تحرك الضمير الجمعي المصري، بعد ظهور صورة الشاب السكندري «خالد سعيد» علي وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة بعد أن تضامنت مع قضيته قطاعات واسعة من الشعب. وفي الطليعة تقدم الشباب أبناء الموجة الثالثة المعلوماتية (بعد الزراعة والصناعة)، ليكشف المشهد عن عنصر إبداعي جديد في ثقافة الاحتجاج والغضب، الي جانب التعبير بـالكلمة أو النظم الشعري الذي ظل مسيطرا لقرن من الزمان، منذ أطلق الزعيم مصطفى كامل في مطلع القرن العشرين صحيته الشهيرة: «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا».
صورة الدرة.. وانتفاضة الأقصى
كان العنصر الجديد في ثقافة الاحتجاج هذه المرة هو الصورة، وذلك علي خلاف ما صرح به د. جابر عصفور عن أننا نعيش عصر الرواية، «إنه عصر الصورة يا ناقدنا»، لدرجة تغيير المصطلح المعبر عن هذا المجال، من الفن الجميل في مستهل القرن العشرين إلي الفن التشكيلي، ثم إلي الفن البصري مؤخرا.
وكان القرن الحادي والعشرون، قد بدأ بانتفاضة الأقصي التي استمرت خمس سنوات، بعد صورة الرعب البادي علي ملامح الطفل الفلسطيني «محمد الدرة». صحيح أن شرارة اندلاع الانتفاضة كانت لحظة دخول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون إلى باحة المسجد الأقصى برفقة حراسه، لكن صورة الطفل الفلسطيني «محمد الدرة» أصبحت رمزا للانتفاضة الثانية، فبعد يومين من اقتحام المسجد الأقصى، أظهر شريط فيديو التقطه مراسل قناة تلفزيونية فرنسية في 30 سبتمبر عام 2000، مشاهد إعدام للطفل (11 عاما) الذي كان يحتمي إلى جوار أبيه ببرميل إسمنتي في شارع صلاح الدين جنوبي مدينة غزة.
وفي واقعة أخرى تؤكد الأهمية المتصاعدة لتأثير الصورة، شهدت مصر جدلا واسعا بعد أن قامت إحدي الصحف الكبري بتغيير وضع الرئيس الأسبق «مبارك» في صورة تجمعه مع الرئيسين الامريكي والفلسطيني والعاهل الاردني ورئيس الوزراء الاسرائيلي من مكان متأخر أثناء خطوات السير، الي مقدمة الصورة، بهدف التغطية على أنباء عن تأخر صحة مبارك.
الجرافيتي.. فن مشاغب
في الوقت الذي جاء فيه فن الجرافيتي محرضا ومعبرا عن جيل جديد من الفنانين، ركبوا الصعب، فقد استعصى هذا الفن على محاولات المحو و التهميش، منطلقا من منبع أصيل فى نفوس صانعيه إلي فضاء جديد، وكلما امتدت يد السلطة إليه بالإلغاء يظهر من جديد، كأنه عصفور النار فى آتون معركة الحرية والبحث عن الذات، ليعلن ميلادا أسطوريا إستثنائيا ملحميا بارادة ثورية.
استطاع فن الجرافيتي المطارَد النفاذ برسالته إلي رجل الشارع بدون حواجز أو رسميات، ربما لأنه فك شفرة الإتصال المباشر مع الناس، أو أن حرية التعبير كانت سببا رئيسا فى الإنطلاق، أو أن الأسلوب البسيط العفوي التلقائي ساهم فى خروج الشحنة من الصدور. كان سحر التواصل هو ما جمع كل المتناقضات على الجدران المرسومة كـ «كتب مفتوحة»
المدهش أن فناني الجرافيتي بأدواتهم البسيطة من ألوان وخطوط ورسوم على الجدران أثاروا بطش السلطة التي تحركت لتقمع نشاطا إنسانيا إبداعيا عُرف منذ أيام الإنسان الأول ورسمه على جدران الكهوف. تلك الرسوم التي كان يعبر بها عن نفسه عندما كان في الكهف، حيث يرسم المواجهات مع الحيوانات المفترسة فى الخارج، بهدف اثارة الحماس.
رغم أننا فى الألفية الثالثة المعلوماتية، سجلت الثورة المصرية مفارقة عجيبة غريبة. فقد جمعت فى الآن نفسه بين وسائل عصرية تكنولوجية لجأ لها الثوار كوسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك وتويتر والمواقع الالكترونية )ـفي الوقت الذي لجأ فيه الفرقاء فى الثورة إلي وسائل بدائية فى ظاهرها تنتمي الى العصر الحجري، كاستخدم الحجارة فى التراشق مع الخصوم أو فى استخدام الطرف المناوئ للثورة لأساليب بدائية كان أبرز مثال عليها ما عرف بموقعة الجمل.
تاريخ الجرافيتي
ظهر فن الجرافيتى – في صورته الحديثة – لأول مرة بشكله المعاصر، فى أوروبا متمردا على السائد والمألوف وجدران المعارض بعد أن تكدست المتاحف بالأعمال الفنية. بدا الجرافيتى محرضا استفزازيا، يعكس تمرد وغضب الأجيال الجديدة من سطوة الاستبداد. ويعد الفنان الإنجليزى «بانكسى»، من أشهر فناني هذا الفن المشاغب فى العالم، بسبب السخرية اللاذعة التى شحن بها أعماله على الجدران، مناهضا بذلك للفكر الرأسمالي، بالاضافة الى هجومه الضاري على ثقافة الاستهلاك.
إحدى لوحات الفنان الانجليزي المشهور المجهول «بانكسي»
فيما ظهر الجرافيتي فى أمريكا مع موجة التغيير العالمية، وبروز صوت الشباب وفن البوب آرت، وموسيقى الهيب هوب، فى نهاية الخمسينات من القرن المنصرم، ومن رواد هذا الاتجاه فى نيويورك: «خوليو»، «يانكى».
ارتبط فن الجرافيتي بالنقد الاجتماعي الساخر اللاذع، كنصل سكين حاد، لكن مع الثورة المصرية ظهر كسلاح فى يد الثوار، مرة بهدف تحريضي، يثير الحماس، ومرات بهدف توثيقي، ليصبح كتبا مفتوحة للمعرفة، وفضح ممارسات السلطة.
وقد تخلى فنانو الجرافيتى عن الراحة والحذر من أجل رسالة التعبير عن مفاهيم ثورية للناس، بل حتى ظلوا بعيدا عن الأضواء والشهرة، متخفين فى أسماء وهمية حركية بهدف وطني، تجنبا لـبطش السلطات. لكن أهم ما تخلى عنه هولاء الفنانون الشباب هو ملكية العمل الفني لصالح الملكية العامة للشعب والمعرفة، حتى لو تعرضت الرسوم للمحو، فى الوقت الذى كان يحرص فيه الفنانون المحافظون على بيع اللوحات داخل قاعات عرض معزولة، بعيدا عن الناس، ليصبح الفن نخبويا لا يلبي أية حاجة مجتمعية.
استعادة التاريخ
عُرفت مصر طوال تاريخها برسوم الجدران والجداريات، سواء مع المصري القديم، وعصر الأسرات، أو مع دخول الإسلام إلى مصر. وقد لجأ الفنان الشعبي إلى الجدران ليعبر عن فرحة المصريين بالسفر للحج وختان الأطفال من الذكور، وتسجيل أفراحه وأتراحه، و هو رسم سبقه رسم المصري القديم للوجوه فى طقس عقائدي، حتى تتعرف الروح فى الآخرة على صاحبها، وهو ما يعرف بـ (وجوه الفيوم).
وتشتبك اشكاليات الجرافيتي مع ملكية المنشآت سواء خاصة أو عامة إذ يستبيح فنانو الجرافيتي الجدران بالرسم بهدف تحريضي يستفز النظم المستبدة، فيصبح بذلك مصيره المحو والإلغاء والتشويه والعبث به مهما كانت قيمته الجمالية.
من مصر إلى العالم العربي
كان Keizer هو الاسم المستعار لفنان جرافيتي مصري مجهول الهوية، ظهر كتوقيع علي جدران القاهرة مناهضا لسياسات الرئيس الأسبق مبارك، وظل منذ بداية الألفية يمهد للتغيير حتي أنه شارك في جداريات محمد محمود بعد أحداث محمد محمود 19 فبراير 2011. كما اشتهر بهجومه الساخر، من خلال جدارياته. بينما شكلت الفنانة المصرية «هبة أمين» مع فناني شارع آخرين، مجموعة باسم «فنانو الشوارع العرب» The Arabian street artists. لكن في صيف 2015 طلب منتجو مسلسل Homeland الشهير، الذي كان يتم تصويره في برلين، من المجموعة رسم جرافيتي على الجدران في موقع التصوير، على أنه مخيم للاجئين السوريين، فما كان من هبة أمين إلا أن اخترقت ورفاقها المسلسل من خلال الجرافيتي، واصفين المسلسل بالعنصري، وبالـ «بطيخ»، فيما كان من نصيب الفنان الشاب السعودي ضياء رامبو، الاعتقال في مكة بعد رسوماته علي الجدران والتي بدأها من مدينة جدة، و العديد من المدن وفي جولات عالمية، وبعد الاعتقال التزم بالتعليمات القانونية، مبتعدا عن المواضيع السياسية.
إحدى لوحات Keizer
وفي فلسطين يكرس الفنان الفلسطيني سامي الديك لوحات الجرافيتي التي يرسمها، في خدمة القضية الفلسطينية، حيث انطلق هذا الفنان الشاب ذو الستة والعشرين عاماً، من قرية كفر الديك، شمال الضفة الغربية، وبدأ بالرسم على حيطان القرية. ولم تمر سوى أعوام قليلة، حتى عرض العام الماضي 16 لوحة تحاكي القضية، ومعاناة المرأة الفلسطينية، في أحد معارض باريس الشهيرة. ثم لاحقاً رسم جدارية ضخمة في إحدى مدارس باريس، تحت عنوان جدارية السلام، ليكون الفنان الفلسطيني الأول الذي يرسم من وحي القضية الفلسطينية في باريس، وتحمل اللوحة العلمين الفرنسي والفلسطيني.
أما الفنان الفرنسي «السيد» من أصل تونسي، فقد قدم عملا فنيا على أكثر من خمسين بناية في منطقة (منشية ناصر) في القاهرة، وهي لوحة متكاملة تتضمن جملة واحدة هي: «إن أراد أحد أن يبصر نور الشمس فإن عليه أن يمسح عينيه». وتأثر به الكثير من فناني الجرافيتي العرب كونه أقدمهم في هذا المجال.
منطقة (منشية ناصر)
كما عرفت العاصمة اللبنانية بيروت التوأمين «عمر» و «محمد قباني» منذ عام 2001 عندما لونا جدرانها بصور الفنانين اللبنانيين كـ وديع الصافي، وصباح، وصورا القضايا الراهنة كـ الثورات ضد الطائفية والحرب مع اسرائيل، ورحيل الجيش السوري.
وعن حملات تمكين المرأة مع منظمات محلية أردنية غير حكومية،أومنظمات عالمية، رسمت الفنانة الأردنية «ليلي عجاوي» علي جدران (عمان) صورا للمرأة، لتصبح ابنة مدينة إربد الفنانة الوحيدة التي اقتحمت فنون الشارع في الأردن.
الفنانة الأردنية ليلي عجاوي