طُرِحَت قضية التنوع في الثقافات الأفريقية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، كرد على وحدتها المتوهمة «ككتلة بدائية» لدى باحثي علم الأنثربولوجيا الأوائل، أو «كوحدة مثالية» بنظر مفكري التحرر الوطني بأفريقيا.
وفي أغلب الحالات تحكمت مناهج تعسفية في رسم تصور مسار التطور الثقافي والإجتماعي للقارة، بطريقة خطية وضعت ثقافات القارة في أول الدَرَج، فيما جاءت الثقافة والأنماط الأوربية في قمته، ومن ثم قُسمت المجتمعات وفقا لمفهومي «تقليدي أو حداثي»، وهو ما نجم عنه فرض آليات اللحاق والتبعية على التفكير الوطني الأفريقي نفسه، دون اهتمام يذكر بآليات التحول الاجتماعي والثقافي الضروري لمسار التقدم.
في كتابه «الثقافة والمثقفون في أفريقيا»، والذي صدر ضمن سلسلة «أفريقيات» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يطرح الأستاذ حلمي شعراوي، الباحث المتخصص بدراسات القارة الأفريقية، والذي قضى ما يزيد عن نصف قرن باحثا متجولا، ومشاركا في دعم حركات التحرر الوطني الأفريقية، قضية التنوع الثقافي في أفريقيا، وكيف نجحت الثقافة الشعبية غير الرسمية فيما لم تنجح فيه إلى حد كبير الثقافة الرسمية، فيما يخص العلاقات العربية الأفريقية.
د. حلمي شعراوي وكتابه الثقافة والمثقفون في أفريقيا
الثقافة الرسمية والعلاقات العربية الأفريقية
يستهل حلمي شعراوي تناوله لقضية الثقافة الرسمية وأثرها على توتر العلاقات العربية الأفريقية، بالإشارة إلى وجود بعض الدراسات التاريخية الأفريقية التي مازالت تتناول دخول الإسلام لأفريقيا كغزو عربي، لفرض الدين واللغة العربية، وما أعتبروه فرضا لأوضاع إجتماعية وانقسامات طائفية.. إذ تشير بعض تلك الدراسات إلى أن المسلمين العرب لعبوا دورا في تدمير بعض الممالك الأفريقية، ومن أشهرها «مملكة غانا»، وذلك لإتاحة الفرصة لقيام مملكة موالية للعرب والمسلمين وهى«مملكة مالي»، فيما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلادي. ويدلل أصحاب هذه الدراسات على صحة إدعائهم هذا، بكون الكتابات التاريخية العربية، منذ البكري وابن بطوطة وغيرهما، لم تهتم -من وجهة نظرهم- بكتابة التاريخ الأفريقي القديم وذكر «مملكة غانا»، بقدر الاهتمام بابراز ملوك مالي، بل وصل الأمر إلى حد الاهتمام ببعض الملوك دون غيرهم، وذلك وفقا لما أغدقوه من مال على العالم العربي الإسلامي.
أما القضية الأكثر خطورة، التي مازالت تُطرح عبر الدراسات الأفريقية، فتتمثل في قضية «تجارة الرقيق»، والتي نال العرب فيها العديد من الإتهامات التي تتجاوز في بعض الأحيان ما ناله الأوربيون والأمريكان الذين مارسوا «تجارة الرقيق»، والتي بلغت في بعض التقديرات نحو خمسين مليون أفريقي، مات أغلبهم بالمحيط الأطلنطي، وهو ما ترك أثرا واضحا على خلخلة البنية السكانية بالقارة.
على الجانب الآخر يرصد حلمي شعراوي عدم تمكن المؤرخين المحدثين العرب من تقديم تحليل موضوعي لما طرحته الدراسات الأفريقية، حيث اكتفوا بموقف المدافع طوال الوقت، ويزداد الأمر سوءا حين يتبارى بعض كتاب العربية في تناول القضايا الأفريقية عبر مدخل نظري يقوم على رؤية تستند إلى اعتبار أن العرب كانوا في علاقتهم بأفريقيا أصحاب رسالة حضارية تنويرية، «لنشرهم الإسلام واللغة العربية»، وهو ما جعل المفكرين الأفارقة يتعاملون مع تلك الرؤية بذات المنطق الذي يتعاملون به مع ميراث الكتابات الأوربية المتعلقة بالعبء الحضاري الذي يحمله الرجل الأبيض.
في ذات السياق ينتقد شعراوي طريقة تناول الأدبيات العربية لقضية انتشار اللغة العربية بالقارة الأفريقية، حيث اكتفى الباحثون العرب بإبراز ما تحتوية اللغات الأفريقية من أصول عربية، مثل «اللغة السواحلية» و«لغة الهوسا».. إلخ، دون الاهتمام بدراسة الأثر الناجم عن اختلاط شعوب القارة بعضهم ببعض، بما جعل دراسات «سوسيولوجيا اللغة» تتحول لتصبح دراسات في الهيمنة الثقافية.
أما الأمر الأكثر إثارة في طرح قضية أثر الثقافة الرسمية في توتر العلاقات العربية الأفريقية فكان -من وجهة نظر شعراوي -فيما يشاع من صور سلبية متبادلة، تضمنتها المناهج الدراسية ووسائل الإعلام المختلفة، على الجانبين العربي والأفريقي.
الثقافة الشعبية.. كأداة للوفاق
وفي مقابل الثقافة الرسمية ودورها في توتير العلاقات العربية الافريقية، فقد لعبت الثقافة الشعبية في الجانبين دورا في إشاعة مناخ قائم على الوفاق بين العرب والأفارقة. وفي هذا السياق يشير حلمي شعراوي إلى شيوع الصوفية وطرقها وارتباط شعوب القارة الأفريقية بها، إلى جانب ما عرف بالتراث «العجمي» وُيقصد به مجمل النصوص الأدبية التي تنتمي للغات الأفريقية غير العربية، والتي دونت بالإعتماد على الحروف العربية.
ويشير شعراوي في هذا الصدد إلى أحد النصوص التراثية الشعبية التي تحدثت عن أصل شعب الهوسا، وتضمنت إشارات متعددة إلى التواصل فيما بين شعب الهوسا والتجار العرب وعلماء الدين الإسلامي ،وكيف عكس هذا النص طبيعة التواصل الثقافي بين العرب والأفارقة. إلى جانب نصوص أخرى، سُجّلت عبر مؤلف غير معروف، لكنها تحمل طابعا شعبيا ملحوظا، تتضمن نصا شعريا باللغة السواحلية «الانكشافي»، وتنتمي لنوع البكائيات على الأطلال في أوائل القرن التاسع عشر أمام هجوم الرعاة من داخل القارة على سلطنة «باتي» على الساحل الأفريقي الشرقي، ومن ثم تدمير تلك السلطنة، التي كانت بمثابة دليل على النهوض الثقافي الأفريقي العربي المشترك. وقد عبر عن ذلك نص القصيدة الغني بالمعتقدات الشعبية عن أشباح الغابة ومخاطر البحار ودرجات الجحيم وأسماء الله الحسنى.
السير الشعبية الأفريقية
ليست المخطوطات المكتوبة بالحرف العربي وحدها هى الدليل على التواصل الأفريقي العربي، ولكن يضاف اليها أيضا االسير الشعبية الأفريقية، التي تضمنت اشارات عديدة لحجم التواصل والتفاعل بين العرب والأفارقة. وفي هذا الاطار يضرب حلمي شعراوي مثلا بسيرة الإمبراطور «سونجاتا» مؤسس «مملكة الماندنج في غرب أفريقيا.. مملكة مالي لاحقا»، حيث تعتبر تلك السيرة نصا شعبيا أخّاذا، يرد بقوة على الكتابات السائدة عن تدمير غانا وقيام مالي على نحو ما تدعي الثقافة الرسمية الأفريقية.
تتضمن السيرة الشعبية للأمبراطور «سونجاتا»، حكاية راوي شعبي وهى تحمل في مضمونها -وفقا لشعراوي- كل معالم الملاحم الشعبية الشهيرة، وتساعد بعض فقراتها في كشف العديد من أبعاد التراث الأفريقي في علاقته بالموروث الديني والعربي، دون أن يتضمن ذلك أي نوع من الهيمنة التي تتحدث عنها بعض الدراسات التي تنتمي للثقافة الرسمية.
ويستشهد شعراوي بالجزء الأول من سيرة «سونجاتا» على لسان الراوي: «انصتوا يا أبناء ماندنج وأطفال الشعب الأسود.. سأحدثكم عن سونجاتا أب البلاد المضيئة وبلاد السافانا والجد الأكبر والسيد لمائة ملك من الملوك المظفرين.. كانت ماندنج مناطق لملوك بامبارا.. هؤلاء الذين يسمون اليوم بالماننكا.. لم يكونوا من أبناء البلاد الأصليين.. فقد قدموا من الشرق، وكان لبيلالي بوناما (بلال) الابن الأكبر من المدينة المقدسة.. واستقر في ماندنج.. كما أن ابن أحدهم هو أول أمير أسود ذهب إلى مكة للحج.. وفي عودته نُهب من عصابات الصحراء، لكنه رجلا عادل.. ابتهل إلى الله، فظهر له الجن واعترفوا به ملكا، وعاد إلى ماندنج بعد سبعة أعوام».
هكذا تمضي السيرة بعد ذلك لأكثر من مائة صفحة، تروي مغامرات بناء مملكة سونجاتا العظيم مالي، ولا تكشف عن صراعاتمع العرب أو المسلمين، بقدر ما تتعرض أحيانا لصدامات مع الطوارق أو عصابات الصحراء.
بهذا يتضح أنه إذا كانت الثقافة الرسمية بكل أدواتها وتجلياتها قد دعمت حالة التوتر بين العرب والأفارقة، إلا أن التراث الشعبي بكل زخمه وثرائه، يؤكد على حالة الوفاق الممتدة منذ القدم بين العالم العربي الإسلامي والقارة الأفريقية.
وهنا يوصي شعراوي بضرورة الاهتمام بالعمل على جمع النصوص الشعبية، ومن ثم تقديم تحليل موضوعي لها، وهو ما لن يتأتى إلا عبر اهتمام الهيئات العلمية العربية والأفريقية بدعم المشروعات الخاصة في مجال حفظ التراث الأفريقي العربي ودراسته، والاهتمام بالتاريخ الاجتماعي الشفاهي والمكتوب للشعوب على حدا سواء، إلى جانب الدعوة للعمل على دحض مجمل الأفكار السلبية المتعلقة بالثقافة الرسمية التي تزيد من التوتر في العلاقات العربية الأفريقية، خاصة تلك الصور السلبية المتبادلة عبر المناهج الدراسية ووسائل الإعلام المختلفة.