في الخامس من شهر يناير الجاري شنت حركة «الشباب» الصومالية هجوما لافتا على قاعدة «ماندا باي» العسكرية في كينيا، والتي تستخدمها القوات الأمريكية في الساحل الكيني. أسفر الهجوم -حسب التقارير الإخبارية -عن مقتل جندي أمريكي واثنين من المتعاقدين مع الجيش الأمريكي، كما قتل أربعة من المهاجمين على الأقل. وجاء هذا الهجوم بعد أيام من غارة جوية أمريكية على مواقع للحركة في الصومال أسفرت عن مقتل سبعة من مقاتلي الشباب، وهي الغارة التي جاءت في أعقاب انفجار دام لسيارة مفخخة نفذته حركة الشباب يوم السبت 28 ديسمبر الماضي، في تقاطع مزدحم وسط العاصمة الصومالية مقديشيو، ما أسفر عن مقتل 79 على الأقل وإصابة العشرات.
تفجير مقديشيو الدامي جاء بعد أقل من أسبوع على هجوم شنته عناصر تابعة لحركة الشباب، التي ترتبط بتنظيم القاعدة، يوم 21 ديسمبر الماضى ضد قائد القوات البرية الصومالية وأدى لمقتل ثمانية جنود صوماليين. وقد وقع هذا الهجوم أيضا بواسطة سيارة مفخخة انفجرت خارج أحد الفنادق في مقديشيو، حيث كان قائد القوات البرية الصومالية البريجدير جنرال عبد الحميد محمد ديرير يعقد اجتماعًا مع عدد من المسؤولين.
وفي 11 ديسمبر الماضي أيضا قُتل ستة أشخاص في هجوم شنه مقاتلو الحركة ضد قاعدة للجيش الصومالي على بعد 25 كيلو متراً إلى الشمال من مقديشيو، وقبل ذلك بيوم واحد قتلت الحركة 11 شخصاً في هجوم استهدف فندقاً في العاصمة. وفي 6 ديسمبر أيضا شن مسلحون تابعون لحركة الشباب هجوما استهدف حافلة ركاب، في منطقة محاذية للحدود بين الصومال وكينيا، مما أسفرعن مقتل 8 اشخاص من بينهم ضابط بالشرطة الكينية وفقا للسلطات في كينيا. وقد تبنت حركة الشباب هذا الهجوم أيضا، وقالت إنه استهدف عملاء سريين للأمن وموظفين بالحكومة الكينية.
https://youtu.be/PDmzFugqe64
حرب دامية
تخوض «حركة الشباب» الصومالية، منذ سنوات حربا دامية ضد حكومة الصومال، من خلال تنفيذ العديد من الهجمات على مواقع للجيش والقوات الحكومية الصومالية، فضلا عن التفجيرات التي تستهدف مناطق في العاصمة مقديشيو. وتتركز معظم هذه الهجمات على مواقع ترمز لسيادة الدولة الصومالية، كالوزارات والجيش والشرطة، في محاولة لزعزعة ثقة الصوماليين في دولتهم التي تعاني من أزمات خانقة، كما تستهدف الحركة من وراء ذلك، إثارة الرعب في صفوف جنود الجيش وعناصر الشرطة.
لكن هذا التصاعد اللافت الذي شهدته الأشهر الأخيرة في النشاطات والعمليات الارهابية التي تشنها حركة الشباب الصومالية، سواء داخل الصومال أو خارجها، يعيد تسليط الضوء مجددا على الخطر الذي لا تزال تشكله هذه الحركة، بعد سنوات من الحرب ضدها والتي تشارك فيها أطراف محلية واقليمية ودولية. كما أنه يثير الكثير من التساؤلات عن أسباب ودوافع الحركة من وراء تصعيد نشاطها الإرهابي، ومستقبل هذه الحركة وأنشطتها، وانعكاسات ذلك كله على مستقبل الأوضاع الأمنية في الصومال ومنطقة القرن الأفريقي ككل.
تعد حركة «الشباب» في الصومال واحدة من الحركات الإرهابية القليلة التي احتفظت ببيعتها لتنظيم «القاعدة»، رغم الصعود القوي لتنظيم «داعش» الإرهابي خلال السنوات الأخيرة، ومبايعته من طرف تنظيمات جهادية كثيرة في أفريقيا، على غرار جماعة «بوكو حرام» النيجيرية. فقد ظلت حركة «الشباب» متمسكة بتبعيتها لتنظيم «القاعدة»، رغم ما أصاب الأخير من ضعف وتراجع. وقد تأكد هذا الولاء عام 2014، عندما قتل الأمريكيون في غارة جوية زعيم الحركة «أحمد عمر أبو عبيدة»، وتم تنصيب قائد جديد كانت مهمته الأولى هي إعلان الولاء لتنظيم «القاعدة».
تأسست حركة الشباب عام 2006 بصفتها «الذراع العسكري» لاتحاد المحاكم الإسلامية، وهو الاتحاد الذي كان يسيطر على العاصمة الصومالية مقديشيو آنذاك، ويحاول فرض تطبيق فهم متشدد للشريعة الإسلامية، وقد نجحت الحركة الشابة في تحقيق انتصارات كبيرة على الأرض مكنتها من السيطرة على مساحات كببرة من الأراضي الصومالية بما فيها العاصمة مقديشيو، لكنها سرعان ما تراجعت بعد التدخل العسكري الاثيوبي مدعوما من قوات من الاتحاد الأفريقي عام 2008. وفي عام 2011 تمكنت القوات الافريقية والاثيوبية من استعادة السيطرة على العاصمة مقديشيو وطرد عناصر الشباب منها بشكل كامل
في الفترة من 2011 وحتى 2016 وخلال الحرب ضد حركة الشباب التي شنتها ضدها قوات الاتحاد الافريقي مدعومة بإسناد أمريكي وغربي، خسرت الحركة السيطرة على أقاليم عدة داخل الصومال، ومنيت بخسائر كبيرة في صفوف مقاتليها، وفقدت الدعم والتعاطف الشعبي بين الصوماليين، بسبب استهدافها للمدنيين، كما دبت الخلافات داخل صفوف قادتها وتزيدات الانشقاقات داخلها.
وخلال السنوات الأخيرة وحتى الآن، شكلت الغارات الجوية التي تشنها الطائرات الأمريكية بدون طيار على مواقع وقيادات حركة «الشباب»، رأس حربة في المواجهة مع هذه الحركة. فقد شنت الطائرات الأمريكية عشرات الغارات الجوية ضد مقاتلي الحركة منذ أوائل عام 2017. كما تضاعف النشاط العسكري الأمريكي في الصومال عدة مرات منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث أعلنت إدارته أن جنوب الصومال «منطقة عمليات عدائية فعلية». ولم تعد الضربات الجوية الأمريكية تقتصر على استهداف كبار قادة الحركة وإنما أي مقاتل من مقاتليها، ما ضاعف من عدد القتلى.. فوفقا لوثيقة رسمية أمريكية نُشرت في شهر مارس الماضي، تمكن الجيش الأمريكي باستخدام القصف الجوي من القضاء على 800 إرهابي من عناصر الحركة، وذلك منذ يونيو 2017.
ويشكل هذا الرقم -كما تقول الوثيقة- ضعف ما قتله الجيش الأمريكي في الصومال طوال ولايتي الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما من 2009 وحتى 2017.
أسباب استعادة القوة
إلا أن كل ذلك لم ينه التهديد الذي تشكله حركة الشباب، والتي نجحت -رغم كل هذه الضربات- خلال العامين الأخيرين في استعادة جزء كبير من قوتها وتكثيف عملياتها الإرهابية في مقديشيو وخارجها، بل امتدت عملياتها إلى كينيا المجاورة، والتي تشارك بقوات ضمن قوات الاتحاد الأفريقي في الصومال. ويُظهر التصاعد اللافت في هجماتها أن هذه الحركة – وبعد كل هذه السنوات من الحرب عليها، تمكنت من استعادة قواها، ولاتزال واحدة من أكثر الحركات الإرهابية نشاطاً وخطورة في شرق أفريقيا وربما في العالم حاليا، خصوصا بعد تراجع نشاط الحركات والجماعات الارهابية في منطقة الشرق الأوسط وأفغانستان. فقد تضاعفت هجماتها في مدينة مقديشو ومحيطها القريب، كما احتفظت الحركة بالسيطرة على نحو خمس مساحة البلاد، وهي في أغلبها مناطق ريفية، ويقدر عدد مقاتليها – وفقا لبيانات وزارة الدفاع الامريكية – بما بين 3000 و9 آلاف مقاتل، من بينهم نحو ألف مقاتل أجنبي.
وقد نجحت الحركة في السنوات الأخيرة في تجديد خطابها لتجنيد أكبر عدد ممكن من المقاتلين الشباب في الصومال، مستغلة وجود قوات أجنبية على الأراضي الصومالية، وانتشار الفساد والفقر والجهل والمرض، وكلها تشكل – حسب الخبراء في الجماعات الأصولية – بيئة مؤاتية لمثل هذا النوع من التنظيمات الإرهابية. ويقول خبراء ومحللون أمنيون غربيون إن حركة الشباب استفادت من حالة الضعف التي يعاني منها الجيش الصومالي، لاستعادة السيطرة على بعض المناطق التي كانت قد خسرتها قرب العاصمة مقديشيو. كما أن الحركة تستغل حالة التجاذب والانقسام السياسي التي تشهدها الصومال، في ظل توتر العلاقة بين الحكومة الفيدرالية في مقديشيو والولايات الإقليمية، وهو ما شكل عقبة أمام جهود التنسيق لمحاربة الإرهاب في الصومال، وهذا ما تستغلته حركة «الشباب» للتمدد مجددا، من أجل تحقيق مكاسب على الأرض، والتطلع نحو استعادة السيطرة على العاصمة مقديشيو، أكبر مدن الصومال وأهمها (2.2 مليون نسمة).
وهناك عامل آخر مهم يساهم في تفسير الصعود اللافت في قوة حركة «الشباب» الصومالية خلال العام الماضى تحديدا، ويتعلق بالخسائر الكبيرة التي تكبدتها الجماعات الإرهابية مثل تنظيم داعش في سوريا والعراق، مما أدى إلى فرار آلاف المقاتلين الأجانب، حيث تشير بعض التقارير إلى أن أغلب هولاء المقاتلين توجه نحو القارة الأفريقية، وهو ما استفادت منه حركة «الشباب».
وفي تقرير صدر في نهاية شهر نوفمبر الماضي، اعتبرت الأمم المتحدة أن حركة «الشباب» الصومالية لا تزال أكبر تهديد مباشر للسلام والأمن في الصومال خصوصاً، ومنطقة القرن الأفريقي بشكل عام. وأشار التقرير، الذي أعدته مجموعة من الخبراء، إلى أنه في الفترة من يوليو 2018 وحتى يوليو 2019 نفذت حركة «الشباب» 548 هجوما بالعبوات الناسفة في الصومال بزيادة 39 في المائة بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق.
ولكن التقرير أكد أن الضربات الجوية التي تشنها الولايات المتحدة ضد معاقل الحركة الإرهابية أصابتها «بحالة من عدم التوازن»، إلا أن ذلك لم يؤثر على «قدرتها على شن هجمات منتظمة في جميع أنحاء الصومال».وخلص التقرير إلى القول إن «حركة الشباب» الصومالية نجحت في التسلل إلى المؤسسات الحكومية ووسعت عائداتها المحلية واستمرت في خطف وتجنيد الأطفال.
ومما يزيد من خطورة الموقف الذي يخلقه تصاعد النشاطات الارهابية لحركة الشباب الصومالية، أن ذلك يأتي متزامنا مع ظهور متزايد لنشاط تنظيم داعش في بعض المناطق بالصومال؛ حيث يتمركز نحو 70-250 عنصرًا داعشيًّا -وفقًا لتقديرات وزارة الدفاع الأمريكية- بزعامة عبد القادر مؤمن الذي انشق عن حركة شباب المجاهدين في جبال «غل غلا» في شمال شرق الصومال. كما أشارت بعض التقديرات الغربية إلى وصول بعض قيادات تنظيم داعش إلى البلاد، في وقت تشهد فيه بعض مناطق الصومال مواجهات مسلحة بين عناصر داعش وحركة الشباب مثل إقليم «بري» في «بونت لاند» شمال شرق الصومال، وفي منطقة «ميرالي» بالقرب من مدينة بوصاصو العاصمة التجارية لبونت لاند، وذلك عقب قيام داعش بقتل 14 عنصرًا من عناصر الحركة في جبال غل غلا في ديسمبر 2018م، وهو ما دفَع حركة الشباب إلى الإعلان عن شنِّ حربٍ على مسلَّحي التنظيم؛ بهدف القضاء عليهم.
يحمل هذا النشاط المتزايد لحركة الشباب الصومالية خلال العامين الماضيين، وتزامن ذلك مع تنامي وجود عناصر تنظيم داعش الكثيرمن الرسائل والدلالات، أهمها – حسب الخبراء في شؤون الارهاب والتطرف – أن مركز الحرب العالمية على الإرهاب قد تحول بالفعل إلى أفريقيا وأن منطقة القرن الأفريقي، اصبحت تشكل الخاصرة الرخوة للقارة الأفريقية، والتي قد تستغلها الجماعات المتشددة مثل حركة الشباب والقاعدة وداعش لشن مزيد من الهجمات الارهابية. والمفارقة هنا أن كل ذلك يحدث في وقت أعلنت فيها الولايات المتحدة نيتها سحب قواتها من منطقة الساحل والصحراء، التي تشكل ساحة اخرى لاتقل خطورة لتمدد الأنشطة الإرهابية.