لا يمكن أن يمر الحديث عن تاريخ الجامعات المصرية وعلاقتها بتاريخ مصر السياسي والاجتماعي والثقافي، دون تناول دور الحركة الطلابية المصرية المؤثر في العديد من اللحظات الهامة من هذا التاريخ. فعلى مدى ما يزيد عن قرن من الزمان، كانت الحركة الطلابية ودروها حاضرين بشكل فاعل في كل المحطات الفاصلة في مسيرة التاريخ السياسي المصري،خصوصا ذلك الدور الذي لعبه الطلبة خلال فترة مقاومة الاحتلال البريطاني، و فى أعقاب نكسة (1967) وقبيل حرب أكتوبر (1973) وخلال إنتفاضة يناير (1977) وصولا لثورة 25 يناير (2011).
الطلاب وثورة 1919
يربط مؤرخو الحركة الطلابية المصرية بين بدايات نشأتها ومقاومة الإحتلال البريطاني لمصر، وتعد مجلة المدرسة (1893) أول مجلة مدرسية عرفتها الحركة الطلابية. ومع بدايات القرن العشرين توالى تأسيس جمعيات طلاب المدارس العليا، وصولا لتأسيس نادي المدارس العليا في (1906)، والذي لعب دورا فاعلا في الدعوة لأول إضراب طلابي عرفته مصر في (26 فبراير 1906) جمع ما بين طلاب المدارس العليا والمدارس التجهيزية.
تتوالى السنوات والأحداث وصولا لثورة 1919 التي كان للطلاب دور حاسم فيها، حين خرجوا يطالبون «بالجلاء التام أو الموت الزؤام»، إلى جانب دورهم الفاعل في عملية «جمع التوكيلات» التي أسهمت في تحويل حزب الوفد من مجرد حزب سياسي يضم مجموعة من رجال الفكر والسياسة المناهضين للاحتلال البريطاني، إلى حزب شعبي مدعوم بتوكيلات من قبل مختلف فئات الشعب المصري المطالبة بالإستقلال الوطني.
حرصت السلطات الإنجليزية على الحد من حركة الطلاب بعد أن باتوا في مقدمة القوى المناهضة للاحتلال ،ومن ثم قامت بالضغط على حكومة الأقلية الموالية للقصر حتى أصدرت قانون (رقم 22 لسنة 1929) الخاص بـ «حفظ النظام» في معاهد التعليم والذي نصت مادته الأولى على: «يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر أو بغرامة من عشرين إلى خمسين جنيهًا، كل من استعمل القوة أو العنف أو الإرهاب أو التهديد أو المناورات أو الأعطية أو الوعود أو أية طريقة أخرى، لدعوة تلاميذ وطلبة المدارس أو الكليات أو غيرها من معاهد التعليم، إلى القيام بمظاهرات أو الامتناع عن الدروس أو مغادرة معاهد التعليم أو الإنقطاع عنها، أو تأليف لجان أو جماعات سياسية للطلبة أو الانضمام إليها، أو إلى حضور اجتماعات سياسية، أو إلى الإشتراك بأية طريقة كانت في تحرير أو توقيع أو طبع أو نشر أو توزيع محاضرات سياسية أو احتجاجات موجهة إلى السلطات، بشأن مسائل أو أمور ذات صبغة سياسية».
يسقط هور ابن الطور
أثّر صدور قانون «حفظ النظام» بمعاهد التعليم بعض الشىء على فاعلية الحركة الطلابية المصرية التي شهدت حالة من الكمون النسبي منذ صدور هذا القانون المتسلط سنة (1929) حتى مطلع سنة (1935)، حين ساد التوتر الساحة المصرية مع إعلان وزارة محمد توفيق نسيم نيتها إعادة العمل بدستور 1923، والذي كان إسماعيل باشا صدقي رئيس الوزراء السابق، قد استبدله بدستور 1930. هذه الأجواء الساخنة دعت وزير الخارجية البريطاني السير «صامويل هور» لأن يصدر بيانا يعلن فيه عن عدم مناسبة دستور 1923 للبلاد، وهو التصريح الذي دفع جموع الشعب المصري ومن بينهم طلاب الجامعة المصرية وطلاب المدارس العليا للخروج في مظاهرات عارمة مرددة «يسقط هور ابن الطور».
السير صامويل هور
ومع ذكرى عيد الجهاد في (13 نوفمبر 1935) نظّم طلاب الجامعة مظاهرة احتجاج حاشدة منددة بالإحتلال مرددين هتاف «الاستقلال التام أو الموت الزؤام». انطلقت المظاهرة من حرم الجامعة بالجيزة فتصدى لها الأمن بطلقات الرصاص وأصيب عدد من الطلاب إصابات بالغة. وفي اليوم التالي عاود الطلاب الخروج بمظاهرة، وحاصرت قوات الأمن حوالي ثلاث مائة طالب على كوبري عباس بالجيزة وأطلقت عليهم النيران فاستشهد طالب كلية الزراعة محمد عبد المجيد مرسي وأصيب طالب كلية الآداب محمد عبد الحكم الجراحي اصابة بالغة أستشهد على أثرها فيما بعد، وتم القبض على عدد كبير من الطلاب وأصدرت إدارة الجامعة قرارا بإغلاق الجامعة.غير أن هذا القرار لم يمنع الطلاب من الإستمرار في تظاهراتهم ومن ثم استشهد طالب كلية دار العلوم طه عفيفي، وعلى أثر إستشهاد طلاب الجامعة والقبض على عدد كبير منهم، عمت المظاهرات مختلف المدن المصرية.
وقد تم تقديم عدد من طلاب الجامعة لأول مرة للمحاكمة أمام محكمة عابدين (في 27 نوفمبر 1935)، غير أن قاضي المحكمة حسين إدريس وقف موقفا مشرفا وداعما لطلاب الجامعة. على الجانب الآخر أعلن أعضاء هيئة التدريس بالجامعة تضامنهم مع حركة الطلاب السلمية التي استقبلها رجال الأمن بالعنف الشديد، ومن ثم شكل الطلاب لجنة أطلقوا عليها «اللجنة العليا للطلاب» هدفت إلى تعبئة الرأي العام والاتصال بالأحزاب السياسية، والدعوة لتكوين «جبهة موحدة» للمطالبة بإعادة دستور 1923، تلك الجبهة التي نجحت بالفعل في إعادته في وقت لاحق، حيث استجاب القصر لمطالب زعماء «الجبهة الموحدة» وأصدر مرسوما ملكيا في 21 ديسمبر 1935 بإعادة العمل بدستور 1923.
وقد علق المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي على مظاهرات الطلاب بقوله: «كانت مظاهرات نوفمبر وديسمبر سنة 1935 صفحة مجيدة في تاريخ الشباب، وقد أسميناها شبه ثورة، إذ كانت صورة مصغرة من ثورة 1919».
شاهد قبر الشهيد عبد الحكم الجراحي
انتفاضة 46
توالت السنوات وتوالى معها تشكيل طلاب الجامعة لكثير من اللجان الطلابية التابعة للعديد من الأحزاب والقوى السياسية المعارضة للاحتلال وللقصر الملكي على حد سواء، حتى جاء شهر فبراير 1946، حيث انطلق طلاب المدارس الثانوية يوم 9 فبراير في مظاهرة إلى الحرم الجامعي بالجيزة لينضموا إلى حشد طلاب الجامعة الذين انطلقوا بمسيرة حاشدة نحو كوبري عباس، فقامت قوات الأمن بفتح الكوبري عليهم وهم بمنتصفه فسقط عدد كبير من الطلاب بالنيل، وأصيب بعضهم بجروح شديدة.
سعى طلاب الجامعة في الأيام التالية للتنسيق بين جهود الحركة الطلابية والعمالية، وقد نجم عن ذلك تأسيس «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة»، وتم إختيار الطالبة ثريا أدهم، والعامل حسين كاظم سكرتيرين لأعمال اللجنة. ومن ثم دعت اللجنة إلى اضراب عام في بيان لها نص على التالي: «قررت نقابات عمال القطر المصري وطلبة الجامعات المصرية والأزهر، والمعاهد العليا والمدارس الخصوصية والثانوية أن يكون يوم الخميس 21 فبراير 1946 يوم الجلاء، يوم إضراب عام لجميع هيئات الشعب وطوائفه».
كانت الاستجابة للدعوة إلى الاضراب كبيرة من جانب مختلف فئات الشعب المصري، وعمت المظاهرات الضخمة العديد من المدن المصرية، وانطلق طلاب الجامعة مرددين أنشودتهم التي كتبت خصيصا لهذه المناسبة: «يا شعب قم خض بحار الدماء.. لا تبك فالآن وقت الفداء.. هيا نحطم قيود الخضوع.. هيا سويا لنيل الجلاء». وتصاعدت الأحداث بصفة يومية ووصل المتظاهرون إلى ميدان الإسماعلية «التحرير حاليا»، حيث قابلتهم الحامية البريطانية وفتحت عليهم نيران أسلحتها، فقتل ثلاثة وعشرون متظاهرا وجرح حوالي مائة وعشرون. وأصدرت «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» بيانا طالبت فيه بريطانيا بتحديد موعد نهائي للجلاء عن مصر، وتم اعلان يوم 4 مارس يوما للشهداء.
نجح إضراب 4 مارس نجاحا ملحوظا، غير أن أهالي محافظة الأسكندرية لم يكتفوا بالإضراب العام، بل هاجم المتظاهرون مقر قيادة الأسطول البريطاني وأسقطوا من عليه العلم، كما هاجموا مقر نقطة حربية بريطانية، ونجم عن تلك الأحداث مقتل جنديين بريطانيين واستشهاد ثمانية وعشرين مواطنا مصريا، كما جرح نحو 342 مصريا.
كتيبة عسكرية.. جامعية
أدت إنتفاضة الطلبة والعمال المصريين عام 1946 إلى إعلان «كلمت أتلي» رئيس الوزراء البريطاني في 8 مارس من نفس العام، عزم القوات البريطانية على الإنسحاب من القاهرة والدلتا وتمركزها بدلا من ذلك في القاعدة البريطانية بمنطقة قناة السويس.
وتوالت الإحتجاجات الطلابية المطالبة بالجلاء وتم فرض الحظر على نشر أخبار تلك الإحتجاجات بالصحف، ما أدى لوقف عدد من المجلات نتيجة خرق ذلك الحظر، لتتصاعد حدة هذه الإحتجاجات في أعقاب حرب 1948، وصولا لشهر أكتوبر 1951 الذي شهد تصعيدا للنشاط الطلابي تمثل في عقد مؤتمر طلابي أصدر ميثاقا وطنيا يهدف إلى: «دعوة الشعب إلى الكفاح المسلح»، ومن ثم تحولت الجامعة ذاتها إلى معسكر تدريب عسكري، حيث تم تدريب نحو عشرة آلاف طالب على إستخدام السلاح، وتم إرسال الكتيبة العسكرية الأولى من طلاب الجامعة إلى منطقة القناة في (9 نوفمبر 1951) وبذلك ساهم طلاب الجامعة في الأعمال الفدائية ضد قوات الإحتلال مثلهم في ذلك مثل غيرهم من فدائيي الوطن.
وتواكبت المواجهات مع قوات الاحتلال بمنطقة القناة مع اندلاع موجة عارمة من المظاهرات بشتى أنحاء البلاد، كان الطلاب في القلب منها، وصولا لإعلان الأحكام العرفية في (26 يناير 1952) إثر إندلاع حريق القاهرة ومن ثم قيام ثورة 23 يوليو 1952، وتغيير اسم الجامعة لتحمل اسمها الحالي «جامعة القاهرة»، ليتوالى بعد الثورة تأسيس عدد من الجامعات الحكومية بمختلف أقاليم مصر.
(يتبع)