«يسقط يسقط.. حكم المصرف» كان هذا هو الهتاف الذي هز أرجاء بيروت في السابع عشر من أكتوبر 2019، وارتفع دويه وانتشر بمختلف أنحاء لبنان.. من طرابلس، إلى بعلبك، إلى صور، وصيدا، والنبطية، وسهل البقاع.. وغيرها من المناطق والمدن اللبنانية.. فما الذي وحّد الشعب اللبناني بكل ما يحمله من ميراث طائفي عميق ومكنه من رفع شعار واحد لا بديل عنه بمختلف الوطن اللبنانى؟
في محاولة للتعرف على أسباب اندلاع الانتفاضة الشعبية في لبنان وسبل الخروج من الأزمة، وفرص نجاح هذه الانتفاضة -الممتدة منذ ثلاثة أشهر- في تحقيق التغيير المنشود، استضاف «برنامج حلول للسياسات البديلة» بالجامعة الأمريكية بالقاهرة الصحفي اللبناني البارز والباحث المتخصص في الشأن الإقتصادي محمد زبيب الذي القى محاضرة بعنوان: «ترويض الوحش المالي.. الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للانتفاضة الشعبية في لبنان».
وقد أدارت المحاضرة الكاتبة الصحفية لينا عطا الله رئيس تحرير موقع «مدى مصر» التي قدمت المحاضر بمجموعة من التساؤلات تتعلق بطبيعة الحِرَاك الاجتماعي بلبنان وغيره من أشكال الحِرَاك الأخرى بالمنطقة العربية، وطبيعة الواقع الاقتصادي بتلك البلدان وأثره على إندلاع الحِرَاك الشعبي، وكيف يمكن أن يلعب تاريخ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان دورا في فهم اللحظة الراهنة التي يعيشها الشعب اللبناني اليوم؟
لينا عطا الله
حراك لبنان وعلاقته بالمنطقة العربية
استهل محمد زبيب محاضرته بالإشارة إلى أنه مهما اختلفت الظروف بين مصر ولبنان إلا أنهما يتشاركان مع مختلف بلدان المنطقة العربية في العديد من الخصائص المتعلقة بالتبعية المفرطة للسوق الرأسمالية العالمية، ذلك أن بلدان المنطقة تخضع لنظام إقتصادي ريعي ضخم تقوده بقوة عائدات النفط وتحويلات الهجرة وتجارة الولاءات على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
محمد زبيب
ويقول زبيب: إنه وعلى عكس الشائع بعدم وجود علاقة بين ما شهدته مصر خلال العقد الأخير وما يشهده لبنان من حراك منذ 17 أكتوبر الماضي، بدعوى إختلاف السياقات، إلا أن الشواهد تشير إلى أن الدوافع وراء غضب الناس تبدو الآن مترابطة، فهى سلسلة متصلة من القاهرة إلى الخرطوم إلى بيروت فبغداد والجزائر وطهران، فكل مكان ظهرت فيه سياسات النيوليبرالية كمشروع سياسي لتراكم الثروة، أصبح محلا لاندلاع المواجهات الاحتجاجية الشرسة ضدها.
المعضلة الهامة التي تعاني منها الرأسمالية تاريخيا وفقا لرؤية محمد زبيب تتمثل في قضية اللامساواة، وإذا ما أضيف إليها سيطرة النظام الريعي والإحتكارات وتسويغ الفساد، وتقديم المنفعة الخاصة على المنفعة العامة يصبح النموذج اللبناني شديد التطرف، ليس فقط لكونه يجمع مختلف السمات الخاصة بأزمة الرأسمالية، ولكن لكون المجتمع اللبناني مجتمعا منقسما طائفيا في ظل دولة صغيرة ضعيفة ذات إقتصاد هش وغياب دستوري وارتهان عميق للعوامل الخارجية، كلها عوامل قد تؤدي لأن يصبح المجتمع اللبناني أمام كارثة ممتدة لسنوات عدة لا يعلم أحد مداها، إذا لم ينجح اللبنانيون في انتفاضتهم الجارية اليوم.
طبيعة الأزمة
خلال المحاضرة قدم محمد زبيب صورة مفصلة لطبيعة الأزمة التي يعاني منها لبنان اليوم مشيرا إلى أن الاقتصاد اللبناني قد سجل حالة من الإنكماش تصل لنسبة 5% سنة 2019، ليس هذا فحسب بل أن هذا الاقتصاد منذ سنة 2011 حتى الآن لم يسجل أي نمو اقتصادي فعلي، وذلك في الوقت الذي زاد فيه معدل السكان بنسبة تصل إلى 30% نتيجة تدفق موجات اللاجئين السوريين، وهو ما يعني أن حصة الفرد قد تناقصت بشدة هذا إلى جانب الأزمة المتعلقة بالتوزيع غير العادل للثروة والخدمات والتي تؤثر بشكل مباشر على معيشة الفئات الأكثر فقرا والفئات المتوسطة.
من جانب آخر فإن ما يعانيه الإقتصاد اللبناني من إنكماش قد نجم عنه خسارة عدد كبير من العمال لوظائفهم، فباتوا متعطلين عن العمل، وهو ما تسبب فى أن يقبع عدد كبير من اللبنانيين تحت خط الفقر.
الأمر الأكثر خطورة الذي دفع اللبنانيين للخروج مطالبين بسقوط «حكم المصرف» تمثل- كما أشار زبيب – فيما اتخذته المصارف اللبنانية من سياسات تقييد منذ ما يقرب من خمسة أشهر استنادا إلى عدد من الإجراءات غير القانونية، نجم عنها تقييد حساب المودعين بالمصارف. وقد تجلت أزمة هذه الإجراءات بصفة خاصة لدى الموظفين بالقطاعيْن العام والخاص الذين يتقاضون أجورهم عبر حسابات خاصة بالبنوك، وبالتالي جرى تقييد هذه الحسابات ،فبات هؤلاء الموظفون لا يتقاضون كامل أجورهم مرة واحدة، بل يتقاضونها بالتقسيط، أو يتقاضوها منقوصة.
كما طالت تلك القيود الودائع وتحديدا الودائع الصغيرة والمتوسطة، وبات هناك عدد كبير من المودعين بما فيهم المتقاعدون الذين ادخروا مكافآت نهاية الخدمة في البنوك، عاجزين عن الوصول لمدخراتهم إلا بقيم قليلة للغاية، ذلك أن بعض البنوك أصبحت لا تسمح سوى بسحب مائة أو مائتي دولار أسبوعيا، وهو مبلغ ضئيل جدا لا يفي بتأمين الإحتياجات الأساسية للأسر اللبنانية.
الجانب الآخر لتجليات تلك الأزمة تمثل في تقييد صرف تحويلات اللبنانيين بالخارج حيث تم احتجازها بالمصارف وهى تمثل مصدر دخل رئيسيا للعديد من الأسر اللبنانية، وهو ما أثر بطبيعة الحال على الأوضاع المعيشية لتلك الأسر.
أزمة سياسات التقييد تلك لم تؤثر على الأفراد فقط ولكنها طالت كذلك العديد من المؤسسات مثل المستشفيات التي باتت ترسل العديد من التحذيرات الجادة بسبب كونها عاجزة عن توفير الأدوات واللوازم الطبية الضرورية، نتيجة عجزها عن إستيراد تلك الأدوات وذلك بسبب عدم تمكنها من الوصول لحساباتها المصرفية.
كما تجلت آثار تلك الأزمة في الإنقطاع شبه الدائم للكهرباء في بيروت نتيجة عدم تمكن مؤسسة الكهرباء اللبنانية من إستيراد الزيوت الخاصة بتشغيل معامل الإنتاج ما نجم عنه عدم تمكنها من تشغيل كامل الطاقة الإنتاجية من الكهرباء، وهو ما من شأنه أن يترك أثره الخطير على الواقع الاقتصادي والاجتماعي اللبناني على حدا سواء.
الأزمة المالية في لبنان لم تقتصر على سياسات التقييد من قبل المصارف بل وصلت حد ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة الذي وصل لأول مرة مستوى سعر 2400 ليرة للدولار الواحد، مع الترجيح بأن يستمر هذا التصاعد في الزيادة، وذلك مع العلم أن لبنان تتبنى نظام سعر الصرف الثابت للدولار والذي يقدر ب1507 ليرة للدولار.
انعدام المساواة
اندلعت الإنتفاضة اللبنانية إذن كرد فعل مباشر للأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها لبنان، والتي تجلت في زيادة معدلات الفقر بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، فالأسر التي تقع تحت خط الفقر بلغ معدلها ما يزيد عن خمسين بالمائة من معدل الأسر اللبنانية، مع تركز شديد للثروة بيد فئة محدودة لغاية حيث تشير الإحصاءات إلى أن 1% من السكان يحوزون نحو 25% من الدخل، ويمتلكون نحو 40% من الثروة، وأن 25 ألف مودع فقط يملكون ما قيمته 90 مليار دولار.
كما أن لبنان يحتل درجة عالية من اللامساواة وفقا لمؤشر جيني الذي يرتب البلدان المختلفة وفقا لمستوى انعدام المساواة (صفر يعني مساواة تامة ومائة تعني عدم مساواة تامة) بدرجة تصل إلى 88.9% وهى بذلك تحتل المرتبة الخامسة في انعدام المساواة، تسبقها مصر حيث تقع في المستوى الثالث بدرجة 90.9% من انعدام المساواة.
مفاجآت الأزمة
«يسقط يسقط.. حكم المصرف» الهتاف الجامع الذي وحد اللبنانيين قدم للمتابع للأحداث مفاجأة وصفها محمد زبيب بأنها «غير متوقعة»، حيث اندلعت الانتفاضة بمناطق عدة خارج بيروت، فكسرت بذلك ما يمكن وصفه بمركزية بيروت، حيث كانت كل الحِرَاكات السياسية السابقة تندلع من بيروت وتتركز بها، نتيجة ما تعانيه المناطق الأخرى من تهميش –اجتماعي، سياسي، اقتصادي- ما جعلها لا تتعامل مع مجمل الحِرَاكات السابقة لكونها مهمشة بالأساس. فالجديد الذي جاءت به انتفاضة 17 أكتوبر 2019، والمستمرة حتى اللحظة الراهنة، تمثل في خروج العديد من المناطق نتيجة ما تعانيه من حرمان شديد للمطالبة بسقوط حكم المصرف وسياسات التقييد التي أثرت على جموع الشعب اللبناني على إختلاف فئاته وطوائفه.
ولم يقتصر الأمر على توحيد الشعار ضد المصرف، بل وصل حد محاولة رموز الطوائف المختلفة من «حزب الله، وحزب المستقبل، والتيار الوطني الحر» وغيرها من أحزاب وقوى طائفية، للتعامل مع الإنتفاضة في بعدها الطائفي، إلا أن واقع الحال لم يمكّن هذه الأحزاب من ذلك على الإطلاق، فقيام الإنتفاضة استنادا للأزمة الإقتصادية، جعل تلك الأحزاب والقوى السياسية في موقف حرج، هو ما لم يمكنهم من تحويل الحراك لصراع طائفي بين المناطق والطوائف المختلفة.
الخروج من الأزمة
نجحت الإنتفاضة حتى اللحظة الراهنة في تحقيق بعض مطالبه- كما يرى محمد زبيب-.. فقفد استقالت الحكومة في نهاية شهر أكتوبر الماضي بضغط من الشارع اللبناني، وقوى الإنتفاضة مازالت تُصر على تشكيل حكومة جديدة مستقلة تتولى وضع برنامج اقتصادي للإنقاذ وتأمين الحماية للمجتمع ووضع آليات التغيير المنشود، ذلك أن مجمل الإجراءات التي كانت تحاول الحكومة السابقة وضعها لمواجهة الأزمة المالية تقوم بشكل أساسي على ترتيب أعباء جديدة باهظة على الفئات الأقل فقرا والمتوسطة الحال. الأمر الذي يحتم وضع تصور يقوم على معالجة أسباب الأزمة يستند إلى العمل على الحد من سلطة المصارف عبر العمل على إعادة هيكلتها، وهو ما أطلق عليه محمد زبيب مسمى «ترويض الوحش» والإنتقال لنظام ضريبي عادل وهناك إقتراح بفرض ضريبة استثنائية لمرة واحدة فقط تفرض هذا العام (2020)، على رأس المال تصل لنسبة 20% وهو ما سيحقق دخلا فوريا يعادل 20 مليار دولار، بشرط إلا تفرض تلك الضريبة سوى على من يمتلكون رأسمال 500 ألف دولار فأكثر، أما من يقل رأسمالهم عن ذلك فلا تفرض عليهم تلك الضريبة.
غير أن الأهم هو بناء نظام سياسي اقتصادي اجتماعي يتسم بدرجة من العدالة ومن ثم يفسح المجال أمام مزيد من العمل والإنتاج والإبتكار والاستثمار.