ثقافة

خارطة طريق لإصلاح ما أفسده الانفتاح الاقتصادي والتشدد الديني

ماذا فعلت التيارات الدينية المتشددة وأصحاب رأس المال من تغيرات في المجتمع المصري على مدى أكثر من نصف قرن؟ وهل يمكن أن نحقق حياة كريمة ومجتمعا عادلا من خلال إصلاحات اقتصادية وسياسية و اجتماعية فحسب؟ أم أن الإصلاح الثقافي والديني يشكلان عنصرين محوريين لنهوض المجتمع ؟

هذه الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها، شكلت المحاور الرئيسية لمضمون دراستين هامتين، صدرتا ضمن تقرير الحالة المصرية 2019، الصادر عن منتدى السياسات العامة بمؤسسة أخبار اليوم.

 ويقدم هذا التقرير- الذي عقدت ندوة لمناقشته ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الحالية بحضور عدد كبير من الباحثين والمفكرين والمثقفين، رؤي متنوعة لخبراء ومتخصصين وكتاب في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في مصر على مدى عام كامل.

وسنركز في السطور القادمة على دراستين ضمن التقرير تتناولان المتغيرات الثقافية والاقتصادية التي شهدها المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة، وكانت لها انعكاساتها العميقة على منظومة القيم في هذا المجتمع، في محاولة لتقديم رؤي وحلول للخروج بخريطة طريق من أجل مجتمع العدالة والتسامح، وسبل مواجهة التطرف والتعصب.  

تغير القيم الثقافية في مصر

الدراسة الأولى أعدها الدكتور أحمد زايد أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة القاهرة وجاءت تحت عنوان «تغير القيم الثقافية»، وتحاول تسليط الضوء على العوامل التي أدت إلى تغير القيم الثقافية في المجتمع المصري، وتحديدا منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، مع التحول إلى اقتصاد السوق، ثم اتساع رقعة الاقتصاد غير الرسمي، بل ترك على مصراعيه عبر ما سُمى حينها ب«سياسة الانفتاح الاقتصادي»، وترافق ذلك مع الزيادة السكانية الهائلة التي نقلت سكان مصر من نحو 36 مليون نسمة عام 1976 إلى أكثر من 100 مليون نسمة حاليا.

د. أحمد زايد

ولم تتوازن هذه الزيادة السكانية مع النمو الاقتصادي أو زيادة الانتاج المحلى الإجمالي، ما أدى إلى امتصاص مستمر لعوائد التنمية، وتدهور الخصائص الاجتماعية للسكان، وهو ما تجلى – كما يشير أحمد زايد – في زيادة معدلات الأمية، ونقص جودة التعليم، وانخفاض مستوى الخدمة الصحية ونوعيه الحياة، وكثافة الهجرة إلى الخارج، خاصة الهجرة إلى مجتمعات الخليج لأفراد من أبناء الطبقة الوسطى من أصحاب المهن المتخصصة، وقطاعات من الشرائح العاملة في مختلف المجالات، وكذلك الهجرة غير المنظمة إلى مجتمعات عربية ظلت مفتوحة للهجرة دون تأشيرة كالعراق وليبيا «استوعبت هذه الهجرة قطاعات عريضة من الفلاحيين وأبنائهم من المتعطلين عن العمل»، فضلا عن تزايد معدلات الهجرة غير المشروعة إلى أوروبا.

يقول الدكتور أحمد زايد في دراسته إن هذه التغيرات السابقة أدت بدورها إلى تغييرات اجتماعية مهمة، تمثلت في التغيرات التي طرأت على التركيب الطبقي للمصريين، خاصة تركيبة الطبقة الوسطى، حيث أصاب هذه الطبقة قدر كبير من التفكك الداخلي، فلم تعد طبقة متجانسة.

وقد أدت النزعة الرأسمالية غير المنضبطة، التي دخلت فيها مصر منذ منتصف السبعينيات، إلى ظهور ضروب من المغامرة والرغبة في الثراء السريع، الأمر الذي دفع بفئة من الطبقة الوسطى إلى أعلى لتشكل شريحة متميزة داخلها.

 ومن ناحية أخرى، أدى انسحاب الدولة من تقديم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، والضغوط الناشئة عن قوة السوق إلى أن تنحدر جماعات كثيرة من أبناء الطبقة الوسطى الدنيا، إلى اسفل، لتصبح بأحوال أقرب إلى الطبقة الدنيا رغم  انتمائها الرسمي إلى الطبقة الوسطى.

أما المتغير الثاني المهم الذي ترتب على التحولات الاقتصادية التي شهدتها مصر خلال تلك الفترة، والذي يرصده الدكتور أحمد زايد في دراسته، فقد تمثل في تصاعد ميول وأفكار ارتبطت بنزعات دينية، ويمكن التمييز هنا – كما يقول زايد –  بين خمس نزعات دينية وهي: النزعة الأولى: ارتبطت بالتنظيم السياسي للإخوان المسلمين، الذي استعاد قوته بعد تولى الرئيس أنور السادات الحكم في مصر، وبعد أن منحه خلفه حسني مبارك فسحة من ممارسة سياسية أوسع. أما النزعة الثانية فارتبطت بالتيار السلفي الذي تمدد ليحتل مساحات من المجتمع عبر تقديم خدمات عجزت الدولة عن تقديمها.

والنزعة الثالثة: ارتبطت بانتشار الممارسات الدينية الشكلية التي انعكست في مظاهر جسدية ومبالغات طقسية، في حين تجلت النزعة الرابعة في أنماط من التدين الحداثي الذي انتشر بين قطاعات من الشباب بتأثير من نمط جديد من الدعاة «كان عمرو خالد على رأسهم». أما النزعة الخامسة فارتبطت بالتنظيمات السرية لجماعات الجهاد على اختلاف مساراتها وأهدافها، والتي اتخذت منحى متطرفا، وانخرطت في صور من العنف الإرهابي والتمدد الإقليمي والدولي.

وقد ساعد تعدد هذه النزاعات في دخول الدين إلى حلبة الصراع السياسي، بل وانتقال هذا الصراع إلى الحقل الديني نفسه. وقد حدثت تلك التغيرات في خضم تطورات إقليمية وعالمية، منها سقوط الاتحاد السوفيتي، ودخول العالم عصر العولمة.

مظاهر الخلل

ويحدد الدكتور أحمد زايد في دراسته سبعة مظاهر للخطر الذي يواجه المجتمع المصري حاليا والذي يرى ضرورة النظر اليها والتعامل معها بعمق:

1- ضعف الاهتمام بالشأن العام.

2- نمو الفردية.

3- هدرالقيم العمومية، والمقصود بها، القيم النابعة من مبدأ المساواة العامة في الحقوق والواجبات، والتي يتعين بناء عليها منح الفرص في ضوء الكفاءة وتطبيق معايير عامة على الجميع في التعاملات العامة.

4- التباعد الاجتماعي، والذي يأخذ صورا متعددة ،منها التباعد الطبقي الناتج عن زيادة معدلا الفقر، والتباعد النفسي المتمثل في صور عديدة منها الاغتراب والانفصال، والتباعد المكاني مثل انتقال أبناء الطبقة الوسطى للعيش في مناطق غير التي اعتادوا عليها، وهذا يؤدى إلى ظهور أفكار جامدة، وتزايد عديمي الأخلاق والفاسدين.

5- انتشار الميول المتطرفة، والمبالغة في التفسيرات الدينية، والتقوقع خلف كهنوت الدين.

6- رفض الأخر وهذا الأخر يمكن تصنيفه على أسس الدين أو الطبقة أو الجغرافيا.

7- ضعف الثقة العامة في كل ما هو رسمي أو حكومي.

ويرى أحمد زايد أن خطة أو خريطة التغيير لمواجهة هذه المخاطر والتحديات، يجب أن تكون عامة وشاملة، و أن تشمل تحديث الأطر الثقافية الحاكمة للفعل والتفاعل، وإحداث ثورة فكرية لبناء عقل وروح جديدين، والتأكيد على قيم ومبادئ العدل والحرية والمساواة والشفافية واحترام القانون وحقوق المواطنين، وهناك جهات عليها دور أساسي في تحقيق ذلك، مثل الأسرة والمؤسسات التعليمية والسياسية والدينية.

ويتطلب تنفيذ هذه الخريطة العمل على قضية مركزية لها تأثير واضح على القيم الثقافية في المجتمع، وهو ما وصفه الدكتور زايد بالنزعات الدينية في المجتمع المصري، وطرح سؤال أساسي حول تجديد الخطاب الديني.

 تجديد الخطاب الديني

وعن سؤال تجديد الخطاب الديني في مصر، تركزت الدراسة التي أعدها الدكتور سعيد المصري أستاذ علم الاجتماع بكلية الأداب جامعة القاهرة بعنوان «تجديد العقلية الدينية»، والتي ركز فيها على قضية محورية تتعلق بأن يكون الدين جزءا لا يتجزأ من حياة إنسانية صانعة للتقدم نحو المستقبل، والأمر الذي يتطلب إعادة النظر في بنية الفكر الديني، وإدخال عناصر جديدة على الخطاب الديني.

د. سعيد المصري

وقد أشارت الدراسة إلى الخطابات الدينية المتعددة، واختلاف الجماعات والمؤسسات التي تنتجها، واختلاف درجة انتشارها وتأثيرها في المجتمع. إذ تتنوع هذه الخطابات ما بين الدعوى – الإصلاحي – الجهادى- والوسطى، وهذا الخطاب الأخير تتبناه الدولة، لكنه غير واضح المعالم – كما يرى سعيد المصري -، ويتغير من فترة زمنية إلى اخرى.

 كما تنحصر كل دعاوى تجديد الخطاب الديني في فريقين أساسيين: الأول يدور حول التجديد الجذري للمضمون الفقهي للخطاب الديني من خلال فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ويدعو إليه بعض المفكرين العلمانيين من خارج المؤسسات الدينية وتيارات الإسلام السياسي. أما الفريق الثاني فهو فريق محافظ يرفض التجديد ويضم بعض المشتغلين بالشأن الديني داخل المؤسسات الدينية الرسمية، وهناك خلاف بين الفريقين تصل إلى العداء.

ويشير سعيد المصري في دراسته إلى أن بين هذين الفريقين هناك طريق أو فريق ثالث يدعو إلى أهمية صياغة الفكر الديني، وطرح أفكار جديدة للعلاقة بين الدين والمجتمع، بما يحقق ثلاثة اعتبارات أساسية: الأول هو التجاوب مع التحديات الاجتماعية الجديدة، والثاني التفاعل الإيجابي مع إمكانيات العصر الحديث، والثالث هو الإسهام في تحقيق السعادة الإنسانية.

ويرتكز هذا الطريق على حرية العقل في التفسير، والتعددية الفكرية في قراءة النصوص الدينية، والاهتمام بالاحتياجات والمشكلات الإنسانية المشتركة، ويقتضي ذلك بطبيعة الحال مد جسور التوافق بين المشتغلين بالعلوم الدينية والمشتغلين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، فضلا عن عادة صياغة الفكر الديني استنادا إلى منظومة متكاملة من القيم الانسانية العامة، كالحرية والتعددية التسامح مقابل قيم التشدد والتعصب والتطرف، إلى جانب قيم السعادة والعدل، حيث يساهم التفكير القائم على التحرر في تمكين البشر من الحياة الكريمة.                                      

منى عزت

باحثة مهتمة بقضايا العمل والمرأة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock