في أحد مشاهد المسلسل التليفزيوني «الخواجة عبد القادر» للمؤلف عبد الرحيم كمال والمخرج شادي الفخراني، ثمة حوار ذو دلالة بين الأب المتصوف (محمود الجندي) وابنه المتزمت. فالإبن يرى أن الموسيقى والغناء إثم لا يجوز، في حين يدافع الأب عنهما، مؤكدا له أن الـ«سماع» أو «فن الإنشاد الصوفي» هو ما جذب «الخواجة» – الذي عاش في قريتهم – إلى الإسلام وما لبث أن اعتنقه.
لطالما تساءلت عقب مشاهدة هذا المشهد عن مدى إمكانية أن يتحقق ذلك على أرض الواقع، أي أن يكون الفن مدخلاً ينفذ من خلاله شخص ما إلى روح الإسلام وجوهره؟.. وجاءني الجواب من خلال تتبعي لمسيرة الفنانة الأمريكية الشابة جينيفر جراوت. ففي عام 2013، ومن خلال إحدى حلقات برنامج المواهب التليفزيوني «مواهب العرب» أو «آراب جوت تالنت» فوجيء الجمهور العربي بفتاة أمريكية شقراء تمسك بآلة العود وتشدو عليها بأغنيات أم كلثوم وأسمهان بأداء مدهش وإجادة لافتة للغة العربية.
كانت الشقراء هي جينيفر جراوت، الإبنة لأسرة فنية من مدينة بوسطن الأمريكية، والتي سلكت – كوالديها – طريق الفن والموسيقى وقررت دراستهما بشكل أكاديمي. وأثناء دراستها في كندا بدأت رحلتها مع الموسيقى العربية، حيث تعرفت على فن الطرب من أساتذتها العرب هناك، وسرعان ما وقعت في غرام هذا الفن ورموزه وعلى رأسهم أم كلثوم.
أتقنت جراوت العزف على آلة العود بمعاونة معلميها، ومن الطريف حقاً أنها – وللحصول على دخل إضافي – أثناء سنوات دراستها، فإنها كانت تقدم فقرة فنية في مطعم سوري في مدينة مونتريال الكندية – حيث كانت تقيم- وقد لاقت هناك اعجاباً وترحيباً من مجتمع المغتربين العرب.
وبتشجيع من أسرتها، سافرت جراوت إلى بيروت، حيث شاركت في برنامج «مواهب العرب» ونجحت في الوصول إلى المرحلة نصف النهائية. ورغم أنها لم تفز باللقب في ذلك الموسم، إلا أنها حظيت باعجاب الجمهور ولجنة التحكيم على حد سواء. وقد فتحت هذه المشاركة طريقا لها، ليس إلى الموسيقى العربية فحسب، بل إلى الثقافة العربية والدين الاسلامي أيضا.
اعتناق الإسلام.. وحفظ القرآن
فبعد زيارة قامت بها إلى المغرب تعرفت جراوت على الفنان المغربي الشاب سعيد الزاتي العضو في فرقة تقدم التراث الموسيقي الأمازيغي. وقد جمع حب الفن والموسيقي بينهما، وسرعان ما وجد كل منهما في الآخر ضالته المنشودة، وتوجا حبهما بالزواج في عام 2016. وفي فيديو بثته على مواقع التواصل الاجتماعي في ذلك العام، أعلنت جراوت أنها اعتنقت الاسلام ونطقت الشهادتين كما أكدت أنها تحفظ القرآن الكريم بمعاونة زوجها.
وعلى مدار الأعوام الثلاثة التالية برعت جينيفر بمعاونة سعيد في أداء وتقديم كافة أنواع التراث الموسيقي الثري في المغرب، فتنوعت أغانيها التي قدمتها للجمهور، ما بين الموسيقى الأندلسية والأمازيغية وغيرها. في الوقت ذاته، انكبت جراوت على دراسة اللغة العربية وتلاوة القرآن الكريم. وفي عام 2019 فاجأت جمهورها عبر شبكة الانترنت بتلاوة متقنة لآيات من الذكر الحكيم، مؤكدة أنها تأثرت بكبار القراء وعلى رأسهم القاريء المصري الراحل محمد صديق المنشاوي.
كما دفعها حبها للغة العربية إلى اختيار اسم عربي لابنتها التي رزقت بها من زوجها المغربي، حيث أسمتها «قمر»، وقالت في حوار صحفي: «أنا اخترت هذا الإسم لأنه كان لدي علاقة وثيقة بسورة القمر عندما كنت حاملا بابنتي قمر، فقررت أن أسميها بهذا الإسم إن رزقت بإبنة».
ورغم عودتها للإقامة في الولايات المتحدة، إلا أن جراوت لا تزال على عشقها للثقافة العربية، حيث أسست مع مجموعة من الفنانين في مدينة نيويورك ما يعرف بمشروع «التخت»، وهو مشروع موسيقي يهدف إلى تقديم الموسيقى الشرقية للجمهور الأمريكي عن طريق أدوات التخت التقليدية التي كانت سائدة حتى منتصف القرن العشرين تقريباً.
ومع إصرارها الدائم على أنها لا تسعى إطلاقاً لأن تكون داعية أو ممثلة للدين الاسلامي، إلا أنها تستغل كافة الفرص المتاحة للتعريف بالاسلام والاحتفاء باللغة العربية، وكان آخرها اليوم العالمي للغة العربية، حيث قدمت فيه من خلال موقعها قصيدة باللغة العربية الفصحى، وأهدتها لمن يحتفلون بهذا اليوم من العرب وغير العرب على حد سواء.
كان الفن بالنسبة لجراوت، شأنها في ذلك شأن «الخواجة عبد القادر»، مدخلاً نفذت منه إلى الدين الاسلامي، وذلك برغم مناخ عام تسوده فتاوى تحريم الغناء وكراهية الفنون بكافة أشكالها.
وهو الأمر الذي يدعو للتساؤل.. هل يمكن أن تكون موسيقانا وفنوننا – نحن معشر العرب – أداة دعاية لديننا وعقيدتنا؟