناصر والمقاتلين وتخزين السلاح، ولذلك تلجأ أغلب تنظيمات التطرف العنيف الي البيئات الصحراوية البعيدة عن مركز الحكم في العاصمة والمدن الكبرى، وهو ما عبر عنه تنظيم «داعش» في أدبياته بالبيئات الهشة والحدودية، حيث يؤكد كتاب «إدارة التوحش» الذي يعد بمثابة الاستراتيجية الرئيسية لداعش على استغلال البيئات الجغرافية الهشة والحدودية عبر مفهوم إدارة الفوضى المتوحشة والتي تنقسم الي ثلاث مراحل هى «الإنهاك وإدارة التوحش والتمكين». وقد قسمت هذه الاستراتيجية الدول المستهدفة الي مستويين: الأول دول متماسكة ذات سلطة مركزية علي الاطراف، والثانية دول تفتقد السيطرة علي الأطراف، ومن ثم تتسم تلك المناطق فيها بضعف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والأخيرة هي نقطة الانطلاق للتنظيم بطبيعة الحال.
2- التركيبة الديموغرافية والأوضاع الاقتصادية: يعتبر عنصر الديموغرافيا أحد العوامل المحدده لنشاط وظهور تنظيمات التطرف العنيف في مكان ما، وهو من العوامل القديمة المؤثرة في ظهور الجماعات التكفيرية ويمكن ملاحظة تأثير هذا العامل في أماكن ظهور تنظيم الجماعة الاسلامية وتنظيم الجهاد والتكفير والهجرة والشوقيين خلال فترة الموجه الثانية من تنظيمات التطرف العنيف خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهو الأمر الذي ينطبق على الإرهاب الذي اتخذ من الصحراء الغربية ساحة لنشاطه.
3-عدم الاستقرار الإقليمي: أى التحول في البيئة السياسية والأمنية الجارية بدول الإقليم، حيث يعتبر الاستقرار السياسي عامل محدد وهام في فاعلية التنظيمات المتطرفة، كما حدث في أعقاب الحراك الشعبي ببعض دول المنطقة منذ عام 2011، وما أسفرت عنه حالة عدم استقرار سياسي وأمني ساعد علي تنامي نفوذ وقدرات التنظيمات المتطرفة العنيفة. ويتضح هذا العامل في مناخ عدم الاستقرار السياسي وتأثير جماعات التطرف العنيف في ليبيا على جماعات مشابهة في مصر مرورا بالصحراء الغربية المتاخمة للحدود مع ليبيا.
4-الارتباط مع تنظيمات عابرة للحدود: ويتمثل في الارتباط العقائدي والفكري والتنظيمي مع تنظيمات عابرة للحدود مثل القاعدة و«داعش»، حيث تلعب المنطلقات الفقهية والعقائدية للتنظيمات المتطرفة دورا مهما في عملية استمرار التنظيم وقدرته علي استقطاب المزيد من المواطنين والأفراد، بجانب مدى قوة وفاعلية التنظيم المركزي ،حيث تؤثر قوة أو ضعف الحالة التنظيمية لمركز التنظيم ومدى هيمنته علي أفرع التنظيم المختلفة بالدول دورا مهما، وهو ما يمكن ملاحظته مع حالة التراجع الشديد للتنظيمات القاعدية في الإقليم تاريخيا، بعد مقتل أسامة بن لادن، وهو نفس الأمر الذي تم رصده مع تراجع فاعلية المركز وتأثيره علي أفرع تنظيم داعش بدول المنطقة بعد سقوط دولة الخلافة الداعشية في الباغوز في مارس 2019 ومقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي في أكتوبر 2019.
5-التنافس والصراع التنظيمي: والمقصود هنا التنافس والصراع التنظيمي بين الجماعات والتنظيمات المتطرفة المتواجدة بدول الإقليم، حيث تلعب الصراعات بين التنظيمات المتطرفة العنيفة بالمنطقة دورا مهما في استمرارية ونشاط الجماعات الفرعية للتنظيم، وهو ما حدث مع ظهور تنظيم «داعش» 2014 وانتصاره في الصراع مع تنظيم القاعدة، مما أنعكس علي فك ارتباط العديد من تنظيماتها الفرعية بدول المنطقة، حيث شهدت تحولا في البيعة من قيادة القاعدة إلى بيعة أبو بكر البغدادي
6- التعاون المعلوماتي والتنسيق الأمني: أى التعاون المعلوماتي والتنسيق الأمني بين دول الإقليم والعالم لمواجهة تلك التنظيمات المتطرفة، فمواجهة أحد التنظيمات المتطرفة بدولة ما لا يكون بمعزل عن مواجهة باقي التنظيمات الأخري بدول المنطقة، للحد من انتقال الافراد وتبادل المعلومات ونقل الأموال والسلاح، وهو ما يجعل من التعاون الأمني والمعلوماتى بين الدول عاملا رئيسيا في آليات المواجهة الشاملة مع التنظيمات المتطرفة العنيفة.
وبتحليل تلك العوامل الستة السابقة نلاحظ حدوث بعض التطورات من حيث التراجع الواضح في قدرات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا، مما أثّر بشكل مباشر على قدرة فروع تنظيم داعش بدول الإقليم من ناحية، وتصاعد معدلات التنسيق الأمني والمعلوماتي بين بدول الاقليم والعالم، بجانب اهتمام الدولة المصرية بالمناطق الحدودية التي تتمركز بها بعض التنظيمات المتطرفة من ناحية أخرى. وقد أنعكس العامل الرابع بالذات (الإرتباط مع تنظيمات عابرة للحدود) على وضع التنظيمات المتطرفة بمصر في شكل ظهوربعض التنظيمات التابعة لتنظيم القاعدة مرة أخرى بعد ثلاث سنوات من اختفاء تواجدها منذ إعلان تنظيم «بيت المقدس» البيعة لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» (في نوفمبر 2014) وفك الارتباط التنظيمي والفكري مع تنظيم القاعدة، وتغيير اسم التنظيم من «أنصار بيت المقدس» إلى «ولاية سيناء» كجزء من «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق.
ظهور «مؤقت وهش» للقاعدة
خلال شهر أكتوبر من عام 2017 شهدت المنطقة الغربية المصرية اشتباكات بين قوات الأمن وبعض العناصر المتطرفة العنيفة والمعروفة بأحداث (الكيلو 135 طريق الواحات)، أسفرت عن سقوط 16 شهيدا من قوات الأمن المصري، وما يقرب من 13 مصابا، وفقا لبيان وزارة الداخلية، وذلك أثناء قيام قوات الأمن باقتحام إحدى نقاط تمركز تلك العناصر الارهابية بالصحراء الغربية، حيث أعلن تنظيم «أنصار الإسلام» مسئوليته عن تلك الأحداث. وقد نعى التنظيم المتطرف في بيانه الإرهابي (عماد عبد الحميد) وهو واحد من قيادات تنظيم المرابطون التابع لتنظيم القاعدة والمنشق عن تنظيم بيت المقدس في أعقاب إعلان الأخير البيعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في نوفمبر 2014، حيث أسس الإرهابي (هشام عشماوي) وبعض قيادات تنظيم بيت المقدس مثل (عماد عبد الحميد ووليد بدر) تنظيما جديدا تحت مسمي (المرابطون)، انتقل للمنطقة الغربية ثم إلى منطقة (درنة) بالأراضي الليبية، لتكون نقطة ارتكاز قريبة من الحدود المصرية.
وعلي الرغم من الظهور المفاجئ لجماعات متطرفة عنيفة تابعة لتنظيم القاعدة بمنطقة الصحراء الغربية، إلا أنه يعد من قبيل الظهور «المؤقت» وغير المستمر، ويرجع ذلك لكون البيئة المحلية بالصحراء الغربية تختلف عن البيئة الصحراوية الشرقية وبيئة سيناء، وهو ما جعل ارتكاز عناصر متطرفة عنيفة وظهورها «مؤقتا». ويرجع ذلك إلي سببين:
أولا: البيئة السلفية السائدة: حيث يدخل المكون الديني الأقرب الي المدرسة السلفية، في تكوين وعادات وأعراف القبائل والعشائر المنتشرة في منطقة الصحراء الغربية للبلاد، مع ضعف التأثير الجهادي العنيف، بجانب اهتمام الدولة علي مدار الثلاثين عاما الماضية بالتمدد العمراني بالمنطقة الغربية، سواء علي ساحل البحر المتوسط (الساحل الشمالي والشريط الجنوبي الملاصق له)، أو صحراء الجيزة غربا (مدينة السادس من أكتوبر وما حولها) والرواج السياحي بواحة سيوه، والذي أثّر بشكل كبير علي المكون الثقافي للقبائل من ناحية، ومن ناحية أخرى على الارتباط الوظيفي بين القبائل والدولة والمجتمع في عملية الاستفادة من التمدد العمراني وعملية التنمية والنشاط السياحي، بجانب رواج عملية التجارة البينية علي الحدود المصرية الليبية.
ثانيا:عدم وجود نزاعات تاريخية بين القبائل والدولة: فلم تتبلور أي نزاعات كبيرة بين القبائل والدولة المركزية في مناطق الصحراء الغربية، وهو ما أثر علي عملية التعاون بين الطرفين، سواء علي المستوى الأمني والمعلوماتي، أو علي مستوى تبادل المنفعة النابعة من عملية التمدد العمراني، وهو ما جعل القبائل والعشائر بالمنطقة الغربية للبلاد أقرب الي الدولة المركزية، مقارنة بقبائل مناطق صحراوية طرفية أخرى في مصر، بجانب تنامي اهتمام الدولة المركزية من الناحية الأمنية بالمنطقة الغربية لمصر في أعقاب سقوط النظام الليبي السابق وانهيار الدولة الليبية عبر التعاون مع القبائل الحدودية ورفع القدرات الأمنية والعسكرية علي خط الحدود المصري الغربي، وهو ما ساعد علي الحد من عملية تمدد التنظيمات الارهابية بالمنطقة، والحد من قدرة تلك التنظيمات علي اختراق مجتمعاتها وتنفيذ عملية الاستقطاب والتجنيد.