فن

ويلات الحرب وتجّارها.. في لقطة واحدة طويلة

«هل تعتقد أني أحتضر؟

– نعم… أعتقد ذلك..

-إذن تكلم معي… قل لي أنك ستكمل»

مقطع من حوار بين رفيقيْ حرب وفرقة عسكرية واحدة، من فيلم «1917» الذي أخرجه وشارك في كتابته، المخرج الإنجليزي، سام ميندس ، كما أنه صاحب الفكرة، المستوحاة من قصة حقيقية كان قد رواها له جده، الروائي الإنجليزي، ألفريد ميندس، المولود في عام 1897، والذي شهد وقائع الحرب العالمية الأولى.

سام  ميندس  من مواليد 1965، وهو مخرج معروف حاصل على جائزة «جولدن جلوب» لمرتين، الأولى عن فيلمه «الجمال الأمريكي»، والثانية عن فيلمه موضوع هذه السطور 1917. كما أنه مخرج مسرحي، أخرج عدة مسرحيات إنجليزية هامة، وقام البلاط الملكي في بريطانيا بتكريمه ومنحه لقب فارس لهذا العام، ولقب فارس وهو لقب عسكري ملكي يمنح للمبدعين والمتميزين في شتى مجالات الابداع والعطاء الانساني، لكنه منح  هذه المرة لمبدع سينمائي ومسرحي، يكره الحرب كما يبدو جليا في فيلمه الأخير.

المخرج سام ميدنيس مع بطلي الفيلم خلال التصوير

توم وويل

تدور قصة فيلم «1917» حول اثنين من جنود الجيش الإنجليزي إبان الحرب العالمية الأولى هما، توم وويل، يخدمان في الفرقة الثانية، ويتم تكليفهما بتوصيل رسالة للفرقة الثامنة بوقف الهجوم الذي تنوي الفرقة شنه على الألمان. كانت وسائل الاتصال في الحرب مقطوعة، وما بين الفرقتين الثانية والثامنة مسافات طويلة مليئة بالجثث والألغام والأخطار. فقرر رئيس الفرقة الثانية استدعاء توم، ربما لأنه الوحيد الذي سيتحمس لهذه المهمة الخطرة، إذ أن شقيقه جوزيف يخدم في الفرقة الثامنة، وبلغه طلب الاستدعاء مع أمر باصطحاب أحد رفقائه. وبشكل عشوائي، اختار توم رفيقه الذي يتمدد بجواره، وهو ويل.

يخبرهما قائد الفرقة بإن الألمان قد انسحبوا انسحابا تكتيكيا، وأنهم أعدوا كمينا للفرقة الثامنة، في انتظار هجومها كي يقضوا عليها تماما. في تلك الفرقة يخدم 1600 جندي، وعلى توم وويل خوض غمار الطريق للوصول للقائد ماكنزي وإثنائه عن الهجوم.

يوافق توم دون مناقشة ويصطحب معداته وخريطته ويتحرك، بينما يتبعه ويل وهو يقترح في تردد أن يتمهلا في المهمة، إلا أن توم يحسم الأمر، فهو لن يتخلى عن أخيه الأكبر.

يختار ميندس تقنية الـ«وان شوت» أو اللقطة الواحدة الطويلة، في تصوير الفيلم، متعمدا إرهاق العين في تتبع المشاهد. فنحن نركض مع الكاميرا خلف توم الذي يركض خلفه ويل، محاولا إقناعه بالتمهل، وما أن يحسما الأمر، حتى يقرر ويل أن يتقدم توم لأنه الأكبر سنا.

تسحبنا الكاميرا مع الجنديين لعبور الأرض اليباب ، وسط جثث وخراب أشبه بوصف شكسبير لويلات الحرب في مسرحية «ماكبث»، أو لعلامات الفأل السيء في مسرحية «يوليوس قيصر»، مع موسيقى تناسب الموقف، وكأننا في منطقة لا زمان لا مكان. يدخل الجنديان أحد الخنادق الألمانية للتأكد من خلوها، فيبدو الانبهار على الجنديين من دقة وتنظيم الجيش الألماني في تأسيس الخندق، ويقول توم ساخرا: «حتى جرذانهم أكبر من جرذاننا». يسقط أحد الجرذان على لغم فينهار سقف الخندق على ويل فينقذه توم من بين الحطام. يبدي «ويل» ندمه، ونرى أنه مازال يعاني من صراعه الداخلي ما بين خوفه من  المشاركة في هذه المهمة القاتلة، وبين عدم رغبته في التخلي عن صديقه.

في رحلتهما يصل الجنديان إلى مزرعة هُجرت لتوها، يتحدثان عن الكرز وأشجاره وأنواعه، ويروي توم لويل أنه هو وشقيقه كانا يجمعان الكرز من حديقة أمهما في نفس التوقيت من السنة. يجد ويل بقرة ترعى وبجوارها وعاء مملوء باللبن، فيملأ زمزميته بهذا اللبن، ثم يفاجأ كل من ويل وتوم بحرب في الجو بين طائرتين إنجليزيتين وطائرة ألمانية، تنهزم الطائرة الألمانية وتسقط بجوارهما، بشكل عفوي، يقرر الجنديان الإنجليزيان إنقاذ الطيار الألماني. يقترح ويل قتله لإنقاذه من عذابه، لكن توم يطلب منه أن يُحضر بعض الماء للطيار، إلا أن الطيار يقتل «توم»، فهذه هي الحرب: أنت لا تنقذ عدوك وهو في النزع الأخير. يقتص ويل لصديقه فورا ويقتل الطيار الألماني. ويعد «ويل» رفيقه «توم» الذي يحتضربأنه سيكمل الطريق وحده، وسيجد شقيقه، وسيكتب رسالة لأمه.

هنا، لم يعد لويل أي اختيار، لا يمكنه العودة، فيكمل طريقه منقذا امرأة فرنسية وطفلة من الجنود الألمان، ويعطيها الحليب الذي كان قد أخذه من المزرعة لتطعم الصغيرة. ويل لا يريد أن يَقتُل، بعد آخر جندي ألماني قتله، يحاول تجنب قتل الألمان، يفضل الهروب منهم بدلا من إطلاق النار عليهم. عزوفه عن القتل يعرضه للموت، لكن قافلة عسكرية إنجليزية تعثر عليه، يخبرهم بمهمته، فيأمره قائد القافلة بالركوب معه حتى يوصله لأقرب نقطة للفرقة الثامنة.

يصل ويل إلى أقرب نقطة، فينزل قائد القافلة ويطلب منه أن يتأكد من وجود شهود مع الجنرال ماكنزي أثناء إبلاغه بالرسالة. يندهش ويل: هذا أمر عسكري. فيرد قائد القافلة: هناك أناس يحبون القتال بدون سبب وجيه.

يحاول ويل عبور الجسر المكسور فيفاجأ بهجوم عليه لكنه يتمكن من قتل جندي ألماني آخر، بالرغم من محاولة تفادي ذلك. سقط في النهر في محاولة هروبه من الجنود الألمان، هو الآن مصاب، وجائع، ومنهك، حتى أنه نام في النهر وكاد أن يغرق. كان النهر يجرفه، وهو يكاد يفقد عزمه، حتى قابل زهور الكرز السابحة على سطح النهر، فتجدد عزمه، وسقط مع شلال النهر حتى وصل لمبتغاه.. إلى الفرقة الثامنة

https://youtu.be/A6dQzp6DnoA?t=12

وهم «الميداليات»

الدفعة الثانية من الفرقة الثامنة كانت تستعد للهجوم، كان أفرادها يجلسون بينما يرتل عليهم أحد الجنود ترنيمة من الإنجيل تتحدث عن نهر الأردن الذي كان  قد تعمد فيه المسيح. يخبرهم «ويل» بأنه جاء ليوقف الهجوم، فيخبرونه بأن الهجوم قد بدأ بدفعة أولى، وأن الدفعة الثانية تستعد، يسير في خندق طويل، يستوقف كل قائد ويسأله عن قائد الفرقة الجنرال ماكنزي لإيقاف الهجوم، أحد القادة يحاول تعطيله لأنه يريد الحرب، وقائد آخر يقف باكيا وهو يرى أن ما يقومون به مهمة انتحارية، بينما يستحثه الجنود على السير قدما للوصول إلى ماكنزي وإيقاف الهجوم.

يصل ويل إلى ماكنزي الذي يخبره بإنه قد جاء متأخرا، وأن الهجوم قد بدأ، يلح عليه «ويل» بإن يقرأ الرسالة، ويخبره بأن القوات الألمانية ستقوم بتصفية الفرقة. يقرأ ماكنزي الرسالة ويضطر إلى إيقاف الهجوم متضررا، ثم يطلب من «ويل» أن «يغرب عن وجهه».

يذهب ويل باحثا عن جوزيف شقيق رفيقه الراحل «توم»، فيخبره أحد مساعدي القائد، والذي يشعر حياله بالامتنان، بإن جوزيف كان في الدفعة الأولى، فإذا لم يجده في المصابين، فلن يجده أبدا.

تسحبنا الكاميرا مع ويل وسط ضحايا الحرب، ويعود بنا المخرج إلى العصور الأقدم، يستعير ميندس بوضوح  وصف ويليام بليك، أحد أشهر شعراء الإنجليز في القرن الثامن عشر، للجرحى والقتلى والمتألمين، حتى يصل «ويل» إلى جوزيف أخيرا، ويسلمه متعلقات شقيقه، ويطلب منه أن يكتب رسالة لوالدته.

يخرج ميندس مرة أخرى من الزمان ويسير ببطله ونسير معهما إلى ظل شجرة قديمة تشبه جسم المسيح مصلوبا. وكما بدا من السرد، فإن المخرج عمد إلى رسم لوحة تشكيلية، ألقى فيها بكل الظلال الثقافية والفنية في التراث الإنجليزي المسيحي، ليلفظ الحرب ويلوم مؤججيها والساعين والداعين والمتحمسين لها. تجار الحرب الذين يدفعون بالبشر إلى الموت سعيا خلف «الميداليات». هذه الميداليات التي حصل على إحداها «ويل»، لكنه قايضها بزجاجة نبيذ مع جندي فرنسي ليروي عطشه.

روى ذلك لصديقه توم، أبدى توم اندهاشه، وقال إن الناس يموتون من أجل هذه الميداليات، فقال له ويل: إنها مجرد قطعة معدن.

«قطعة معدن» أشار إليها صناع الفيلم في البداية، حين سخر أحد الجنود من توم وويل وهما يتوجهان إلى المهمة قائلا: «ستحصل على ميدالية أيها الجندي تسعد أرملتك».

وكما استعان بتراثه الأدبي الإنجليزي، استعان المخرج بتقنية توحي بأن الفيلم تم تصويره بلقطة واحدة، كي يضع المشاهد في محل المتتبع لهذه الرحلة المضنية، ولكي يتمكن من رسم صورة شاملة، بدون الدخول في التفاصيل، مما قد يظلم الممثلين، حيث أن اللقطات والكادرات لم تمنح الممثل فرصة لاستخدام أدواته. وبالرغم من ذلك، تمكّن المخرج من السيطرة على الممثلين، حتى لا ينزلقوا في أداء مسرحي رغبة منهم في إظهار مواهبهم.

فيلم 1917 ليس فيه بطل، بالرغم من وجود شخصيات رئيسية، إلا أن البطولة فيه كانت للمجاميع التي تخشى الموت ولا تجد له معنى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock