منوعات

من دولة إلى جماعة متمردة.. تنظيم «داعش» يخطط للعودة

*آرون زيلين – زميل في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وباحث زائر في جامعة برانديز الأمريكية

*عرض وترجمة: أحمد بركات

لم تمثل خسارة الأرض وسقوط الدولة في مارس 2019 صدمة ترنحت تحت وقعها مفاصل تنظيم الدولة، ولا انتصارا حاسما لقوى «مكافحة الإرهاب» في العالم. فمنذ عام 2016، وضع تنظيم الدولة الإسلامية خططا استباقية تساعده على البقاء على قيد الحياة، بل ومواصلة نشاطاته العملياتية عبر استراتيجيات جديدة في حال سقوط دولته في العراق وسوريا، وقد عول في هذه الخطط على دروس الانتكاسات التي مني بها التنظيم بين عامي 2007 و2009.

خطط استباقية

ففي خطبته التي ألقاها في مايو 2016، بدا أبو محمد العدناني، المتحدث الرسمي باسم التنظيم آنذاك، وكأنه يهئ أنصار الجماعة لتحمل تبعات «هزيمة تكتيكية أخرى» قد يمنى بها تنظيمهم. في هذه الرسالة، عرًف العدناني النصر الحقيقي بأنه «هزيمة الأعداء»، ثم تساءل: «هل هُزمنا عندما فقدنا بعض المدن في العراق، وآوينا إلى الصحراء بلا مدن أو أرض؟ وهل سنكون مهزومين إذا خسرنا الموصل، أو سرت، أو الرقة؟» وبرغم الإجابات الذاتية التي تنطوي عليها تساؤلاته، إلا أنه أردف: «كلا والله؛ فالهزيمة الحقيقية هي خسارة الإرادة وانحسار الرغبة في الجهاد»

 

كما أعد تنظيم الدولة أنصاره مسبقا لإمكانية «استشهاد البغدادي». ففي نوفمبر 2016، حذر البغدادي نفسه أتباعه قائلا: «اعلموا أنه إن مات بعض قادتكم أو قتلوا، فإن الله سيبدلكم مثلهم أو خيرا منهم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم».

 ومن غير المرجح – على الأقل حتى الآن – أن تكون هذه الانتكاسات قد نالت من أنصار التنظيم خاصة على المستوى الأكثر تشددا. رغم ذلك، فقد كبلت خسارة الأرض وسقوط الدولة قدرة التنظيم على تجنيد عناصر جديدة على المستويين المحلي والعالمي، حيث تراجع النشاط التجنيدي لتنظيم الدولة عما كان عليه في الفترة بين عامي 2012 و2015، عندما دفع به زخم رسائل النصر أو الشهادة إلى آفاق جديدة تتجاوز حتى إعلان الخلافة.

مرحلة جديدة من المشروع الجهادي

بعد سقوط بلدة «الباغوز» السورية، آخر ما تبقى لتنظيم الدولة من حطام دولته، في مارس 2019، أعلن المتحدث باسم التنظيم آنذاك، أبو الحسن المهاجر، أنه «بفضل الله، لم يزل أبناء الخلافة يبرهنون على أنهم الصخرة الصلبة التي سيتحطم عليها تحالف الكفر». وأضاف: «سيتراجعون، وسيجرون وراءهم أذيال الخزي». كان ذلك في سياق التأكيد على أن الخسارة ليست سوى اختبار إلهي لتطهير الصف: «إنما النصر صبر ساعة، وبالصبر يتحقق اليقين في الوعد». 

وفي رسالته المصورة التي تم بثها في أبريل 2019 (هذه الرسالة هي الثانية فقط التي ظهر فيها البغدادي بوجهه على مدى تسع سنوات تولى فيها قيادة الجماعة)، امتدح البغدادي «المجاهدين الصابرين المحتسبين» ضد ما وصفه بـ «وحشية الصليبيين». كما أكد أن المعركة «الراهنة» ليست سوى حلقة في سلسلة استنزاف طويلة الأمد «ستجهض قوى العدو» على المدى الطويل. أبرز البغدادي أيضا في هذه الرسالة الأنشطة التي تضطلع بها «الولايات» التابعة للتنظيم خارج العراق وسوريا ليؤكد عزم التنظيم على المضي قدما في مشروعه الجهادي ضد «قوى الصليب»، وأن خسارة مساحة من الأرض، أو عدد من المدن لا يعني بحال نهاية المطاف الجهادي، وإنما «بداية مرحلة جديدة».

تراجع القدرة التعبوية للتنظيم

في أعقاب الهزائم المتتالية التي مُني بها التنظيم على يد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وخسارة المدن التي كان يسيطر عليها، دشن التنظيم حملة ’فيديوهات‘ بعنوان «والعاقبة للمتقين». استهدفت هذه الحملة التأكيد على محافظة الجماعات المختلفة في الشبكة العالمية للتنظيم على ولائها للجماعة الأم. وقد حظيت هذه الحملة بدعم قوي من فروع التنظيم الأساسية في العراق وسوريا، إضافة إلى «الولايات» في بنجلاديش واليمن وجمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق والصومال وتونس وتركيا وليبيا وأذربيجان وأفغانستان والشيشان والفلبين ونيجيريا، والتي تكتسب أهمية خاصة ببعدها عن المركز.  

وبعد مقتل البغدادي في 27 أكتوبر الماضي، نشر التنظيم مقالة مصورة تبرز بيعة مقاتليها في الولايات المختلفة للخليفة الجديد، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي. شملت هذه الصور فروع التنظيم في بنجلاديش والصومال وباكستان واليمن وسوريا وأفغانستان وتونس ونيجيريا والفلبين وجمهورية الكونغو الديمقراطية و وموزمبيق ومالي وبوركينا فاسو والعراق وليبيا وإندونيسيا وأذربيجان.  

وترجع أهمية هذه الحملة إلى سببين رئيسيين. أولهما، أن البيعات تتعلق بالقائد (الخليفة) وليس بالجماعة، ومن ثم فهي بحاجة دائمة إلى التجدد مع تجدد الخليفة. وثانيهما، أنها تمثل وسيلة لشرعنة حكم القرشي وخلق حدث إعلامي يساعد الجماعة على الترويج لنفسها، خاصة وهي على مشارف مرحلة جديدة. كانت العملية مهمة – إذن – ليس فقط لإضفاء الشرعية على القيادة الجديدة، وإنما أيضا للقضاء مسبقا على أي تمرد محتمل قبل الدخول في طور جديد، مثلما حدث عندما تمرد تنظيم الدولة ضد تنظيم القاعدة في الماضي. 

من دولة إلى جماعة متمردة

لا توجد أي دلائل على حدوث انقسامات في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا بعد سقوط آخر معاقله في بلدة الباغوز في مارس 2019. وفي هذا السياق، تشير تقديرات البنتاجون إلى أن ما بين 14 إلى 18 ألفا من مقاتلي تنظيم الدولة في سوريا والعراق، لا يزالون هناك. كما تشير الأحداث التي وقعت خلال الشهور التسعة الأخيرة (من سقوط الباغوز إلى الآن) إلى أن تنظيم الدولة لا يزال يمارس نشاطه كجماعة متمردة في كلتا الدولتين، حيث ركزت عناصره جهودها خلال هذه الشهور على اقتحام السجون وإطلاق سراح سجنائهم، وربما استعادة الأرض التي فقدوها. كما يخوض التنظيم بجدارة حرب استنزاف طويلة الأمد، تعول عليها قيادته في إنهاك «قوى العدو» وخلق رأي عام غربي ضد مشروع الحرب. في الوقت نفسه، يسعى التنظيم بقوة إلى الاستفادة من المساحات التي لا تصل إليها يد الحكومة المركزية في كلتا الدولتين، واستغلال خطوط الصدع السياسي والإثني والديني من أجل إقامة حكم بديل على غرار ما يحدث في بعض مناطق الساحل الإفريقي.

أما عن النشاط العملياتي فقد أعلن تنظيم الدولة في الفترة بين مارس 2019 وديسمبر 2019 مسئوليته عن أكثر من 1500 عملية في كل من العراق وسوريا. ففي سوريا وحدها أعلن التنظيم مسئوليته عن تنفيذ 424 هجوما في دير الزور، و129 في الحسكة، و115 في الرقة، و37 في حمص، و20 في درعا، و11 في حلب، و3 في دمشق. أما في العراق فقد أعلن التنظيم أيضا مسئوليته عن 336 عملية في ديالي، و133 في كركوك، و111 في نينوي، و111 في بغداد، و107 في الأنبار، و54 في صلاح الدين، و27 في بابل.

رغم ذلك، فقد شهد النشاط العملياتي لتنظيم الدولة تراجعا لافتا عما كان عليه في الماضي، خاصة في ذروة نشاطه العملياتي في الفترة بين عامي 2014 و2016. واعتبارا من نوفمير 2019 وصل المعدل الشهري للهجمات في العراق إلى أدنى مستوياته منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وفقا لما أورده جويل وينج، المتخصص في الشأن العراقي ومؤلف كتاب Musings on Iraq (تأملات في العراق) (2018).  

وتعد محافظتا دير الزور السورية وديالى العراقية أكبر المناطق التي جذبت نشاطا عملياتيا في الشهور التسعة الماضية، حيث نجحت الجماعة في الاستفادة من عدم قدرة الحكومة المركزية على بسط سيطرتها على هاتين المحافظتين، واستخدمتهما كقاعدتين لإعادة البناء. وقد حدد تنظيم الدولة أهدافه الاستراتيجية لعناصره في سلسلة من المقالات تم نشرها في صحيفة “النبأ” التابعة للتنظيم في أواخر ربيع عام 2019. وتمثلت أهم هذه الأهداف – من بين أشياء أخرى – في التركيز على العمليات الاستخباراتية، ومفاجأة الأعداء في مناطق الضعف، والظهور والاختفاء بصورة منهجية تؤدي إلى إرباك حسابات الأعداء، والاستيلاء على بعض المواقع لفترات قصيرة من أجل الحصول على المؤن والإمدادات، وتنفيذ أحكام بالإعدام بحق بعض القيادات المحلية من شيوخ القرى والزعماء القبليين وغيرهما ممن يثبت تعاونهم مع الأعداء، والحصول على غنائم الحرب، وتحرير السجناء، ووضع خطط الانسحاب الآمن، ومعرفة المخارج المناسبة، والعودة إلى ملاجئ آمنة.

مصادر التمويل

لم يعد كاهل تنظيم الدولة مثقلا بنفقات كثيرة بعد أن سقط عنه عبء إدارة الدولة. لكن الجماعة «ما زال لديها ثروة ضخمة تقدر بحوالي 300 مليون دولار، فضلا عن أنها تشجع ولاياتها في جميع أنحاء العالم على تحقيق اكتفاء ذاتي مالي»، وفقا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو 2019. وبعد سقوط آخر معاقله في الباغوز، قام تنظيم الدولة بإعادة استثمار أمواله في أعمال تجارية مشروعة، مثل وكالات العقارات والسيارات. ويوجد عدد من هذه الوكالات في تركيا، وفقا لما أعلنته وزارة الخزانة الأمريكية، التي حددت الأفراد وشركات الصرافة التابعين لتنظيم الدولة؛ وهو ما دفع بتركيا في سبتمبر 2019 إلى تفكيك بعض هذه الشبكات.

يمتلك تنظيم الدولة أيضا خطط ابتزاز تنظم عمليات اختطاف مقابل الحصول على فدية، وفرض ضرائب على الإتجار بالبشر وخطوط إمدادات النفط، وبيع أصول مختلفة في السوق السوداء، والاستفادة من الفساد المستشري في دوائر جهود إعادة الإعمار في غرب العراق، وجمع أموال الزكاة من السكان المحليين في المدن التي تنجح عناصره في السيطرة عليها لفترات قصيرة من الزمن.  

*هذه المادة مترجمة (باختصار). يمكن مطالعة النص الصلي باللغة الإنجليزية من هنا 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock