«ﺟﺎء ﺑﺮزوﻳﻪ إلى كسرى أنو شروان، وﻗﺎل: أﻳﱡﻬﺎ الملك، إﻧﻲ ﻗﺮأت قي ﻛﺘﺎب هندي أن في جبال الهند عشبا إذا رُكّب منه دواء فنُثر على ميت ارتد حيا، ﻓﺠﻬﱠﺰه أنوشروان وسيَّره إلى الهند، وبعث معه كتابا إلى الملك؛ ﻓﻠﻤﱠﺎ أﺧﺬ ﻣﻠﻚ اﻟﻬﻨﺪ اﻟﻬﺪاﻳﺎ، وﻗﺮأ اﻟﻜﺘﺎب ﺟﻤﻊ ﻋﻠﻤﺎءه وسيَّرهم مع برزويه لطلب هذا العشب في الجبال، ﻓﺠﻤﻌﻮا ﻛﻞ ضرب ﻣﻦ اﻟﻌﺸﺐ وﺟﺮﱠﺑﻮه، ﻓﻤﺎ أﺣﻴﺎ ميتا…..».
واستمر برزويه ومن معه من العلماء في البحث حتى وصلوا إلى شيخ عالم، عندما سأله برزويه عن العشب الذي في الجبال يُحيى الموتى قال الشيخ: «أﻣﱠﺎ اﻟﺠﺒﺎل ﻓﻬﻲ اﻟﻌﻠﻮم، وأﻣﱠﺎ الموتى ﻓﻬﻢ الجهَّال، وأما العشب فهو كتاب في خزائن ملك الهند يسمى «ﻛﻠﻴﻠﺔ ودﻣﻨﺔ» ﻳﺤﻴﻲ ﻣﻮﺗﻰ اﻟﺠﻬﻞ».
حينئذ أسرع برزويه إلى ملك الهند وانتهى الأمر، بعد جدال وأخذ ورد، إلى أن سمح ملك الهند لبرزويه بالإطلاع على الكتاب أمامه حتى يطمئن إلى أنه لا ينسخه….
جاءت هذه القصة في «اﻟﺸﺎﻫﻨﺎﻣﻪ»، وهي ملحمة فارسية ضخمة تقع في نحو ستين ألف بيت، وتُعتبر أعظم أثر أدبي فارسي في جميع العصور. نظمها أبو قاسم الفردوسي المتوفى عام 329 هـ مصوراً فيها تاريخ الفرس منذ العهود الأسطورية حتى زمن الفتح الإسلامي وسقوط الدولة الساسانية (الإمبراطورية الفارسية الثانية)، منتصف القرن السابع للميلاد. نقلها إلى العربية نثراً، الفتح بن عليّ البُنداري المتوفى 643 هـ.
والقصة التي وردت تدور حول أصل كتاب كليلة ودمنة، وقد تعددت القصص ومن ثم الآراء حول ذلك، حتى إننا لا نستطيع أن نوقن أي هذه الآراء صوابا وأيها خطأ.
هل كتاب «كليلة ودمنة» هندي؟
الرأي الذي يرى أن كتاب كليلة ودمنة أصله هندي يستند إلى باب مقدمة الكتاب التي كتبها علي بن الشاه الفارسي، الواردة في نسخة المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة – 1937 م… وفي هذه المقدمة يقول علي بن الشاه الفارسي، إن كتاب كليلة ودمنة يعود لأصول هندية، وتمت كتابته باللغة السنسكريتية (الهندية) في القرن الرابع الميلادي... فيروي قصة بيدبا الفيلسوف مع ملكه الهندي دبشليم، والتي تقول بأن الإسكندر عندما غزا الهند عيَّن عليها ملكا من أتباعه، وواصل السير لاجتياح بلدان أخرى، لكن أهل الهند بمجرد أن غادرهم الاسكندر، خلعوا ذلك الحاكم الأجنبي، واختاروا دبشليم ملكا عليهم، لكن دبشليم غير سياسته بعد فترة قصيرة، وتحول من ملك عادل إلى طاغية، مما دفع الفيلسوف بيدبا إلى تقديم النصح للملك، وبعد أن استمع الملك إلى كلام بيدبا غضب وأمر بقتله وصلبه، ثم خفف الحكم واكتفى بحبسه، وبعد فترة أمر بإخراجه من السجن، وطلب منه إعادة كلامه عليه. فقام بيدبا بذلك، وكان دبشليم يستمع متأثرا، ووعده بأنه سيعمل بكلامه ثم أمر بفك قيوده… هذا الأمر كان بداية وضع الكتاب، حيث طلب بيدبا من الملك دبشليم أن يُدوَّن الكتاب ويُحفظ، فأجابه الملك إلى طلبه… وهنا كُتبت النسخة الهندية من كتاب كليلة ودمنة.
وبعد أن وضع بيدبا الكتاب ودونه باللغة الهندية (السنسكريتية)، تأتي مرحلة نقلة (ترجمته) إلى اللغة الفارسية (الفهلوية) على يد برزويه، فنجد في نسخة مكتبة المعارف المصرية سنة 1941، التي قام عميد الأدب العربي الدكتور/ طه حسين بكتابة التصدير لها، وحققها وكتب مقدمتها الدكتور/ عبد الوهاب عزام… في هذه النسخة، يأتي بعد التصدير والمقدمة، «باب عرض الكتاب لعبد لله بن المقفع»، يليه «باب توجيه كسرى أنوشروان برزويه إلى بلاد الهند لطلب الكتاب»، ثم «باب برزويه الطبيب»….. وبعد هذا الباب، تأتي أبواب الحكي في كتاب كليله ودمنة، وهي خمسة عشر بابا، أولها «باب الأسد والثور»، ويلي هذا «باب الفحص في أمر دمنة».. ثم «باب الحمامة المطوقة»… وتتوالى أبواب الكتاب، لننتهي بـ «باب الناسك والضيف». وفي هذا الباب الذي يُختتم به الكتاب، يلخص الفيلسوف بيدبا للملك دبشليم الغرض من كل ما رواه له من حكايات على مر خمسة عشر بابا، فيقول له: «لقد شرحت لك الأمور ولخصت لك جواب ما سألتني عنه، واجتهدت لك في رأيي، ونظرت بمبلغ فطنتي في التماس قضاء حاجتك، ﻓﺎﻗﺾ ﺣﻘﱢﻲ ﺑﺤﺴﻦ اﻟﻨﻴﺔ ﻣﻨﻚ ﺑﺈﻋﻤﺎل فكرك وعقلك فيما وصفت لك» ……………….. «فمن تدبر هذا الكتاب بعقله، وعمل فيه بأصالة رأيه، ثم فكر فيه، كان قِمنًا (القمنُ: الخليق والجدير) للمراتب العظام والأمور الجسام، والله يوفقك أيها الملك ويصلح منك ما كان فاسدا».
لننظر الآن باب توجيه برزويه إلى بلاد الهند، الذي نطالع فيه رواية تختلف بعض الشيء عن رواية الشاهنامه، فكسرى أنوشروان هو من علم بوجود كتاب كليلة ودمنة في بلاد الهند، وهو كتاب «مُيِّزت أبوابُه، وأثبتت عجائبه على أفواهِ الطير والبهائم والوحش والسباع والهوامِّ، وسائر حشرات الأرض، مما يحتاج إليه الملوك في سياسة رعيتها، وإقامة أَوَدها وإنصافها»… ويروي الباب أن أنوشروان اختار برزويه ليرسله إلى بلاد الهند ليجلب له الكتاب سرا دون أن يُخبر أحدا بهذه المهمة، حيث قال له: «وليكُن ذلك في سرٍّ مكتوم»…. وتستمر القصة في سرد لما قام به برزويه من مغامرات، واحتياله للإطلاع على الكتاب، ومبالغة الهند في منع الأجانب أن يطلعوا على كتابهم…. وينتهي الباب بعودة برزويه إلى أنوشروان بعد نجاحه في الحصول على الكتاب وترجمته إلى الفارسية (الفهلوية).
عندئذ يُسَّر أنوشروان سرورا عظيما ويأمر بفتح خزائن المملكة ليأخذ منها برزويه ما يريده، لكن برزويه يقول للملك: «لا حاجة لي إلى شيءٍ من ذلك، لكني أرُيد أن أسأل الملك حاجةً يسيرةً يكون لي في قضائها ذكرٌ وفخرٌ، قال الملك: وما تلك الحاجة؟؟ قال برزويه: إن رأى الملك أن يأمر بُزُرجِمِهر بنَ البختكان (وزير أنو شروان) أن يضع لي في رأس هذا الكتاب بابًا باسمي، وينسِبَ إليه شأني وفعلي؛ ليكون لمن بعدي عِبرةً وتأديبًا، ويحيا به ذكري ما حييتُ في الدنيا وبعد وفاتي، فإنه إن فعل ذلك فقد شرَّفني وأهلَ بيتي آخر الأبد».
يرفض إذن برزويه كل كنوز كسرى أنوشروان ويطلب أن يُلحق بصدر كتاب كليلة ودمنة فصل يُذكر فيه ما قام به برزويه من مغامرات ومشقة وما تعرض له من مخاطر، في سبيل نقل الكتاب من الهندية إلى الفارسية.
وهنا نجد «باب برزويه الطبيب»، الذي كتبه بزرجمهر بن البختكان، وزير كسرى انوشروان (حسب طلب برزويه)…ويبدأ الباب على النحو التالي… «قال بُزُرجِمِهر: إنَّ برزويه رأْس أطباء فارس، وهو الذي وَلِيَ انتساخ هذا الكتاب، وترجمه من كتب الهند، قال: إنَّ أبي كان من المقاتِلة، وكانت أمي من بنات عظماء الزمازِمة، وفقهائهم في دينهم». ……… ويستمر الباب في ذكر مآثر برزويه، وحسن خلقه، وطيب نسبه، وما يتحلى به من إقدام وطاعة لأولي الأمر في الحق… وغيرها من صفات محمودة.
هل ألَّف ابن المقفع «كليلة ودمنه»؟
هناك رأي آخر شكّك في ذلك كله ورأى بأن أصل الكتاب عربي، ومما يستند إليه أصحاب هذا الرأي الذي يقول بأن ابن المقفع هو من ألَّف كتاب كليلة ودمنة، أن النسخة العربية هي النسخة الوحيدة التي بقيت محفوظة بخلاف النسختين الهندية والفارسية اللتين فقدتا، حيث لم يُوّفق الباحثون منذ عصر ابن المقفّع حتى اليوم في العثور على نسخةٍ واحدةٍ هنديةٍ من هذا الكتاب، ولا حتى على النسخة الفارسية التي تُرجمت في ذلك الوقت إلى العربية مما يثير هنا بعض الأسئلة: هل ضاعت هذه النسخ الهندية والفارسية؟… وإذا كان ابن المقفع وجد نسخة منها ألا يستطيع غيره أن يجد مثلها؟.
ويرى أصحاب هذا الرأي، أن قصة انتقال الكتاب من الهند إلى فارس، والقصص التي رويت على ألسنة الحيوانات، كل هذا من وضع عبد الله بن المقفع نفسه، ليبعد التهمة عنه كونه خاف على نفسه من الهلاك. فقد خاف على نفسه من القتل فكتبه على ألسنة الحيوانات واخترع قصة انتقاله من الهند إلى فارس ليبعد التهمة عنه، فقد كانت الحياة السياسية والاجتماعية كما رويت عن الحكيم الهندي بيدبا مع الملك دبشليم مشابهة لما كان هو عليه مع الخليفة المنصور، الذي كان يُعرف بقوة بأسه وشدته على من يخالفه، فكان ابن المقفع بحاجة إلى نصح الحاكم بشكل غير مباشر.
ومن النسخة العربية انتشر الكتاب إلى الأدب العالمي، فالنسخة العربية هي النسخة التي ترجم عنها الكتاب إلى مختلف اللغات الأخرى.
وقد ذكر دكتور/ عبد الوهاب عزام، في مقدمته التي حقق خلالها كتاب كليلة ودمنة بشكل تفصيلي، أن الكتاب «تنافست الأمم ذات الآداب في الحصول عليه، وحرصت كل أمة أن تنقله إلى لغتها، فليس هناك لغة من لغات العالم إلا ترجم إليها»…. فقد ترجم إلى: السريانية الحديثة، واليونانية، والفارسية، والعبرية، واللاتينية، والاسبانية، والانجليزية، والايطالية، والتركية، والألمانية، والدانمركية، والهولندية. وطُبعت النسخة الألمانية من الكتاب التي تحمل عنوان كتاب الأمثال سنة 1483م، وهو ما جعل الكتاب واحداً من أوائل الكتب التي تمت طباعتها بواسطة مطبعة جوتنبرغ بعد الكتاب المقدس.
من الصعب الانحياز إلى أي من الرأيين فيما يتعلق بأصل كتاب كليلة ودمنة، فنحن نعرض كلا الرأيين دون ترجيح أي منهما على الآخر.. إلا أن ما يمكن أن نرجحه تماما وبلا أدني شك،هو أن مخاوف عبد الله بن المقفع من الهلاك على يد المنصور كانت مشروعة تماما. ففي عام 142 هجرية أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بقتله، وقد أُشيع أنه قُتل بسبب اتهامه بالزندقة، وهو اتهام باطل ،ويمكن التدليل على بطلانه بكل سهولة، إنما قتل لسبب يتعلق بأنه لم يأخذ حذره في مؤلف آخر له، ذلك الحذر الذي توخاه في كتاب كليلة ودمنة. لكن قصة مقتل ابن المقفع، وأسباب مقتله قصة أخرى أرجو أن أعود إليها في وقت لاحق.