رؤى

المعرفة وطرائقها.. بين المتصوفة والفلاسفة

يصعب على الباحث في علوم التصوف أن يجد تعريفا جامعا مانعا لمفهوم «العرفان الصوفي» –وهي طريقة تحصيل المتصوفة لمعارفهم وأذواقهم- حتى في أشهر المؤلفات التي تخصصت في كشف اصطلاحات القوم كالكاشاني، وابن عربي وغيرهما.

والحق أن التعريفات الجامعة المانعة في لغة الصوفية أمر متعذر على وجه العموم، فالإصطلاح الذي يحمل معنى ما عند أحد المتصوفة، قد يشير إلى معنى مغاير تماما عند صوفي آخر. ربما لاختلاف التجارب وتمايز المشارب، وربما يكون أمرا متعمدا منهم، ليبقى اصطلاحهم حكرا عليهم لا يلج إليه إلا من أذنوا له، وبذلك يكونوا قد أعفوا أنفسهم من مغبة الاتهام.

والعرفان اصطلاح – وإن جرى استخدامه عند الكثيرين للتعبير عن درجة بعينها – من درجات الترقي الصوفي، إلا أنه مجرد وجه من أوجه جوهرة مضيئة ربما تحمل الوجوه الأخرى لها معاني أخرى كالذوق والكشف والمشاهدة والتجلي والفيض والمعرفة، وهو أحد مصادر الفعل (يعرف) (عرف- يعرف- معرفة، وعرفانا)، وعلى الرغم من اشتقاقه – كما أسلفنا – من ممارسة فعل المعرفة؛ إلا أن مفهومه الإجرائي أصبح يتخذ معنى مختلفا، ويتجلى هذا الاختلاف في وجهين.

 يتعلق وجه الاختلاف الأول بوسيلة تحصيل هذه المعرفة فبينما يقع الاتفاق على الحواس أو العقل كوسائل لتحصيل المعرفة؛ فإن المتصوفة لا يثقون في المعرفة التي قد تأتي بها الحواس أو العقل، لأنهما كثيرا ما أدى الوثوق بهما إلى معرفة خاطئة، ولأن المعرفة التي تتأتي إليهما سواء كانت عن طريق الحواس مباشرة أو ما تصل إلى العقل من خلال الحواس، فيبقى أن الحواس جوارح والجوارح محل عمل الشيطان، وإنما يعتمدون على الذوق ومحله القلب؛ وذلك يحدث بعدما تتم تجلية القلب من كدور النفس ورعوناتها، ويصبح مهيئا لتلقي الواردات الإلهية.

 أما وجه الاختلاف الثاني فيرجع إلى موضوع تلك المعرفة، فالمعرفة المستهدفة من وراء مكابدة التجربة الصوفية لا تدور حول موضوعات الواقع الحياتي، أو تفسير ظاهرة طبيعية من الظواهر، وإنما تستهدف لونا من المعرفة الغيبية تختلف بحسب درجة ترقي الولي، فقد تكون معرفة غيبية متعلقة بأسرار كونية أو التعرف على حقيقة النعوت الإلهية من أسماء وصفات من باب الفاعلية؛ وهي ماتسمى بالكشوف.

 وقد يكون العرفان من باب المشاهدة، والمشاهدة هي شهود الذات بارتفاع الحجاب مطلقا ومعها تكون درجة العرفان الكلية، وهي التي يعبر عنها بالفناء حينا وبالاتحاد حينا آخر، فالعرفان، والاتحاد، والفناء هي – كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي–  تعبيرات مختلفة لمعنى واحد، ولذلك يقول الكاشاني في تمييزه بين الكشف والمشاهدة «المشاهدة هي درجة ولاية الذات كما أن المكاشفة في ولاية النعت».

من ذاق عرف

يخطىء من يظن أن العرفان منهجا خاصا بصوفية المسلمين وحدهم، وإنما هو وسيلة متعارف عليها عند سائر التيارات الروحية في تاريخ الإنسانية لاسيما في الهند وفارس، وتبدو نتائجهم العرفانية متشابهة في كثير من الأحيان، وهذا هو السبب في محاولة رد كثير من الباحثين العرب والمستشرقين مصادر التصوف الإسلامي إلى التجارب الروحية لدى الحضارات القديمة، وقد يكون لهذا وجاهته إذا مالاحظنا أن التصوف الإسلامي بدأ من البلدان التي ارتبطت إما ثقافيا أو جغرافيا أو كانت طرفا من أطراف تلك الحضارات القديمة، كمصر وبلاد الشام اللتين عرفتا الفلسفة المثالية من خلال الأفلاطونية المحدثة، وحياة الرهبنة من خلال رهبان النصارى، والعراق التي خضعت للحضارة الفارسية قبل دخولها الإسلام أو دخول الإسلام إليها.

لكن وجهة النظر سالفة الذكر يعوزها أن ترى في نشأة التجربة الصوفية الإسلامية لاسيما مع مطلع القرن الثالث الهجري أنها كانت بمثابة ردة فعل تجاه التفسيرات الجامدة التي ألحقها الفقهاء والمحدثون بالدين الإسلامي والتي لم تكن تُرضي بحال من الأحوال أصحاب النزوعات الروحية، يفوتها كذلك أنه مع عدم إنكارنا لمسألة التأثير والتأثر- وهو أمر متعارف عليه حضاريا- تقدير وحدة التجربة الإنسانية وأن التقارب بين أصحاب النزعات الروحية لايعود فقط  إلى عامل التأثير وإنما إلى تشابة النفوس البشرية على اختلاف ثقافتها من ناحية، ووحدة الغاية التي تتجه إليها سائر هذه النفوس من ناحية أخرى، وهي (الله) ؟؟ أو المطلق بتعبير الفلاسفة.

لسنا هنا بصدد بيان مصادر التصوف الإسلامي، لكن ما أردنا أن نقوله هو أن الإسلام الذي قدمه هؤلاء الفقهاء أو المحدثون والقائم على فكرتي الخوف من النار أو الطمع في نعيم الجنة؛ أو الترغيب والترهيب- بتعبير بعضهم-  لم يكن ليروي ظمأ العديد من المتعطشين لمعرفة الحقيقة الكلية التي توجد خلف هذا كله، فلم يكن يرضي البعض أن يتحول الإسلام إلى مجموعة جامدة من القواعد والأشكال والأوضاع خاليا من الروحانية العميقة ومن العاطفة، لذلك يذكر ابن عبد البر في كتابه «مختصر جامع بيان العلم وفضله» أن ابن منبه أرسل إلى ابن مكحول المتوفي (132هـ) يقول له «إنك امرؤ قد أصبت فيما ظهر من علم الإسلام شرعا، فاطلب بما بطن من علم الإسلام عند الله محبة وزلفى».

 فعلوم الصوفية لم تتنكر لعلوم الشريعة، ولم تُعف أحدا منها بل جعلتها شرطا لخوض التجربة الصوفية، ومن أقوالهم «من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق» وإنما هي بمثابة الوجه الآخر لمطالب الشريعة التي أخذت في اعتبارها اختلاف الطاقات الإنسانية في التحقق بمعنى العبودية، فالعرفان كان بالنسبة لهؤلاء الوسيلة التي تجعلهم قريبين من الحقيقة التي ينشدون وجهها، ويُوقفون أنفسهم على مطالعتها.

العرفان والعقل المستقيل

«العقل المستقيل» هو المفهوم الذي أطلقه المفكر العربي الشهير محمد عابد الجابري ليربط بينه وبين منهج العرفان الصوفي الذي ألقى بالعقل المسلم في غياهب الغيب، وشطح به إلى ما تجاوز الواقع، وتجاوز إمكانات المعرفة الإنسانية،  ويعني الجابري بالعقل مجموعة القواعد المنظمة للنشاط الذهني المستخلصة من ثقافة خاصة.

يذهب الجابري إلى أن منظومة العقل العربي قد تكونت في عصر التدوين في نهاية الدولة الأموية، وهو يقسم علوم الثقافة الإسلامية إلى ثلاثة أقسام هي «النظام البياني»، «والنظام العرفاني»، «والنظام البرهاني»، وتنتمي مجموعة علوم الفقه والنحو والصرف والكلام والبلاغة إلى القسم الأول، أما النظام البرهاني فينتظم المنطق والرياضيات والطبيعيات والميتافيزيفا، في حين ينتظم  النظام العرفاني علوم التصوف والفلسفات الإشراقية والتفسير الباطني للقرآن، وهي علوم لم تنشأ –في نظر الجابري- وفقا لمتطلبات الثقافة الإسلامية كبقية العلوم وإنما هي علوم موروثة عن الثقافات والفلسفات القديمة مثل الثقافة الفارسية والأفلاطونية المحدثة في الاسكندرية لذلك يصفها «باللامعقول العقلي»، ويذهب الجابري إلى أنه في سياقات تاريخية وصراعات مذهبية معينة حدث نوع من المصالحة بين البيان العربي والعرفان الصوفي.

ولايرى الجابري أن المتصوفة هم المسئولون الوحيدون عن تكريس العقل العرفاني وإحداث تلك الردة الغيبية في العقل الإسلامي، وإنما يتهم في ذلك صراحة ابن سينا، ويعتبره المسئول الأول عن المزاوجة بين الدين والفلسفة، وهو ما رفضه ابن رشد كليا ودعى إلى ضرورة الفصل التام بين كلاهما، ويعتبر الجابري أن تبني الغرب لمذهب ابن رشد الذي زاوج بين المنهجين البرهاني والبياني هو ما أدى إلى تقدمه، في حين تبنى الشرق  للفلسفة السيناوية- نسبة إلى ابن سينا-  التي زاوجت بين الدين والفلسفة هو ما أدى إلى تراجع العقلية العربية.

غير أن الجابري لا يجعل من رؤية «ابن سينا» رؤية فلسفية خاصة به؛ وأنما يعتبرها تعبيرا عن وعي قومي مهزوم لابن سينا الفارسي الأصل، وأن هدف ابن سينا كان  إنشاء فلسفة مشرقية ذات خصوصية قومية فارسية، وأن هذا العقل العرفاني أو المستقيل- بتعبير الجابري- تغذى على ثلاثة تيارات رئيسية هي المانوية التي تجمع بين الزرادشتية والمسيحية والبوذية، والهرمسية نسبة إلى هرمس الحكيم وهي في الأساس نزعة صوفية إشراقية، ثم الأفلاطونية المحدثة التي كان من روافدها الأساسيين للثقافة الإسلامية ذو النون المصري وتلميذه الكيميائي جابر ابن حيان، وإن كان هناك من يرجح أن يكون جابر ابن حيان قد أخذ ذلك عن استاذه «الإمام جعفر الصادق» قبل تعرفه على ذى النون المصري.

ويظل العرفان في نظر العديد من المشاريع الثقافية الحداثية مظهرا من مظاهر الردة العقلية، ونمطا من أنماط التفكير الغيبي يمكنك ان تكتشف ذلك في كتابات سائر المفكرين الحداثيين مثل جماعة العقلانيين العرب وأركون والجابري و حسن حنفي وحتى دعاة الوضعية المنطقية مثل الدكتور زكي نجيب محمود، والملاحظ أنهم جميعا ينطلقون في نقدهم من نفس النقاط المركزية،  مثل نفي أي مصدر إسلامي لهذا المنطق العرفاني فهو عند جلهم فلسفات وافدة من الحضارات القديمة للشعوب التي دخلت في الإسلام  إما عن طريق الحركات الشعوبية (الأقليات التي دخلت الإسلام من الحضارات السابقة كالفرس والروم)، أو عن طريق اليهود والمسيحيين.

وحتى إذا كان لها عند أحدهم مصدر يمت  للبيئة للإسلامية بصلة فهو لن يعدو كونه مصدرا تاريخيا راجعا للظروف السياسية والمجتمعية في فترة ما من التاريخ الإسلامي مثل اللجوء للعزلة والتصوف والعرفان كرد فعل لحياة البذخ والترف التي عاشها الحكام المسلمون من الأمويين والعباسيين على التوالي، ولن يكون حديثنا هنا دفاعا عن المصدر الإسلامي للتصوف ، أو اكتشاف مقدمات منطق المعرفة الذوقية في النصوص الدينية، لأن الدراسات قد فاضت في بيان هذه الأصول للتصوف الإسلامي من المصدرين الأساسيين للدين الإسلامي  (القرآن و السنة)، وإنما نحيلهم إلى نموذج بسيط من المعرفة الذوقية ومن الأنا المتحدثة من مواطن مغايرة والتي لم نعهدها إلا في أحاديث المتصوفة ومواجيدهم، وهو نموذج «خطبة البيان» للإمام علي ابن ابي طالب التي أوردها «عبد الرحمن بدوي» بنصها الكامل في كتابه «الإنسان الكامل» ولينظر هؤلاء على أي نحو يستطيعون تفسير تلك النصوص العجيبة الناشئة قبل الافتتان ببذخ الأمويين والعباسيين، أو ما إذا كان “الإمام” علي قد أخذ بشكل أو بآخر عن  المدارس الفلسفية القديمة.

بين عرفان الصوفية وإشراق الفلاسفة

للمنهج العرفاني الذوقي وجوده عند العديد من فلاسفة الإسلام الأوائل ويأتي على رأس هؤلاء الفارابي وابن سينا، غير أن التدقيق في منهج العرفان الذي يعتمد عليه هؤلاء الفلاسفة يكشف عن اختلاف قائم  بينه وبين نظيره الصوفي. فحين يحدثنا الفارابي عن كيفية الاعتماد على المنهج العرفاني يتعرض لبيان كيفية إطلاق القوة المتخيلة كوسيلة لتحصيل المعرفة الإشراقية، وهي قوة ثانوية بالنسبة للعقل، لا تدرك المعقولات المفارقة بذاتها وإنما تدركها بمحاكياتها من صور المحسوسات التي تحفظها لديها، ويضطر الفارابي في تصويره لعملية انتقال المعارف من موطنها إلى الذات المتلقية إلى نظرية ملفقة يستفيد فيها إلى حد كبير بنظريات الفيض والعقول العشرة لأفلوطين، بالإضافة إلى أنه لم يستطع الوصول إلى علاقة مباشرة بين الذات العارفة وموضوعها على نحو ما نجد لدى المتصوفة.

أما الاتجاه الصوفي عند ابن سينا فيمكننا أن نلاحظه في الأنماط الثلاثة الأخيرة من كتابه «الإشارات والتنبيهات»، ويبدو أن هذا الكتاب جزء من الحكمة المشرقية التي أراد أن يقابل بها الفلسفة المشائية التي سبق أن قدمها للعامة في كتاب «الشفاء»، كذلك يمكن مطالعة هذه التجربة الذوقية عنده في رسالته عن «سلامان وإيسال» فالحقيقة وفقا للقصة هي الزهرة الجميلة التي شغفت سلامان وأنسته حب إيسال.

ورغم أن ابن سينا المتهم الرئيسي في نظر الجابري –كما أسلفنا- في الإنحراف بمسار العقل الإسلامي من المنهج البياني البرهاني إلى المنهج البياني العرفاني، فإننا إذا نظرنا إلى أن التجربة الصوفية باعتبارها تجربة ذاتية في التطهير النفسي والترقي الأخلاقي، ينتج عنها في بعض مراحلها ألوان من الكشف والمشاهدات تعذر علينا بأية حال من الأحوال أن ننسب ابن سينا إلى التصوف وهو نفسه ما ذهب إليه «شهاب الدين السهروردي» في رفضه أحاديث ابن سينا في العلوم الذوقية والعرفانية لأن سيرته الشخصية لم تكن تؤهله للحديث في المسائل الروحية.

 والحق أن تعرض كل من الفارابي وابن سينا للمعرفة الإشراقية يبدو نوعا من الترف العقلي، كأنما عز عليهما ألا يدليا بدلوهما في هذه المسائل الذوقية والمعارف الإشراقية التي لا تخلو من متعة إستشراف للغيب ومطالعة المفارق وإدراك الحقيقة الكلية؛ وإن لم يقم عليها ما يبررها تبريرا عقليا، أو ربما رغبة منهما في إكمال أنساقهما الفلسفية، لذلك نجدهما يدرسان التصوف دراسة فنية، خاصة ابن سينا الذي تناول المعرفة الإشراقية والتصوف وكأنه فصل من فصول الفلسفة التي يشرحها شرحا موضوعيا.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock