بعد مسيرة امتدت لـنحو 50 عاما في حكم سلطنة عُمان، توفي السلطان قابوس بن سعيد، في وقت متأخر من مساء الجمعة 10 يناير 2020، عن عمر ناهز 79 عاما، حول خلالها بلاده من دولة مظلمة تحيط بها الأزمات إلى دولة حديثة مستقرة تتمتع بنهضة أعادتها إلى أمجاد الأمبراطورية الُعمانية.
أرسى السلطان قابوس خلال 5 عقود قضاها على رأس السلطة منذ تقلده زمام الحكم في 23 يوليو من عام 170 ركائز نهضة شاملة، وضعت عمان على خريطة المنطقة، وأسفرت عن سياسة متزنة، بحسب بيان ديوان البلاط السلطاني.
تولى السلطان قابوس الحكم خلفا لوالده في 23 يوليو العام 1970، وتقلد السلطان بحكم دستور البلاد أغلب المناصب في عُمان، فقد كان رئيسا للوزراء والقائد الأعلى للقوات المسلحة، كما احتفظ بحقيبتي الدفاع والمالية ومنصب محافظ البنك المركزي.
يعد قابوس صاحب ثالث أطول فترة حكم في العالم في 2020 بعد الملكة إليزبيث الثانية، ملكة بريطانيا التي تولت الحكم عام 1952 حتى الآن، ثم السلطان حسن بلقية، الذي اعتلى عرش سلطنة بروناي عام 1967 إلى الآن.
ولد السلطان قابوس في صلالة بمحافظة ظفار في 18 نوفمبر عام 1940، وبالرغم من كونه الابن الوحيد للسلطان سعيد بن تيمور بن فيصل آل سعيد، إلا أنه لم يكن مدللًا، فمنذ طفولته حفظ القرآن الكريم وقرأ السنة النبوية وتعلم قواعد اللغة والنحو وأصول الدين والفقه.
السلطان قابوس بن سعيد في طفولته
تلقى قابوس دروس المرحلة الابتدائية والثانوية في صلالة وفي سبتمبر من العام 1958م أرسله والده إلى المملكة المتحدة، حيث واصل تعليمه في إحدى المدارس الخاصة، ثم التحق في عام 1960م بأكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية، وأمضى فيها عامين وهي المدة المقررة للتدريب درس خـلالها العلوم العسكرية وتخرج فيها برتبة ملازم ثان، ثم انضم إلى إحدى الكتائب العاملة في ألمانيا الاتحادية آنذاك لمدة ستة أشهر مارس خلالها العمل العسكري، وتلقى التدريب في قيادة الأركان، وفقًا لموقع السلطان قابوس.
بعدها عاد قابوس إلى عمان في عام 1964، ودرس على امتداد السنوات الست التالية الدين الإسلامي واللغة العربية وقراءة السير النبوية وسير الخلفاء الراشدين والخلفاء في العصرين الأموي والعباسي، وكل ما يتصل بتاريخ وحضارة عُمان دولة وشعبًا على مر العصور.
السلطان قابوس بن سعيد في شبابه
كان والده سعيد بن تيمور قد تولى رئاسة مجلس الوزراء في «مسقط وعمان» وهو الاسم القديم للسلطنة، عام 1929 مجلس الوزراء، قبل أن يتولى أمور السلطنة في 10 فبراير 1932 خلفا لأبيه تيمور بن فيصل.
اتبع سعيد بن تيمور سياسة قديمة شديدة المحافظة والجمود وتصدى لمحاولات تحديث البلاد التي حاول نجله قابوس أن يفرضها وهو ولي للعهد، فوضع السلطان الأب ابنه الوحيد تحت الإقامة الجبرية عام 1964.
السلطان سعيد بن تيمور
كان والده سعيد بن تيمور قد تولى رئاسة مجلس الوزراء في «مسقط وعمان» وهو الاسم القديم للسلطنة، عام 1929 ، قبل أن يتولى أمور السلطنة في 10 فبراير 1932 خلفا لأبيه تيمور بن فيصل.
اتبع سعيد بن تيمور سياسة قديمة شديدة المحافظة والجمود وتصدى لمحاولات تحديث البلاد التي حاول نجله قابوس أن يفرضها وهو ولي للعهد، فوضع السلطان الأب ابنه الوحيد تحت الإقامة الجبرية عام 1964.
كانت مسقط معروفة في عهد سعيد بن تيمور بإظلامها طوال ساعات الليل، فكانت أبوابها تغلق في العاشرة من مساء كل يوم، وكان التجول ممنوعا داخل أسوار المدينة إلا لمن يحمل في يده قنديلا معتمدا من السلطة، أما الوافدون من خارج العاصمة فكانوا يقضون ليلهم في العراء إذا لم يحالفهم الحظ بالوصول قبل غلق الأبواب.
سوء حالة المرافق، وضعف الإنفاق على الصحة والطرق والنقل، كرس عزلة مسقط وعمان عن العالم الخارجي، وأدى إلى تصاعد النعرة القبلية والطائفية ضد حكم سعيد بن تيمور في عدة مناطق، واندلعت العديد من الانتفاضات والثورات أبرزها ثورة ظفار في جنوب السلطنة عام 1965.
اهمل سعيد بن تيمور التعليم واقتصرت الدراسة في عهده على الكتاتيب التي كانت تعرف بالمدارس القرآنية، وكان بالسلطنة 3 مدارس فقط تضم ما لا يتجاوز ألف تلميذ من جميع المراحل.
ومع توالي الانتفاضات وحركات التمرد ضد سعيد بن تيمور، فقد السلطان السيطرة على حكم البلاد خاصة بعد ثورة ظفار، في تلك الأجواء اتجهت الأنظار إلى الابن العائد من أوروبا بثقافة مغايرة، ودعم عدد من مشايخ القبائل وأبناء الأسرة الحاكمة قابوس، فانقلب على والده في 23 يوليو من عام 1970، ليفتح مع شعبه عصرا جديدا.
كان تولي السلطان الراحل علامة فارقة في تاريخ هذا البلد الذي تميز بموقع جغرافي فريد جعله مطمعا لقوى دولية وإقليمية طوال تاريخه، ورغم أنه صعد إلى السلطة بانقلاب «صامت» على والده، إلا أنه حظي على الفور بدعم شيوخ القبائل وكبار المسئولين والشعب العماني ككل، نظرا للحالة المزرية التي كانت عليها الدولة في عهد والده.
تولي جلالة السلطان قابوس مقاليد عرش سلطنة عُمان في 23 يوليو 1970
بعد وصوله للسلطة بنحو أسبوعين، أدلى قابوس بخطاب يمكن اعتباره حجر أساس لسياسته في بناء الدولة الحديثة، وبحسب مراقبين، حمل ذلك الخطاب التاريخي تعهدات السلطان الجديد التي مضى في تحقيقها حتى وفاته، وبتحقيقها تحولت عمان من الظلام إلى النور وتغير تاريخها للأبد، وصارت «سويسرا العرب» كما يقولون.
وبعدما كان والده السلطان المعزول سعيد لا يدلي بأي خطابات للشعب العماني، ويفرض حظر تجوال يوميا على العاصمة مسقط بعد العاشرة مساء، اتبع قابوس نهجا جديدا بالتواصل المباشر مع المواطنين، ففي البداية كان يستخدم الإذاعة المحلية، لكن وبمرور السنوات أصبح شائعا مشهد لقائه بالمواطنين ومخاطبتهم مباشرة والاستماع لشكاواهم ومقترحاتهم، مما جعل له في قلوب العمانيين مكانة خاصة، ليس فقط لرعايته النهضة الحضارية التي شهدوها طوال نصف قرن، ولكن أيضا لأسلوبه الفريد في الحكم واتخاذ القرارات، رغم أنه لم يعين أبدا وليا للعهد، وبقي حتى وفاته محتفظا بمعظم المناصب القيادية السيادية بالدولة.
أمسك السلطان الشاب في 9 أغسطس من عام 1970، بميكروفون الإذاعة ليعلن إلى الشعب أفكاره ومنهج حكمه الذي سيؤسس الدولة التي طالما حلم بها في سفره أو وهو قيد الإقامة الجبرية التي فرضها عليه والده.
«أمرنا رئيس الوزراء أن يتخذ الخطوات الفورية لتشكيل حكومة على أساس إسناد المناصب للمواطنين اللائقين حيثما وجدوا، في الداخل أو في الخارج»، افتتح السلطان الجديد خطابه بهذه العبارة وشدد على أن التعليم الذي حُرم منه جل مواطني عمان صار حقا لكل مواطن، «بلادنا حرمت لفترة طويلة جدا من التعليم الذي هو أساس الكفاءة الإدارية والفنية يتوجب علينا في المدى القريب الاستمرار في سد النقص في الإدارة بموظفين أجانب، الذين يجب أن تتوفر فيهم الكفاءة والإخلاص، ذلك لتدريب وإعداد شعبنا لمسؤولياته في المستقبل».
وأضاف: «من هنا تنشأ الحقيقة بأن تعليم شعبنا وتدريبه يجب أن يكون بأسرع وقت ممكن لكي يصبح في الإمكان في المدى الأبعد، حكم البلاد بالعمانيين للعمانيين».
وأعلن قابوس تغيير اسم البلاد إلى سلطنة عمان بعد أن كان اسمها في السابق سلطنة مسقط وعمان، «قررنا تغيير اسم البلاد، فمن الآن وصاعدا ستعرف أرضنا العزيزة باسم (سلطنة عمان) إن اعتقادنا بأن هذا التغيير بداية لعهد جديد متنور ورمز لعزمنا أن يكون شعبنا موحدا في مسيرتنا نحو التقدم، فلا فرق بعد الآن بين الساحل والداخل وبينهما وبين المقاطعة الجنوبية، فالكل شعب واحد مستقبلا ومصيرا».
لم يكتف قابوس بتغيير اسم بلاده ليقطع كل صلة بالماضي الكئيب بل قرر أيضا تغيير عَلم البلاد، «بدأنا فعلا في دراسة تصاميم لعلم وطني يكون شعاره وألوانه شهودنا على عزمنا على توحيد بلادنا، فلنقف جميعا أمام الله مطيعين مخلصين مجتهدين مساعدين بعضنا بعضا ومساعدين حكومتنا لتحقيق أهدافنا».
وفي محاولة لتصفير الأزمات التي تسبب فيها والده، دعا قابوس العمانيين الذين نزحوا من السلطنة قسرا أو الذين هربوا من بطش سعيد إلى العودة للبلاد للمساهمة في خدمتها، «تتجه أفكارنا الآن إلى إخواننا الذين أجبرتهم ظروف الماضي التعس الى النزوح الى خارج الوطن، فلأولئك الذين بقوا على ولائهم لوطنهم ولكنهم اختاروا البقاء في الخارج نقول سنتمكن في وقت قريب من دعوتكم لخدمة وطنكم، أما الذين لم يكونوا موالين لوالدي في الماضي أقول لهم: (عفا الله عما سلف.. عفا الله عما سلف)».
وقرر قابوس إعادة الجنسية العمانية للمواطنيين الذين سحبتها منهم السلطنة في السابق لأسباب سياسية، «ندعو من فقد منكم جنسيته العمانية أن يعود الى صفوف الوحدة في سلطنة عمان، لقد أصدرنا أمرا في هذا الصدد أن يعاد النظر فورا في تنظيم الهجرة والجوازات كما أمرنا رئيس الوزراء أن يقدم توصياته حول كيفية إعادة الجنسية لإخواننا المبعدين، فنأمل أن تتمكنوا سريعا من العودة لوطنكم بحرية وأن تجتمعوا بأحبابكم في سلام وفي ولاء لبلدكم العزيز».
كان قابوس يرى في هؤلاء كفاءات يجب الاستفادة منها، «نعلم أن خطة تطوير الحكومة وتنظيمها ستستوعب مواردنا البشرية الضئيلة من رجال البلاد المؤهلين، لذا سندعوكم قريبا للعودة بطريقة منظمة لخدمة وطنكم، ولقد أمرنا رئيس الوزراء أن ينشئ وكالة في إحدى بلدان الخليج، ستعين فيما بعد ليستطيع أولئك الراغبون في العمل في السلطنة أن يستفسروا عن الوظائف الموجودة ، ولكن عليكم أن تتحلوا بالصبر والاطمئنان في الوقت الحاضر، وتذكروا أنكم لن تكونوا غرباء عن وطنكم».
وموجها حديثه إلى سكان العاصمة مسقط الذين أعادهم سعيد إلى حياة القرون الوسطى قال قابوس: «من الأمور التي تهم سكان العاصمة مسقط نستطيع الآن إبلاغكم قرارا مهما وهو إتاحة رقعة كبيرة من الأرض، ليبني عليها الشعب بيوتا أفضل، ولتأسيس مشاريع تجارية وصناعية خفيفة، ففي نيتنا نقل مقر القوات المسلحة من وادي بيت الفلج في خطة مداها ثلاث سنوات إلى مكان جديد أنسب لإحتياجات القوات المسلحة الإستراتيجية والتكتيكية، ونتيجة لهذا القرار ستتاح الأراضي الخالية للبناء فورا، وسيكون الوادي كله امتدادا كبيرا لمدينة مطرح في المستقبل، وستتحول مباني القوات المسلحة الموجودة حاليا للإستعمال المدني الأفضل، وفي نيتنا أن تقوم السلطنة بمشاريع الطرق والماء والمجاري وبهذا نضمن لأولئك الذي يتطلب أن يسكنوا هناك أن يجدوا بيوتا أفضل في الحال، كما في نيتنا أن تكون منطقة مطرح منطقة تنضم مباني تجارية وتسهيلات تحتاجها الإدارة الكفء لميناء نشيط».
وبعد أن كان التنقل داخل البلاد من الأمور بعيدة المنال، أعلن السلطان الجديد عن نيته في إقرار حرية التنقل للمواطنين، فقال: «أرغب أن يكون مواطنو هذه البلاد وأفراد عائلاتهم أحرارا في التنقل في داخل البلاد والسفر الى الخارج بدون قيود، فاعتبارا من هذا اليوم ترفع جميع القيود على التنقل والسفر ولكن بطبيعة الحال على المسافرين الاستمرار في التقيد بنظم الجوازات والصحة المعتادة، وقد يتطلب الأمر قيودا خاصة من وقت لآخر حسب مقتضيات الأمن، إن رفع قيود التنقل يتيح لكل فرد حرية التنقل داخل البلاد وداخل المدن ليلا ونهارا».
لكن نتيجة للقلاقل التي شهدتها عمان بعد ثورة ظفار استثنى قابوس بعض المناطق من حرية التنقل واعدا بتنظيمها في القريب فاستدرك قائلا: «إلا أنه من الضروري الاستمرار في منع التنقل بالسيارات بين صور وجعلان، وفي التقيد بالأنظمة الحالية المتعلقة بالتنقل في منطقة البريمي وعبور الحدود الى أن يتم وضع تنظيم للجمارك هنا، أما نظام التجول داخل سور مسقط فسيبقى ساري المفعول، لكننا أمرنا أن يبسط هذا النظام، أما حمل القنديل فليس مطلوبا».
سعى قابوس إلى تحقيق وعود خطابه الذي وضعه فيه ركائز نهضة البلاد، وانضمت عمان بعد شهور من توليه الحكم إلى جامعة الدول العربية، وفى عام 1975 تمكن من إنهاء حرب الظفار، وقضى على كل محاولات التمرد، فاتحا الباب أمام تنفيذ مشاريع تنموية عديدة لرفع مستوى معيشة المواطن العماني، حيث ركز على إنشاء المدارس والجامعات والمستشفيات وغيرها من المرافق الضرورية.
وأنشأ أول دار للأوبرا في منطقة الخليج العربي، وتعرف اليوم بدار الأوبرا السلطانية العمانية في مسقط، إضافة إلى إنشاء موسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية، ودعم مشروعات تحفيظ القرآن الكريم، سواء في السلطنة أو عدد من الدول العربية، بالإضافة إلى جائزة السلطان قابوس لصون البيئة التي تقدم كل عامين من خلال منظمة اليونيسكو.
دار الأوبرا السلطانية بمسقط
حصل السلطان قابوس على عدد من الجوائز، أبرزها جائزة السلام الدولية وجائزة جواهر لال نهرو للتفاهم الدولي وقلادة ترتيب إيزابيلا الكاثوليكية وفارس الصليب الأكبر من وسام القديس مايكل والقديس جورج وغيرها من الجوائز.
سياسيا، كان السلطان قابوس بن سعيد من مؤسسي مجلس التعاون الخليجي العام 1981، وفي عهده احتفظت عُمان بعلاقات جيدة مع كل الدول العربية، وانتهجت سياسة “صديق الجميع” للتركيز على العلاقات التجارية مع كافة الدول، لتلقب بـ«سويسرا العرب».
لعبت عمان دوراً في الاتفاق النووي بين إيران والغرب، الذي وقع عام 2015، حيث استضافت محادثات بين مسؤولين أميريكيين وإيرانيين العام 2012 أدت إلى البدء في مفاوضات الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لاحقا.
ودأب السلطان قابوس على تحديث هياكل الحكم في عمان تدريجياً بإقامة مجلس استشاري سنة 1981 تم استبداله بمجلس الشورى سنة 1990 ومن ثم مجلس الدولة سنة 1997.
على مدى حكمه، الذي دام ما يقرب من 5 عقود، نجح قابوس في تحويل عمان، الدولة الخليجية الصغيرة، من بلد فقير إلى بلد يتمتع بدرجة من الرخاء، وعبر السلطان الراحل عن الحالة التي وصلت إليها بلاده بقوله “عمان اليوم غيرها بالأمس فقد تبدل وجهها الشاحب ونفضت عنها غبار العزلة والجمود وانطلقت تفتح أبوابها ونوافذها للنور الجديد».