«أنا أفكر.. إذًا أنا موجود» هكذا عبر الفيلسوف الفرنسي الشهير «رينيه ديكارت» في القرن السابع عشر، عن معنى وجود الإنسان، ليأتي في القرن العشرين الكاتب الألماني «إيكهارت تول»، ويدعو الناس للتوقف عن التفكير الزائد، وذلك في كتابه «قوة الآن»، وهو الكتاب الأكثر مبيعًا على لائحة «نيويورك تايمز» والذي ترجم إلى أكثر من 50 لغة.
فكرة الكتاب بسيطة: عش اللحظة.. ولكن أن يتحول هذا الشعار إلى أسلوب حياة، فهنا يكمن التحدي الحقيقي، ورحلة التحول من الوجود بجسدك في مكان، وعقلك وروحك في مكان آخر، إلى الانغماس الكلي الآن في هذه اللحظة دون الاهتمام بما سواها.
أوهام الماضي والمستقبل
وفقًا للكاتب، يدور داخل كل منا حوار يومي داخلي، ما بينك وبين نفسك، وكأن هناك نسخة أخرى داخلنا، تخبرنا عادة بأشياء سلبية حول أنفسنا، وذكرياتنا، أوحتى ما يمكن أن يحدث مستقبلًا، غالبًا ما نستجيب لذلك الحوار باهتمام شديد، مضيعين اللحظة الحالية، لذا فيمكن أن يقود أحدهم سيارته في طريقه إلى العمل، ويكون حاضرًا بجسده على الطريق، ولكن عقله في مقر عمله بالفعل، يخبره عن كيف سيتأخر؟ وماذا سيكون رد فعل مديره؟ وكيف سيكون يومه ثقيلا جدًا اليوم؟
لذا أول خطوة في الاستمتاع بقوة الآن، هي إدراك أن الماضي قد فات، لم يعد له وجود سوى في العقل على هيئة ذكريات مخزنة، وبالتالي استدعاء تلك الذكريات باستمرار، أو ما دعاه «تول» قصة كل واحد منا التي نسردها على أنفسنا مرارًا وتكرارًا، لن يجلب إلا المزيد من الأسى والألم، كما أن توقع ما سيحدث مستقبلًا ليس له وجود واقعي سوى في رؤوسنا، أما الآن فهو ما يحدث فعلًا، وكأن الماضي والمستقبل أوهام نصنعها وننشغل بها طوال الوقت، تاركين حياتنا الحقيقية التي تحدث في هذه اللحظة.
صادق حاضرك
يعيش معظم الناس في عداء مع حاضرهم، لأنهم يرغبون في تخطيه للوصول إلى المحطة التالية، معتقدين أنهم سيجدون سعادتهم بامتلاك بيت الأحلام، أو الحصول على وظيفة أفضل، أوحتى العثور على شريك حياة مثالي، ومهما حقق الإنسان من طموحات لن يصل إلى السعادة المنتظرة غدًا، ولن يعود ليعيشها أمس، ولكن إذا أراد يمكن أن يعيشها الآن، من خلال اعتبار حاضرنا صديقا وليس عدوا نرغب في التخلص منه، متقبلين الواقع الحالي ، دون أحكام أوتوقعات.
هذه النعم.. ليست بديهية
يحفظ العقل معظم عاداتنا اليومية المكررة ويخزنها، وبالتالي لا نعد بحاجة إلى إدراك تلك الأنشطة بشكل واع، لأن العقل ينفذها تلقائيًا دون مجهود، لذا فمن التمرينات الجيدة لبدء العيش في اللحظة التي يقترحها «تول» هي عمل تلك الأنشطة الروتينية بوعي، فمثلًا تغسل يديك، وترتدي ملابسك، وحتى تتنفس مع التركيز على تلك الأنشطة، دون إلهاء نفسك بتفكير -عادة لا فائدة منه- عن الماضي والمستقبل، ومع الوقت سوف تزداد تلك المساحة تلقائيًا، وهو ما سيجعلك تشعر بالامتنان، لأنك تتنفس، وتتأمل السماء، وتسير على قدميك وتملك الكثير من النعم التي تعتبرها بديهية، إلا أنها ليست كذلك.
https://youtu.be/32DVozAsBiw?t=18
تقبل «واقعك»
ينقلنا «تول» إلى مستوى آخر بعد ذلك عن هوية كل منا، موضحًا أن الإنسان ليس سيارته أو شريكه أو حتى أفكاره، لأننا من نصنع ونحصل على كل ذلك، وإنما الإنسان هو ما عليه الآن، لا يهم ما سبق أو ما سيحدث، أنت هو أنت الآن، ولكن الأنا داخلنا تجعلنا نعتقد أن ما نملك أو ما حققنا أو فعلنا سابقًا هو ما يحدد جوهرنا كأشخاص، وهو ما يجعل الإنسان يسعى إلى تحقيق المزيد والمزيد دون شعور بالاكتمال.
تلك الأنا تجعل لدينا رغبة في ثلاثة أشياء رئيسية وهي: التميز، والشعور بأننا على حق، والدخول في صراع، ولكي يشعر الإنسان بتلك المشاعر يجب أن يكون هناك آخر، عدو يمكن أن يدخل معه في صراع، يمكن أن يثبت له أنه مخطىء، ويشعر من خلال كل ذلك بالتميز مقارنة بالآخرين، الكثير من ذلك يحدث لا شعوريًا، وهو ما يفسر افتعال الكثير من الأزواج لمشاكل دون أسباب بين الحين والآخر، أو شراءنا لأشياء مبالغ في ثمنها، أو حتى ظهور الجماعات المتطرفة، والدخول في الحروب.
وربما يكون لماضينا أهمية في حالة تعلقه بسياق حاضرنا، وبالتأكيد التخطيط للمستقبل أمر هام، ولكن يدعونا «تول» إلى إدراك أنفسنا بما هو أبعد من ذلك، وإيقاف تشغيل ماكينة التفكير التي لا تتوقف يوميًا، مع تجاوز الأنا ورؤية كل شيء فقط كما هو، بحجمه الحقيقي، دون تضخيم، أو إضفاء طابع درامي، أو إصدار أحكام، وبتلك الطريقة لن تكون هناك مشاكل أبدًا، لأن معظم مشاكلنا إما تركناها في الماضي، أو نتوقع حدوثها مستقبلًا، أما ما يحدث الآن فربما يكون تحديا مؤقتا، يمكن حله والتعامل معه طالما ركز الإنسان على ما يعيشه الآن، لذا ينادي الكاتب بالتسليم بمايحدث، وتقبل الواقع أيًا كان، والتوقف عن مقاومة الحاضر -أو بالأحرى الحياة ذاتها- لأن الحياة ببساطة تحدث الآن!