يرى البعض أن التيارات السياسية والفكرية الرئيسية الكبرى في مصر «الليبرالي والماركسي والقومي الناصري والإسلامي»، قد سقطت في إختبار الاحتجاجات الشعبية التي عرفتها المنطقة في العقد الأخير، والتي لا تزال تتجدد حتى اليوم في موجتها الثانية.. فهل عجزت تلك التيارات عن استيعاب تطلعات الشعوب لبناء نظام سياسي ديمقراطي يحقق العدالة الإجتماعية بين شرائح المجتمعات العربية؟
موقع «أصوات أونلاين» وفي إطار اهتمامه بسؤال «المستقبل» يطرح تساؤلات عديدة عن مستقبل هذه التيارات الرئيسية على مائدة البحث والنقاش، عبر سلسلة من الندوات تخصص كل منها لأحد التيارات الأربعة للنقاش، حول مدى قدرة هذه التيارات على مراجعة أفكارها وإعادة صياغة رؤاها، لتناسب التحديات الجديدة التي يطرحها الواقع والمستقبل العربي.
وقد تم تخصيص الندوة الأولى – ضمن هذه السلسة من ندوات «أصوات» – لتسليط الضوء على تجربة التيار القومي الناصري، عبر طرح سؤال جوهرى عن الآفاق الممكنة لتجديد هذا التيار في العالم العربي. وقد شارك في أعمال هذه الندوة عدد من المفكرين والسياسيين والكتاب والباحثين من مختلف التيارات السياسية، وأدار النقاش الأستاذ حسين عبد الغني رئيس مجلس إدارة موقع أصوات أونلاين.
فرصة تاريخية ضائعة
استهل حسين عبد الغني أعمال الندوة بالإشارة إلى أن التيارات الرئيسية السياسية والثقافية الكبرى التي هيمنت على العالم العربي في القرن الأخير ،سواء التيار الإسلامي، أو التيار القومي،أوالتيار الليبرالي، أوالتيار اليساري والماركسي، قد أخفقت في اختبار الربيع العربي وضيعت فرصة تاريخية كان من الممكن أن تكون بداية لبناء دولة المواطنة والديمقراطية. وأوضح عبد الغني أن هذه الندوة تحاول طرح الآفاق الممكنة لتجديد التيار القومي الناصري في العالم العربي، استنادا إلى كتاب الأستاذ عبد الله السناوي «أخيل جريحا.. إرث جمال عبد الناصر»، وذلك لأن المشروع الناصري يعد مشروعا يمكن تناوله والحديث عن مستقبله، خصوصا وأن تيار البعث القومي، أصبحت لديه مشكلة وجودية كبيرة لأسباب كثيرة تتعلق بالدولتين المهمين فيه وهما سوريا والعراق، كما أن حركة «القوميين العرب» انتهت كحركة منذ وقت طويل.
الناصرية.. مشروع.. لا نظرية
وبعد ذلك قدم الكاتب الصحفي الأستاذ عبد الله السناوي نبذة مختصرة عن كتابه «أخيل جريحا.. إرث جمال عبد الناصر» مشيرا إلى وجود مشكلة تتعلق بالأجيال الجديدة من شباب مصر الذين لا يعلمون شيئا تقريبا عن تاريخ مصر الحديث، لا عن ثورة 1919 ولا ثورة 23 يوليو 1952.. والأمر الأكثر خطورة يتمثل في وجود حالة من القطيعة بين الثورات المصرية منذ ثورة عرابي حتى ثورة 25 يناير 2011، ذلك أن كل ثورة تأتي لتنفي ما قبلها، وكأنه لا يوجد أي تراكم تاريخي للعمل الوطني في مصر ،وهو بالطبع أمر غير صحيح يحتاج لمعالجته عبر مزيد من الدراسات التاريخية المدققة.
ثم تناول السناوي مستقبل المشروع الناصري مؤكدا على أن «الناصرية ليست نظرية يقاس على نصوصها، لكنها مشروع يقاس على قيمه» ومن هذا المنطلق يمكن النظر للمشروع الناصري بوصفه «مشروع وطني متجدد». ويضيف السناوي أن ما قد ميز ثورة 23 يوليو أنها قدمت نموذجا للمشروع الوطني يقوم على أسس التنمية المستقلة، والتحرر الوطني والإستقلال في إدارة السياسة الدولية، وعدم الانحياز، والوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية، وهى في مجملها تعد أسس نموذج متكامل للمشروع الوطني غير أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى وجود العديد من الأخطاء التي واكبت عملية التطبيق. فالمناقشة التي طرحت عبر الكتاب ركزت على محاولة إبراز التناقض فيما بين المشروع والنظام، وكيف نشأ المشروع في إطاره التاريخي، مع رصد أبرز أخطاء المشروع والتي تمثلت في قضية الديمقراطية وحقوق الانسان.
أما النقطة المثيرة التي طرحها السناوي فتمثلت في الإشارة إلى أن الرئيس جمال عبد الناصر،كان قد أولى اهتماما خاصا بمراجعة مشروعه ليس كما هو شائع في أعقاب هزيمة يونيو 1967، ولكن تم طرح تلك المراجعة قبل الهزيمة وذلك في مؤتمر المبعوثين الذي عقد بمدينة الأسكندرية عام 1966. فقد تم خلال هذا اللقاء رصد أوجه الخلل في بنية النظام. وقد تجددت محاولة المراجعة تلك في إبريل 1967 حين اجتمع عبد الناصر مع محمد حسنين هيكل في محاولة لطرح الأخطاء الجوهرية بالنظام، وكيف أن حركة التطور الإجتماعي باتت أكثر تعقيدا من قدرة النظام وبنيته. ومن ثم اختتم السناوي حديثه بالإشارة إلى أن التيار القومي الناصري من أكبر التيارات على مستوى الوطن العربي، لكنه مع ذلك، يعاني من التشتت وعدم التنظيم.
الشباب وسؤال المستقبل
أما الباحث الشاب بمركز الأهرام للدراسات السياسية أحمد كامل البحيري، فقد تناول مستقبل المشروع القومي الناصري من وجهة نظر شابة، مشيرا إلى أنه كانت هناك أكثر من محاولة لطرح عدد من الرؤى المستقبلية الخاصة بالمشروع الناصري منذ بداية عام 2000، إلا أنه لم يكن هناك إتفاق بين القائمين على طرح تلك الرؤى، حول ماهية الأفكار والأسس الرئيسية للتطوير في المستقبل.
وقد ضرب البحيري مثلا بتجربتين للمراجعة.. جاءت الأولى عام في 2006 حيث تم طرح وثيقة لتجديد المشروع الوطني الناصري داخل حزب الكرامة، ثم كان هناك مشروع آخر للمراجعة تم في 2014 وصدرت عنه وثيقة تتناول ملامحه وأبعاده المختلفة.
وتناول البحيري قضية العدالة الإجتماعية في التجربة الناصرية مشيرا إلى كونها كانت «عدالة منقوصة» وذلك لإرتباطها بشخص الرئيس مع عدم وجود أي ضمانات اجتماعية على مستوى النقابات العمالية أو الفلاحين أو الأحزاب السياسية أو أي جماعات ضغط أو كيانات تدافع عن مصالحها المرتبطة بالتحول للعدالة الإجتماعية، فجاءت العدالة الإجتماعية في صورة «منح من السلطان للشارع» وكنتيجة لفقدان البعد الديمقراطي جاءت هذه العدالة منقوصة «تم حذفها بجرة قلم كما جاءت بجرة قلم». من جانب آخر طرح البحيري قضية دور المجتمع المدني في النهضة المجتمعية والمشاركة السياسية، وغياب أي طرح لهذا الدور بالمشروع الناصري.
وطالب البحيري في ختام حديثه بضرورة العمل على إعادة النظر في تعريف مفهوم المقاومة وحالة الإستقطاب الحالية الناجمة عن تطبيق ذلك المفهوم بشكل مطلق، كما طالب بضرورة طرح موقف الناصريين من ثورة 25 يناير 2011، وما تبعها من أحداث.
وبصفة عامة – وفقا للبحيري – لم تحدث مراجعات حقيقية، للمشروع الناصري، لا على مستوى الفكر ومتغيرات الواقع، ولا على مستوى الأداء والممارسة في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، ومع إنطلاق اقتصاد المعرفة وعصر المعلومات.
الليبراليون و المشروع القومي الناصري.
أما الدكتور محمد أبو الغار الرئيس السابق للحزب المصري الديمقراطي، والذي تحدث خلال الندوة عن التيار الليبرالى، فقد فرَّق في مستهل حديثه ما بين الرئيس عبد الناصر، الذي يعد أهم زعيم مصري في القرن العشرين، وبين الناصرية، مشيرا إلى أنه – من وجهة نظره – «لا يوجد شيء اسمه ناصرية». فالناصرية هى عبارة عن خليط من الأشياء المتداخلة تتضمن أجزاء من الماركسية مأخوذة بالنص، وأجزاء من نظم الديمقراطية الاجتماعية، إلى جانب الجزء الإسلامي، ومن ثم فان الشعبية التي يحظى بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هى شعبية لا يحظى بها التيار الناصري في مجمله.
طرح أبو الغار رؤيته حول الفكر الديمقراطي الاجتماعي مشيرا إلى أنه قد وجد منذ بدايات القرن التاسع عشر على يد عدد من المفكرين وقد تجلي مع بداية الثورة الروسية وانتشار أفكارها في العديد من البلدان الأوروبية، ومن ثم يضرب أبو الغار المثل بالولايات المتحدة الأمريكية التي تعد قمة الرأسمالية إلا أن المرشحة الديمقراطية للانتخابات الأمريكية القادمة تسعى حاليا لتطبيق نظام شامل للتامين الصحي لكل الشعب الأمريكي، كما يوجد إعانة بطالة وكوبونات طعام، وبصفة عامة فان مستقبل أي تقدم حقيقي سيكون مرهونا بتطوير حقيقي لأساليب تطبيق الديمقراطية الإجتماعية.
ثم انتقل أبو الغار للحديث عن مصر حيث توجد – من وجهة نظره – مشكلة كبرى تتعلق بتحقيق الديمقراطية الإجتماعية، وتتمثل تلك المشكلة في الوصول لمستوى معين من التقدم في مجال التعليم، ذلك أنه في ظل مجتمع يعاني من نسبة أمية تصل إلى 30%، مع عدم تدريب الفنيين بشكل مناسب، فإنه يصعب تطبيق نظم الديمقراطية الإجتماعية، وبناء عليه فإن أي نظام مصري أيا ما كان نوعه، ان لم يقم بعمل تدريب وتطوير وقضاء تام على الأمية في عدد معين من السنين مع تطوير منظومة التعليم بشكل جدي فلن يكون هناك تقدم في المستقبل.
يختتم أبو الغار تناوله للحديث عن المستقبل بالإشارة إلى أنه لا وجود لأي تقدم في أي دولة دون فصل الدين عن الدولة، فلو لم يفصل النظام في مصر الدين عن الدولة في القانون وفي الحياة العامة مع تعليم الناس، فليس هناك أمل في المستقبل.
المواطنة.. والطبقة الوسطى
الأستاذ سمير مرقص الباحث المتخصص فى الشأن القبطي والمواطنة، تناول قضية المواطنة في علاقتها بالدور الهام الذي لعبته الطبقة الوسطى في تاريخ مصر منذ ثورة 1919، وفترة يوليو 1952. وأعتبر أن حركة الطبقة الوسطى في مصر لم تنجز في ثورة 1919 سوى المواطنة في بعديها المدني والسياسي، بينما فشلت فيما هو اجتماعي واقتصادي، لكن جمال عبد الناصر ورفاقه أولوا إهتماما كبيرا بهموم الطبقة الوسطى الجديدة وهموم مختلف الشرائح الاجتماعية الأخرى التي كانت مستبعدة من السلطة والثروة في آن واحد، وقد نجح عبد الناصر فيما يمكن تسميته بالمواطنة في بعديْها الإجتماعي والاقتصادي.
من جانب آخر نجحت التجربة الناصرية – كما يرى مرقص -في طرح مسألة العروبة، والمشروع الاقتصادي الذي خلق نوعا من أنواع الاستقلال الاقتصادي الذاتي، حيث تمكنت التجربة الناصرية من إقامة مشروعات اقتصادية كبرى حتى قبل الوحدة مع سوريا ونتج عنها فائض اقتصادي كان لابد من أن يصدر، وهو ما دفع بطرح فكرة الدائرة العربية. وقد نجم عن فكرة المشروع الاقتصادي الوطني وتصدير فائضه للبلدان العربية، نشوء قاعدة اجتماعية تدين بالولاء لناصر، وهو ما أطلق عليه مرقص مفهوم «المواطنة العروبية القاعدية»، حيث بات ولاء الشعوب العربية لناصر مباشرة وليس لحكامهم، وعلى هذا الأساس يمكن الإشارة إلى أن ما قد ضمن للتجربة الناصرية استمرارها هو البعد المادي وليس البعد الأيدولوجي.
الأمر الأكثر أهمية فيما يتعلق برصد التجربة الناصرية – فى رأى مرقص – يتمثل في أنه وعلى امتداد الفترة الناصرية من 1954 حتى 1970، لم يتم رصد أي توترات دينية، وأن أول حادثة توتر ديني تم رصدها كانت «حادثة أخميم» وقد وقعت بعد وفاة عبدالناصر مباشرة، وهو ما يعني أن المشروع الناصري كان قادرا على استيعاب المختلفين دينيا، وأن الأقباط كانوا يعتبرون أنفسهم جزءا من المشروع الوطني، ولم يكن هناك أي خلاف بين الأقباط وعبد الناصر من أبناء الطبقة الوسطى، لكن الخلاف ارتبط بأقباط الطبقات العليا نتيجة سياسات الإصلاح الزراعي.
(يتبع)