«انطلقت النساء مع العمال والطلاب بالإقليم الأشهر بنيجيريا «إقليم دلتا النيجر» في مظاهرات عارمة نجم عنها إحتلال محطات إنتاج النفط ومن ثم قاموا بإغلاقها، فانطلقت المروحيات تمطرهم بطلقات النيران فحصدت الكثير من أرواحهم.. سال الدم مرات عديدة، حتى تم إعتقال الكاتب والمناضل «كين ساروا ويوا» المتحدث الرسمي ورئيس حركة «من أجل بقاء شعب الأوغوني» ومحاكمته محاكمة عسكرية انتهت بشنقه في (1995)، فكتبت الصحف العالمية تندد بتلك الأحداث الدامية بعناوين على شاكلة «النفط الدموي» و«الدم مقابل النفط» لتكشف بذلك عن واحدة من أكبر الإنتهاكات في مجال حقوق الإنسان في نيجيريا، تمت برعاية العديد من شركات النفط متعددة الجنسيات بالتعاون مع الحكومات النيجيرية المتعاقبة»..
الكاتب والناشط النيجيري كين سرو ويوا
بتلك المقدمة تستهل رشا رمزي الباحثة المتخصصة في الدراسات الإفريقية، دراستها التي صدرت هذا العام عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تحت عنوان «موت بطعم النفط.. نيجيريا»، والتي تتناول فيها قضية الفساد في نيجيريا وعلاقته بالشركات متعددة الجنسيات والصراع الدموي المستمر منذ بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي، والأبعاد الحقيقية وراء هذا الصراع سواء كانت دينية أو عرقية.
جذور الصراع
تشير الدراسة إلى أن «إقليم دلتا النيجر» ظهر على قائمة أكثر المناطق توترا بافريقيا منذ عقد التسعينات من القرن الماضي، بسبب النزاع المسلح والإعتداءات التي استهدفت بالأساس المنشآت البترولية. وكان هذا النزاع قد اندلع نتيجة الصراع على النفط بين السكان المحليين والجماعات الإقليمية المهمشة من جهة، والشركات المتعددة الجنسيات بمعونة الحكومة النيجيرية وبعض شركات الأمن الخاصة من جهة أخرى.
وفي بحثها عن جذور الأزمة تتناول رشا رمزي في دراستها التاريخ الإجتماعي لنيجيريا عبر ما يزيد عن قرن ونصف من الزمان، ومن ثم تتوقف عند منتصف القرن التاسع عشر (1850)، حين كانت نيجيريا تخضع لسلطة الاحتلال البريطاني، ومن ثم سيطرة التجار الأوربيين على إنتاج «زيت النخيل» الذي اشتهر به «إقليم دلتا النيجر» إلى جانب «تجارة الرقيق» التي كان للبرتغاليين السبق فيها وتبعهم البريطانيون والهولنديون والفرنسيون.
وقد نجحت سلطة الإحتلال البريطاني في غرس وتغذية روح الصراع الإثني بين القبائل المختلفة داخل البلاد. فقد كان شعب «الإجبو» يستوطنون منطقة «إقليم دلتا النيجر» حتى جاء الإستعمار البريطاني ،فعمد إلى تشجيع هجرة عدد من القبائل الأخرى إلى ذلك الإقليم .وكان من أهم أسباب ذلك -من وجهة نظر الباحثة- سياسات «تجارة الرقيق» التي اعتمدت بشكل مباشر على غزو القبائل لبعضها البعض بهدف «أسر الرقيق» ،ما خلق نوعا من الصراع الإثني الذي لم ينته أثره حتى اللحظة الراهنة.
ومع خضوع نيجيريا بكاملها تحت سيطرة «الحاكم البريطاني» تمكن رجل الأعمال البريطاني «سير جورج جولدي تابمان» مالك شركة «النيجر الملكية» من الحصول على حق السيطرة واحتكار التجارة على طول الساحل النيجيري، ومن ثم تمكن من السيطرة على ثروات نيجيريا بشكل عام و«إقليم دلتا النيجر» بشكل خاص. ولم يقتصر دور شركة «النيجر الملكية» على التبادل التجاري وإستغلال ثروات البلاد، بل وصل الأمر حد المساهمة في القضاء على العديد من الممالك القبلية «سوكوتو – برونو – بروجو» ،وذلك تحت شعار «محاربة تجارة الرقيق».
سير جورج جولدي تابمان
النفط وسلسال الدم
تم إكتشاف النفط في إقليم «دلتا النيجر» لأول مرة في (1908) بواسطة سلطة الإحتلال البريطاني وبمعاونة شركة «بيتومين» الألمانية، ثم توقف البحث، وتوالت محاولات التنقيب من قبل شركات النفط الغربية على فترات متفرقة، مثل شركة «شل ب ب» التي بدأت التنقيب ثم توقفت عند إندلاع الحرب العالمية الثانية، وشركة «موبيل» التي بدأت عملها في (1955)، إلا أنه لم يتم إستخراج النفط من نيجيريا بهدف تداوله بشكل إقتصادي إلا في (1956) على يد شركة «شل ب ب»، وتم تصدير أول شحنة من هذا النفط في عام (1958)، وقد حققت شركة «شل» مكاسب ضخمة نتيجة إحتكارها إستخراج النفط من الإقليم كاملا.
في عام 1960 حصلت نيجيريا على إستقلالها عن بريطانيا، إلا أن نيران الصراع الإثني التي غرسها الإستعمار ظلت مشتعلة، وتواكَب مع هذا الصراع الاكتشافات المتعددة لآبار النفط، وهى اكتشافات لم تتوقف حتى اللحظة الراهنة.
المثير في الأمر أنه بالرغم من الدور الكبير الذي يمثله النفط في مجمل الحياة الاقتصادية والسياسية بنيجيريا، إلا أن دور الحكومة النيجيرية كان محدودا للغاية في إدارة إستخراج النفط ومن ثم تصديره، فالأمر برمته كان متروكا للشركات متعددة الجنسيات، فيما انحصر دور الحكومة في تحصيل الضرائب وحقوق الاكتشاف، أما تحديد سعر البرميل على سبيل المثال فكان متروكا للشركات ذاتها دون أي تدخل أو رقابة من قبل الحكومة النيجيرية، وتعد الولايات المتحدة المستورد الأول للنفط النيجيري، تليها بريطانيا التي تستحوذ على كمية كبيرة من هذا النفط عبر شركاتها العاملة في هذا المجال، إلى جانب عدد آخر من البلدان الغربية التي تعتمد على إستيراد البترول من نيجيريا.
وهكذا نشأ – كما تشير الباحثة – تحالف دائم ومستمر فيما بين الحكومات النيجيرية المتعاقبة منذ الإستقلال وبين شركات النفط متعددة الجنسيات، الأمر الذي أسهم بدوره في تفاقم الأزمة بين السكان المحليين وهذه الشركات، وصولا لحالة الصراع المسلح بينهم، وزاد من حدة هذا الصراع ما شاع من فساد لدي مسئولي الحكومات المختلفة وإنعدام للشفافية.
ويعود السبب الرئيسي وراء هذا الصراع الدامي – من وجهة نظر الباحثة – إلى أن «إقليم دلتا النيجر» الذي يقطنه ما يقرب من ثلاثين مليون شخص، ورغم أنه يعد الأعلى إنتاجا للبترول في نيجيريا، التي تعد بدورها أكبر دولة مصدرة للنفط بإفريقيا، إلا أن أكثر من 75 في المائة من سكان الإقليم يعيشون تحت خط الفقر، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والجريمة بمختلف أشكالها من سرقة بالإكراه لخطف وقتل ومعدلات ممارسة للبغاء عالية، وغيرها من مظاهر الإنحراف الناجمة عن شدة الفقر والتخلف معا.
الجماعات والحركات المحلية
ولمواجهة الظلم الإجتماعي الذي يتعرض له «سكان إقليم دلتا النيجر» وقصور الخدمات من تعليم وصحة وغيرها من الخدمات العامة إلى جانب تفشي أزمة التلوث البيئي الناجم عن صناعات البترول، تشكلت العديد من الجماعات والحركات المحلية، منها ما تشّكل على أسس عرقية للدفاع عن مصالح الجماعة العرقية التي تنتمي لها الجماعة، ومنها ما جاء عابرا للإثنية مطالبا بعدالة توزيع خيرات البلاد بصرف النظر عن الإنتماء الإثني، ومنها ما ينتمي للجماعات المسلحة التي اتخذت من العنف مسارا لها منذ بداية حراكها. ومنها ما أطلق دعوته بشكل سلمي عبر توجيه شكاوى للشركات متعددة الجنسيات وتنظيم التظاهرات السلمية، التي قابلتها الحكومة بالعنف المفرط الأمر الذي دفع بعض الشباب المنتمي لتلك الحركات السلمية إلى حمل السلاح والإنضمام للجماعات المسلحة.
وعبر دوامة العنف والعنف المضاد بين السكان المحليين وتنظيماتهم من جانب، وبين شركات البترول متعددة الجنسيات والحكومة النيجيرية وشركات الأمن الخاصة من جانب آخر، تواصل العنف الدموي الذي تسبب في مقتل أكثر من 14 ألف مواطن منذ تسعينيات القرن الماضي، إلى جانب تشريد أكثر من ثلاثة ملايين مواطن، وسيطرة المليشيات المسلحة على الإقليم، فبات النفط حقا يحمل لقب «النفط الدموي».
توصيات
ارتكزت رشا رمزي في تفسيرها لأسباب الصراع الدموي «بإقليم دلتا النيجر» على إنتشار الفقر المدقع وتغلغل منظومة الفساد بالمجتمع النيجيري وسيطرة الشركات المتعددة الجنسيات على النفط بنيجيريا وكأنها تمارس نوعا من «الإستعمار في ثوب جديد» إلى جانب الصراع الإثني بين القبائل المختلفة، غير أنها استبعدت البعد الطائفي الديني في تأجيج الصراع.
وفي ختام دراستها تطرح الباحثة مجموعة من التوصيات التي تعتقد أن من شأنها المساعدة في حل الصراع في «إقليم دلتا النيجر». ومن بينها العمل على تشكيل جبهة موحدة تضم الفئات الاجتماعية المختلفة «عمال، فلاحون، صيادون» في مواجهة الشركات متعددة الجنسيات والحكومة على حدا سواء، الأمر الذي يدعم قدراتهم التفاوضية.
كما توصى الباحثة بأن تعمل الحكومة النيجيرية المركزية على تقديم بعض التنازلات لصالح المجتمعات المحلية، عبر إشراكها في إدارة مختلف الأمور المتعلقة بالإقليم، ودراسة أثر التلوث البيئي على صحة السكان، ومن ثم توفير مختلف الخدمات العامة من تعليم وصحة إلى آخره. وتشير إلى ضرورة مراقبة عمل شركات النفط متعددة الجنسيات، مع العمل على الحد من منظومة الفساد.
كين سرو ويوا و8 آخرون أثناء المحاكمة عام 1995