غريبة هي مصائر البشر وخطوط أعمارهم.. تجود علينا الحياة بأناس يمرون كالشهب الثاقبة، يضيئون ويكشفون، وبآخرين كالزهور، يسعدون الناس بعبيرهم وحسن بهائهم. وربما يمر في حياتنا نجوم، يضيئون لفترة من الزمن، ويبقى ضوؤهم، حتى بعد رحيلهم. وقد تكون لينا بن مهنّي، أيقونة الثورة التونسية، والناشطة والأكاديمية، التي رحلت عنا فجأة، من هذا النوع الأخير،. فهي ذلك النجم الذي مازال يضيء رغم رحيله المادي عن العالم.
حزنت حزنا شديدا على فقدنا المادي لتلك الفتاة الشجاعة، والأستاذة الأكاديمية، والروح الرحيمة الحنونة، صاحبة مدونة «بنيّة تونسية»،. فقد كانت واحدة من أهم صانعات التاريخ العربي الحديث، بالرغم من حداثة سنها، ورقة مظهرها الذي يخفي قوة فولاذية. وينبع حزني من خسارتي لفرصة لقاء، كانت محتملة معها، طالما أنها مازالت موجودة في عالمنا. لكنني أعزي نفسي بفرصة لقاء آخر، في عالم آخر، أقل ظلما ومرارة، أتبادل فيه مع لينا حوارات ونقاشات، كنت أدخرها في انتظار أن ألقاها يوما.
لينا بن مهنّي
زهرة جميلة
في جنازة مهيبة، شارك فيها الآف التونسيين، حملت نساء تونسيات نعش الزهرة الجميلة، مشيعين الجسد الضعيف الذي أنهكه المرض، ومودعين الروح القوية التي تحررت من ضعف الجسد على أمل لقاء ثان.
ولدت لينا بن مهنّي في يوم ميلاد والدي الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، 22 مايو، إلا أن عقودا كثيرة تفصل بين ميلاده وميلادها، فهي من مواليد العام 1983، لأب مناضل، وهو الصادق بن مهنّي، الذي دفع ثمن كلمته وشجاعته في سجون الحبيب بورقيبة في فترة السبعينيات، وهو أحد الذين أسسوا فرعا لمنظمة العفو الدولية في العاصمة تونس، كما كان عضوا بارزا في تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي بتونس. وهو مترجم حائز على جائزة الصادق مازيغ في الترجمة، لترجمته كتاب «تاريخ تونس: أهم التواريخ والأحداث من عصور ما قبل التاريخ حتى الثورة» الصادر عام 2015. كان لوالد لينا أفكاره، وكانت لها أفكارها التي لم يحجر عليها، ربما اختلفا في التفاصيل اختلافا طبيعيا بين الأجيال، لكنهما التقيا في النزاهة والأمانة والصدق والثورية والشجاعة.
لينا بن مهنّي، ووالدها الصادق بن مهنّيى
أما والدتها، فهي السيدة آمنة، مدرسة المرحلة الثانوية، و والتي كانت أثناء دراستها الجامعية، أحدى المناضلات في الحركة الطلابية بتونس.
درست لينا بن مهنّي الأدب الإنجليزي وتخصصت فيه، وعملت كمحاضرة جامعية في اللغة الإنجليزية، إلى جانب نشاطها السياسي والرياضي. إلا أن المرض هاجم هذا الجسد الناحل، فتبرعت لها والدتها بكليتها في عام 2007. كانت لينا تحّول كل ما هو شخصي إلى العام، كل تجربة شخصية تمر بها، تحاول أن تستشعر من خلالها آلام الآخرين، الأفقر، والأتعس، والأقل حظا.
تبرعت لها والدتها بكليتها، لكن ماذا عن الفقراء الذين يعانون من نفس المرض ولا يجدون متبرعا أو لا يملكون المال الكافي لإجراء العملية؟
https://www.facebook.com/leena.benmhenni/posts/2790387727687085
تجربة المرض والانحياز للفقراء
من خلال تجربتها الشخصية مع المرض، نظرت لينا للعالم، باحثة عن الأقل حظا منها لتدعمهم، فكانت من أهم المناديات بأهمية زراعة الأعضاء وحق المرضى في العلاج المجاني. وفي عام 2008 شاركت لينا في المارثون العالمي للمنتفعين بزرع الأعضاء، وحصلت على الميدالية الفضية، كما شاركت في المارثون العالمي للمنتفعين بزرع الأعضاء في أستراليا عام 2010 وحصلت على الميدالية الذهبية.
لم ترد لينا أن تستمتع وحدها بمزايا حرية التحرك والمساواة والاحترام التي حظيت بها في بيت يحترم المرأة ويقدرها ويضعها على قدم المساواة مع الرجل. فكانت دوما تفكر في أولئك النساء اللاتي حُرمن مما تمتعت به هي، وكانت من أشد المدافعين عن حقوق المعنفات وحقوق الإنسان بشكل عام.
صنعت لينا، بوجودها وتجربتها، ردا مفحما على هولاء السفهاء الذين يتنمرون على كل امرأة تطالب بالحد الأدنى من المعاملة الإنسانية للنساء، متهمين إياها بأنها قد تكون معقدة من الرجال لأنها كانت تلقى معاملة قاسية أو عنيفة في بيت أهلها.. تفسير سهل ومريح لضمائر الذين يتعجبون من شعور المرأة بإنسانيتها، رغم أن تعرض المرأة للعنف والقهر لا يعيبها. كما أن تجربة لينا الشخصية، في الدفاع عن حقوق النساء المعنفات، هي إثبات يدحض هذا التفسير أو التعميم.
أيقونة الثورة
كونها أكاديمية، لم يدفعها للجلوس مكانها والتنظير للثورة، بل كانت هي الثورة. فالرغم من مرضها، وضعف بنيتها، كانت لينا بن مهنّي تذهب بنفسها إلى التظاهرات والاعتصامات، وتواجه الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن، وتصورها وتنقلها للعالم، معرضة نفسها وحياتها للخطر.
كانت توثق كل شيء على مدونتها «بنيّة تونسية»، التي كانت تكتب فيها بثلاثة لغات (العربية، والفرنسية، والإنجليزية)، إلى جانب إرسالها للتسجيلات المصورة والصور للمواقع الإخبارية، حيث كان يكتب تحت الصورة: تصوير لينا بن مهنّي – مشاع إبداعي.
في عام 2011، رُشحت لينا بن مهنّي لنيل جائزة نوبل للسلام، وبالطبع كانت هناك أصوات معترضة ومهاجمة، ربما لأنها امرأة، وربما لمجرد الغيرة، وفي أحيان كثيرة تحت ذريعة اتهامات باطلة، معتادة ومكررة وممجوجة، بوقوف جهات خارجية خلف ترشيحها. إلا أن الأمر برمته لم يكن يعني بالنسبة للينا مثقال جناح بعوضة، ولم تفز، ولم تهتم. انشغلت بقضايا المعذبين في الأرض، فلم ينصب اهتمامها على ضحايا انتهاك حقوق الإنسان في تونس فقط، إذ سخّرت كل جهدها ووقتها لمساندة كل إنسان في أي بقعة من العالم يتعرض للانتهاك.
https://www.facebook.com/leena.benmhenni/posts/1763296443729557
كافحت لينا، وعرّضت حياتها وحريتها للخطر، من أجل انتصار الثورة التونسية، ونالت مبتغاها. فالثورة التونسية، هي الوحيدة من بين ثورات الربيع العربي التي يمكن أن توصف بالنجاح. فهل آن لهذا الجسد المنهك أن يستريح؟ أما آن للينا أن تهتم بصحتها، وتعيش شبابها الذي أمضته في خدمة الآخرين؟، أما آن لها أن تبذل جهدا مماثلا في بناء مستقبلها المهني الواعد؟.. لا.. لم تفعل أيا من ذلك.. لم تهدأ، ولم تسترح، ولم تستمتع. فحتى انقضاء اللحظات الأخيرة في حياتها، وهي على سرير المستشفى تكافح المرض، كانت تكافح معه أولئك الذين يريدون أن يتجاوزوا حق الشهداء والمصابين. في آخر تدويناتها على مدونة «بنية تونسية»، وبعد شكر الأصدقاء على سؤالهم عن صحتها، تذكّر لينا الجميع بالذين يريدون سرقة أهداف الثورة، تؤذن في الناس بالمبادئ التي قامت من أجلها انتفاضة الياسمين.
لآخر لحظة على حسابها على موقع «تويتر» كانت تتحدث عن حقوق المهمشين والمهضومين في العالم، وعن «أولاد الأفاعي المتلونين»، حتى وافتها المنية، واستراح القلب المتعب.
وداعا يا جميلة الجميلات.. عسى أن تلتقي الأرواح.