كثيرون في مصر وعالمنا العربي من يحملون صفة «المترجم والناقد»، قليلون بينهم من يحملونها بجدارة وامتياز، ومن هؤلاء القليلون جدا «السيد إمام»، الذي أحب ان القبه بأصح الأحاديث في مجاله، وذلك بجانب جهوده الوافرة المحمودة في نطاق التنوير.
فالرجل الكبير في السن والمقام، ما انفك يحارب الظلام والظلاميين بضراوة إلى لحظتنا الراهنة، في كتبه وندواته وحواراته وتسجيلاته الإذاعية والتلفزيونية وجلساته الخاصة وصفحاته بمواقع التواصل الاجتماعي، متسلحا بالأسئلة الشائكة التي تفتح في العقول أبواب المحاولة للإجابات، وغير بخيل بالنصح على من أعجزه الواقع المعقد عن إنجاز الأجوبة وإدراكها.
ولو ركز في مجال التنوير وحده لكان طرح بشأنه أطروحات مستقلة عظيمة كأطروحاته في الترجمة والنقد، ولكان من أساطينه، لكنه يُحسب على التنويرين الكبار بلا ريب؛ فترجماته حافلة بالقيم التنويرية من حيث كونها لا تنحاز إلا للخطى الأمامية الشجاعة، وتتوخى، كما يقول في حوار طويل له مع إحدى الصحف، كل ما قلب المفاهيم والتصورات القديمة حوال العالم ومكانة الإنسان فيه. ومشهور عن الرجل امتلاكه لروح المعلم الملهم الذي يشجع التلاميذ التقدميين الذين لا يثقون بالتقاليد ويبدون متفائلين ومؤمنين بالعقل والعلم والتجريب، وهو ما يجمع في طياته المعنى الحرفي للتنوير كحركة فلسفية بدأت في القرن الثامن عشر، هذه فكرتها بوضوح.
الميلاد والنشأة والدراسة
وُلد السيد إمام في 19 مارس 1945، ينتمي إلى محافظة البحيرة، تخرج في كلية الآداب- قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الإسكندرية، واهتم بالقراءة الواسعة مبكرا، وترجمة ما يروقه بمعايير شخصية محددة، يقول ضمن بعض حواراته الإعلامية: ما أقرؤه لا بد أن يكون معبرا بصدق عن روح عصره وأن يكون مقدما للجديد فيما يتعلق بالنظرية الأدبية والنقدية التي تأثرت بالألسنية وعلم الفيزياء ونظرية الكوانتم. اختار الإقامة بالقاهرة، ويعد أحد المثقفين المعدودين في مضماره بتاريخنا الأدبي المعاصر وعلى مرِّ التاريخ الأدبي المصري في الحقيقة، ترأس نادي الأدب بمحافظة البحيرة لعدة دورات متتالية، وعمل مستشارا أدبيا لمجلة الثقافة الجديدة لسنوات طوال، وفي أكتوبر من عام 2017 تم تكريمه في فرع ثقافة البحيرة؛ لدوره البارز في مجال الأدب وفي تطوير المنظومة الثقافية في مصر عامة وفي المحافظة خصوصا، وتسلم حينها درع المحافظة ودرع وزارة الثقافة، بحضور رسمي من المسؤولين ووسط حشد ثقافي هائل.
المترجم السيد إمام
الترجمات والآراء المثيرة للجدل
كتبه المترجمة: الميتافكشن باتريشيا ووه، وألف ليلة وليلة أو الليالي العربية لأورليش مارزوف وريتشارد فان ليفن (قام بالتقديم مع الترجمة)، وأقنعة بارت لجوناثان كلر، والشعرية البنيوية لنفس الكاتب، وتعليم ما بعد الحداثة- المتخيَّل والنظرية لبرندا مارشال (قام بالتقديم مع الترجمة)، والعولمة- نص أساس لجورج ريتزر، وقاموس السرديات لجيرالد برنس، ومن كتب الكاتب والفيلسوف المصري الأمريكي إيهاب حسن، كتاب تحولات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة (قام بالإعداد مع الترجمة)، وترجم له: الخروج من مصر- مشاهد ومجادلات من سيرة ذاتية، النقد النظير- سبعة تأملات في العصر، أوديب أو تطور ما بعد الحداثة- حوارات ودراسات (قام بالإعداد مع الترجمة). في الطريق كتب أخرى لاتزال قيد الاختيار أو قيد الكتابة فعليا، وغني عن البيان أن الرجل له مئات المقالات والدراسات المنشورة في أماكنها المتخصصة المعتبرة.
ومن آرائه المعلنة المثيرة للجدل أن ثورة يناير صنيعة الإخوان؛ إذ يرى أنها كانت بقيادتهم الخفية ولم تكن بلا قيادة كما هو مشهور، والدليل حصدهم ثمرتها في النهاية، يراها أيضا ثورة ما بعد حداثية؛ فأساس قيامها كان ثورة الاتصالات والمعلوماتية.. ومنها رفضه المبرر لمصطلح «مختبر السرديات» في مصر إذ لا يستريح إليه بالمرة، شارحا معنى الكلمتين شرحا وافيا ومبينا الفوارق بينهما وبين ما يجري في مصر تحت المسمى الملتبس المحيِّر؛ نقلت عنه المواقع مرارا ما كتبه وقاله بهذا الشأن: لقد تفقدت مصطلح «مختبر السرديات» لأسباب سوف يتفهمها أى دارس أو متابع لنشأة علم السرد وتطوره، ولا سيما ما تحيل إليه كلمة «مختبر» laboratory وكلمة «سرديات» Narratology أو علم السرد، وارتباطهما بالمحاولات المنهجية التى جرت فى ستينيات القرن الماضى للبحث عن قواعد عامة أو «نحو» لكل أنواع المحكيات وإضفاء صفة «العلمية» على هذا النوع من البحث وربطه بما يحدث فى عالم الفيزياء أو النبات، وهى محاولات انتهت بفشل المنطلق البنيوى الذى كانت تدرس على أساسه النصوص الأدبية، ولا سيما المحكيات.. وما دام الأمر هكذا، جاز لنا أن نسأل: ما علاقة مختبر السرديات بالمنصورة أو الإسكندرية بهذا كله، وما نوع التجارب «المعملية» التى يقوم بها أى منهما فى مجال السرد بالضبط، بوصفهما امتدادًا أو تطويرًا لهذه النزعة العلمية التى نشأت فى الستينيات، وعنى بها مجموعة من الباحثين من أمثال رولان بارت، وتزفتان تودوروف، وإ. ج جريماس وكلود بريمون وجيرار جينيت وجيرالد برنس وغيرهم.. والتى استمدت أصولها من جهود الشكلانيين الروس، ولا سيما فلاديمير بروب فى دراسته المعنونة بـ «مورفولوجيا الحكاية الشعبية».. أنا لم يحمل نقدى للمصطلح أى قدح فى أعضاء ما يسمى بـ «المختبر» أو القائمين عليه، بل انصب نقدى على عدم ملاءمة المصطلح لما يجرى داخل هذه «المعامل» من أنشطة ومناقشات، وهو نقد يمكن الرد عليه بأسباب وجيهة بكل تأكيد.. فهل كفرت حين انتقدت المصطلح وأشرت إلى عدم ملاءمته؟ لم يكتف البعض بتوجيه الاتهام لى بـ «الادعاء» و«قصور معرفتى»، وهم الذين لم يقرأوا كتابًا واحدًا فى السرديات، بل ولا يعرفون شيئًا عن تاريخ نشوء المصطلح وتطوره وما آل أو انتهى إليه، والسؤال، هل غدا المصطلح مقدسًا أو إلهيا إلى الدرجة التى يعتبر فيها نقده أو نقضه مساسًا بأحد القوانين الإلهية – والعياذ بالله – «منتدى السرد» وليس «مختبر السرديات» هذا ما أصبو إليه، بدلًا من «ادعاء» علميةً لا أساس لها على أرض الواقع أو الممارسة على الإطلاق.
فتلك المختبرات المزعومة عبارة عن مقرات تمارس فيها قراءة القصص ومناقشتها مثلها مثل أى نادى أدب، وليس لها علاقة لتلك المناقشات بالتسمية -اللى تخض- والتى تحمل تسمى بـ «مختبر» أى معمل لإجراء التجارب، و«سرديات» يعنى علم السرد الذى أسسه تودوروف فى ستينيات القرن الماضى وطوره رولان بارت وبريمون وجريماس وغيرهم.
رجل مقاتل.
السيد إمام هو والد الروائي الشاب النابغة طارق إمام، وبقدر انفصال هذا المبدع اعن أبيه فيما يكتبه، بقدر اتصاله (العميق) بمشروعه ورؤاه في الترجمة والنقد، والأهم بإنسانيته التي ينعتها بالمميزة الشاهقة؛ فهو كثير الحديث عن تجليات والده الإنسانية ويراها الأكثر علوا وتفردا واختلافا بالضبط كما يحبذه والده ويكبره. طارق حاصل على نفس مؤهل الوالد من نفس الجامعة، له ست روايات وخمس مجموعات قصصية وواحدة للأطفال، حصد سبع جوائز محلية وعربية ودولية (من بينها جائزة الدولة التشجيعية في الآداب، عن روايته هدوء القتلة، عام 2010
المترجم السيد إمام، وولده الروائي طارق إمام
تعلو قيمة الأب.. الرجل المقاتل، ونعته هكذا في محله تماما، فكم يقاتل من أجل تبديد السراب وإرساء الصواب والحرية، والجمع دونه ساكتون، وكم يتسم بالعلمية والمنطقية والدقة، كما يعرفه الأصدقاء والأعداء، بينما الآخرون ليسوا كذلك بالمرة ويتصدرون المشاهد للأسف.. تعلو قيمته على الإشادة به مهما تكن وعلى الحفاوة البالغة بأشجاره وعصافيره، لكن وجدت من المهم أن نقرب صورته البديعة الزاهية للناس؛ لأنه رجل ضروري تماما، ولا يسعى إلى شهرة ولا مناصب، ولا يتعمد الإثارة البتة، بل يسهم إسهاما مقدرا في صناعة المجد العام بهدوء ورقي، وينتصر لقيم الحق والخير والجمال بلا صخب مزعج.