بيت صغير في قلب القاهرة الفاطمية، قُدّر له أن يكون تجسيدا لتعانق الوطنية المصرية مع العمامة الأزهرية، وأن ينجب أسرة تداولت الذود عن الوطن وحماه من جيل إلى أخر.
حمل البيت اسم آل القاياتي نسبة إلى قرية القايات في محافظة المنيا، التي أتت منها تلك العائلة إلى القاهرة، لتلحق أبنائها بالدراسة في الأزهر الشريف ويتناوبوا طلب العلم هناك. وفي عام 1879، شهدت تلك العائلة مولد الشيخ مصطفى القاياتي الذي قُدّر له فيما بعد أن يكون الامتداد الطبيعي لمسيرة أسرته في طلب العلم وفي العمل الوطني على حد سواء.
الشيخ مصطفى القاياتي
نشأ الشيخ مصطفى في أجواء عمّقت داخله الحس الوطني، حيث تزامن مولده في ذلك العام مع هبة الوطنيين المصريين، وفي مقدمتهم العسكريين، لاسترداد السيادة من أيدي الأجانب الذين فتحت لهم الديون التي تراكمت على خديو مصر آنذاك اسماعيل باشا، الباب لنهب البلاد والتحكم في أبنائها.
وقد بلغت سطوة الأجانب الأوروبيين في ذلك الوقت حد دخول اثنين منهم إلى وزارة نوبار باشا كوزراء، بل وبلغت الجرأة بأحدهم أن يقترح على الخديو اعلان افلاس مصر رسمياً. وهو الأمر الذي استفز كل القطاعات التي تكّون منها ما عُرف باسم «الحزب الوطني»، سواء الأزهريين المعممين، أو المثقفين ذوي التعليم الأوروبي أو «أمراء الجهادية» أي ضباط الجيش.
وجاء الصدام الحتمي في ذلك العام ،حين قررت الوزارة تسريح مئات من الضباط المصريين، فخرج هولاء الضباط الغاضبين من معسكراتهم قاصدين مقر الوزارة وهاجموا مكتب رئيسها نوبار باشا، الأمر الذي دعا الخديو لاقالتها، وفي لحظة بدا له فيها أنه يستطيع استرداد بعض من سلطاته اذا تحالف مع هذه الحركة الوطنية الناشئة. لكن الدول الأوروبية لم تهمله وسعت لعزله لدى السلطان العثماني وهو ما كان بالفعل.
إلا أن التحالف ظل قائما بين الحزب الوطني وأمراء الجهادية وسرعان ما تحول هذا التحالف إلى انتفاضة شعبية بقيادة الأميرالاي أحمد عرابي، مطالبة بالسيادة الوطنية وبالحياة الدستورية والنيابية.
مصطفى القاياتي والحركة الوطنية
في هذه الأجواء تحديدا نشأ مصطفى القاياتي ليجد كلاً من والده أحمد وعمه يؤيدان الانتفاضة التي باتت تعرف باسم «الثورة العرابية» ويفتحون بيتهم لاستقبال رجالها من العسكريين والمدنيين على حد سواء، ليعقدوا فيه اجتماعاتهم. وظل الأب والعم على موقفهم هذا ولم يتزحزحا عنه حتى بعد النهاية الحزينة لتلك الانتفاضة واحتلال الانجليز لمصر عام 1882. وكان من الطبيعي أن يدفعا ضريبة مواقفهم، حيث حكم عليهما بالنفي إلى الشام وظلا هناك لبضع سنوات.
ومن هنا كان من البديهي أن ينزع سليل هذه الأسرة إلى طلب الاصلاح في كل مجال، فأصبح وهو في السنة الدراسية الرابعة في الأزهر من مؤسسي جمعية مكارم الأخلاق. وعقب حصوله على درجة العالمية من الأزهر انتدب مصطفى القاياتي للتدريس في الجامعة المصرية الناشئة التي كانت قد تأسست بمبادرة وطنية واكتتاب شعبي عام 1908.
صورة نادرة للشيخ مصطفى القاياتي خطيب ثورة 1919 مع سعد زغلول
وقام القاياتي بتدريس آداب اللغة العربية وتاريخها بالجامعة المصرية وبرهن خلال تلك الفترة على كفاءة نادرة أعجب بها أساتذة الجامعة وطلابها، وشكرته الجامعة بكتاب رقيق على ما قام به واعترافًا بفضله.
أتاحت تلك الفترة للقاياتي التقرب من مجتمع الطلبة الناشيء الذي سيكون له أبلغ الأثر في ثورة عام 1919. ففي مارس من ذلك العام، تصاعدت حدة الأحداث عقب قيام سلطات الاحتلال بالقبض على سعد زغلول باشا نالذي كان يشغل حينها منصب وكيل الجمعية التشريعية نوعدد من صحبه في محاولة لمنعهم من السفر إلى مؤتمر الصلح في باريس لعرض القضية المصرية على الحلفاء المنتصرين، ورغبة من الاحتلال أيضاً في وأد الحركة الشعبية الصاعدة التي بدا مدى تنظيمها في قدرتها على جمع ألاف التوكيلات من أبناء الشعب على اختلاف طوائفهم، لسعد ورفاقه للحديث باسم الشعب المصري.
إلا أن هذه الخطوة التي اتخذتها سلطات الاحتلال لم تزد النار إلا اشتعالاً، فانفجر الغضب الشعبي، بمجرد وصول أنباء نفي زغلول ورفاقه، من الجامعة المصرية أولاً التي خرج طلبتها متظاهرين ضد المحتل ثم من الأزهر.
ويصف المؤرخ عبد الرحمن الرافعي دور الأزهر في تلك الأيام بأنه كان «معقل الثورة» وأنه لعب دوراً شبيهاً بذلك الذي لعبه أواخر القرن الثامن عشر ضد حملة نابليون بونابرت على مصر.
حيث كان التظاهرات الشعبية تنطلق من الأزهر وتعقد فيه حلقات الخطباء ويعالج فيه الجرحى ويصلى فيه على الشهداء الذين كانت جنازاتهم تتحول هي الأخرى إلى تظاهرات حاشدة.
وهنا يبرز دور الشيخ القاياتي وزملاؤه، حيث كان أحد أهم الخطباء الذين وصفهم الرافعي بقوله إن الأزهر «كان ميداناً تبارى فيه الخطباء من كل الطبقات، وظهرت فيه شخصيات برزت بمواهبها الخطابية وكان بعضهم يسترعي الأسماع حقاً بمواهبه الخطابية».
الأزهر والاحتلال
أكثر من ذلك، كان الأزهر رمزاً للحمة الوطنية بين عنصري الوطن: المسلمين والأقباط، ففتح الأزهر أبوابه لرموز وطنية مسيحية كان في مقدمتها القمص مرقص سرجيوس، الذي كانت مواهبه الخطابية لا تقل عن رفيق دربه الشيخ القاياتي، ومن بينهم أيضاً القمص بولس غبريال، الذي كان أول من وطأت قدماه الأزهر، ليخطب عن وحدة عنصرى الأمة وراء سعد باشا، وكانت تربطه علاقة صداقة عميقة بشيخ الأزهر.
القمص بولس غبريال، والقمص مرقص سرجيوس
وإدراكاً من سلطات الاحتلال لمدى خطورة وأهمية دور الأزهر، لجأت إلى أساليب قمعية من بينها وضع دوريات مدججة بالسلاح على أبوابه ومحاولة منع المتظاهرين من تجاوز أبوابه. إلا أن كافة هذه الأساليب لم تمنع التظاهرات التي استمرت وتشعبت و«تعددت في كل ناحية دون انقطاع»، فلم يجد المحتل بداً من منع رموز الثورة من دخول الأزهر، فأغلق جنوده أبواب المسجد في وجوههم.
وهنا برز دور القمص غبريال، الذي فتح أبواب الكنيسة لهولاء الخطباء واستمروا من خلالها في أداء دورهم الوطني. ومن الطريف حقاً أن كلا من الشيخ القاياتي والقمص سرجيوس كانا يتبادلان إلقاء الخطب في صحن الجامع الأزهر فاستمرا في ذلك في قلب الكنيسة المرقسية.
وحين لم يفلح المنع ولا القمع، جرّبت قوات الاحتلال سلاح النفي، حيث صدرت الأوامر بنفي كل من الشيخ القاياتي والقمص سرجيوس إلى معسكر الجيش الإنجليزى فى رفح لإبعادهما عن القاهرة، وظلا هناك لمدة أربعة شهور، رغم اعتراض كل من الكنيسة والأزهر مع العديد من الوطنيين وفى مقدمتهم محمود فهمى النقراشي، وأبو شادى المحامي، حتى تم الإفراج عنهما بعد ذلك ليصبحا رمزين من رموز السياسة والثورة.
محمود فهمى النقراشي
وبعد أشهر من التظاهرات المتواصلة في العاصمة والكفاح المسلح في الوجه القبلي لم تجد سلطات الاحتلال بداً من الرضوخ للجماهير والافراج عن سعد ورفاقه والسماح لهم بالسفر إلى باريس.
إلا أن هذا الإجراء، الذي أريد له أن يكون مسكناً للشعب لم ينجح في وقف ثورته ،فاستمرت إلى أن صدر تصريح فبراير عام 1922 الذي منح مصر استقلالاً وإن كان إسمياً.
وتواصلت مسيرة الشيخ القاياتي النضالية بعد ذلك، إلى أن وافته المنية في نفس العام الذي توفي فيه سعد زغلول، الزعيم الذي آمن به، حيث أسلم كلاهما الروح في 1927 بعد مسيرة وطنية حافلة.