«استمرت المواصلات معطلة داخل المدينة وخارجها، على أنه قد سُيّر بعض قطارات الترام في شبرا وشارع بولاق، وفي الطريق المؤدية إلى ميدان الألعاب بالجزيرة. كان الجنود الإنجليز يحرسون هذه القطارات في سيرها، بيد أن الجمهور أعرض في الجملة عن ركوبها من تلقاء نفسه، مدفوعًا إلى هذا الامتناع بفطرته، إذ كان يعُدُّ مقاطعتها عملا وطنيا»… كان ذلك مشهدا من مشاهد ثورة 1919 التي وثقها المؤرخ عبد الرحمن الرافعي حول إضراب عمال الترام بالقاهرة خلال شهر مارس 1919.
في دراسته «الطبقة العاملة وثورة 1919» ضمن عدد من الدراسات التي احتواها كتاب «القارعة .. دراسات مختارة في ثورة 1919» الصادر مؤخرا عن دار «المرايا»، يرصد المؤرخ العمالي الراحل أمين عز الدين معالم الدور الذي لعبته الطبقة العاملة المصرية خلال هذه الثورة.
المؤرخ الراحل أمين عز الدين
مظاهرات العاطلين ومواكب الجوع
يشير أمين عز الدين في بداية دراسته إلى أن سنوات الحرب العالمية الأولى كانت تعد بمثابة سنوات مريرة على مجمل أبناء الطبقة العاملة المصرية، حيث شهدت تلك السنوات صدور قانون منع التجمهر (18 أكتوبر 1914)، الذي أعتبر تجمع كل خمسة أشخاص بأي طريق أو محل عام تجمهُرًا، كما تضمن عقوبة مشددة تصل إلى السجن سنتين لمن يقاوم رجال السلطة عند تفريق ما تعتبره تجمهُرًا، وتلا ذلك إعلان الأحكام العرفية ووضع الرقابة على الصحف في (2 نوفمبر 1914)، ثم إعلان الحماية البريطانية على البلاد في (18 ديسمبر 1914).
وقد عانت الطبقة العاملة المصرية الأمرين -وفقا لوصف عز الدين- طوال سنوات الحرب العالمية الأولى جراء إرتفاع أسعار الحاجيات والسلع الضرورية، كما لجأ أصحاب الأعمال، وخاصة المهن والصناعات التي تأثرت بالحرب، إلى تخفيض الأجور وتوفير العمالة، وهو ما جعل القاهرة والأسكندرية تشهد ربما للمرة الأولى في التاريخ الحديث، ما عُرِفَ «بمظاهرات العاطلين ومواكب الجوع»، التي تطورت في بعض الأحيان حتى بلغت حالة من التجمهر العنيف ومحاولات النهب والاتلاف.
من جانب أخر تعرض العمال والفلاحون المصريون لأبشع عملية إستغلال وتعسف على يد سلطات الإحتلال، وذلك عبر حشدهم الإجباري فيما عُرِفَ «بفرقة العمل المصرية» التي استخدمت في الأعمال المعاونة وراء خطوط القتال في سيناء وفلسطين والعراق وفرنسا وبلجيكا، ويؤكد أمين عز الدين أن نحو مليون عامل وفلاح مصري قد جُمعوا قسرًا تحت ظروف بالغة القسوة والإهانة، وصل بهم إلى حد «السُخرة».
العمال والتمهيد للثورة
شهدت الفترة الممتدة من أغسطس 1917 حتى انطلاق شرارة ثورة مارس 1919 سلسلة من الإضرابات العمالية في القاهرة والإسكندرية، بين عمال السجائر والترام والسكك الحديدية، وعمال الموانىء والمحلات التجارية وشركة مياه القاهرة. وقد فاقت تلك الإضرابات -وفقا لأمين عز الدين- حدود الإضراب المحلي، وصولا إلى آفاق الإضراب العام، وانتهت في أغلب الأحوال بتحقيق بعض المطالب العمالية المباشرة الخاصة بزيادة الأجور وخفض ساعات العمل.
أما الحدث العمالي الأبرز الذي جاء مبشرا بميلاد الثورة، فقد تمثل فيما قام به قادة نقابة «الصنائع اليدوية بالإسكندرية» حين أخذوا على عاتقهم مهمة صياغة المطالب الأساسية الشاملة للطبقة العاملة المصرية، فيما عُرِفَ بوثيقة «مشروع قانون لحماية العمال» والذي تم نشره في (2 مارس 1919) قبيل إندلاع الإنفجار الثوري الكبير الذي حدث في يوم (9 مارس 1919).
يعلق عز الدين على تلك الوثيقة بالقول انها لم تكن مشروع قانون -كما يوحي عنوانها- بل كانت عريضة تضم مجمل ما توصلت إليه الطبقة العمالية من مطالب آنذاك، وقد تمثلت تلك المطالب في توفير الخدمات الطبية والعلاج والتعويض عن إصابات العمل، وتحسين الأجور مع ضرورة ربط الأجور بتكاليف المعيشة، والمطالبة بمكافأة نهاية الخدمة وتحديد ساعات العمل وتنظيم الجزاءات والحد من سلطة الفصل، كما طالبت بالإعتراف بالوجود النقابي والاعتراف بالمفاوضة الجماعية والتحكيم في منازعات العمل وتنظيم حق الإضراب، إلى جانب المساواة فيما بين العمال المصريين وغيرهم من العمال الأجانب فيما يخص الأجر.
ينتقد المؤرخ العمالي أمين عز الدين النشأة الأولى للوفد التي جاءت في (نوفمبر 1918) مشيرا إلى أنه وبرغم دعوى الوفد بكونه ممثلا للأمة، إلا أنه قد جاء خاليا تماما من أي ممثلين للطبقة العاملة أو الفلاحين، إلا أن أحداث الثورة التي تفجرت في شهر مارس 1919 قد جذبت العمال والفلاحين بطبيعة الحال.
ويستعرض عز الدين مشاركة العمال بثورة 1919 مشيرا إلى أنها جاءت في شكلين، تمثل الشكل الأول في المشاركة الفردية في إطار المسيرات التي نظمها الطلبة والمثقفون، وكانت بيانات سلطة الإحتلال البريطاني تصفهم ب «الرعاع أو الغوغاء»، تمييزًا لهم عن الطلبة والمثقفين.
أما الشكل الثاني فقد تمثل في المشاركة الجماعية للعمال مستخدمين سلاح الإضراب والمسيرات الجماعية، حيث أعلن عمال الترام وسائقو سيارات الأجرة الإضراب العام في القاهرة في يوم (11 مارس 1919)، وقد تعاون الجمهور مع العمال في إنجاح هذا الإضراب العام، حين حاولت شركة الترام بمساعدة السلطات البريطانية تشغيل الترام، حيث أمتنع الجمهور بشكل تام عن إستخدام الترام. وقد تلا إضراب عمال الترام، إضراب عمال السكك الحديدية الذين كان يقدر عددهم بنحو أربعة آلاف عامل. واتسع نطاق الإضراب حين أعلن عمال مطبعة السكك الحديدية في (17 مارس 1919) التوقف عن العمل ضمن الإضراب العام الذي قرره عمال المطابع بذلك اليوم، وانضم إليهم عمال سكك حديد حلوان. وفي اليوم التالي (18 مارس) نظم العمال مسيرة كبرى طافت بعدد من أحياء القاهرة، وقد أعترضتها القوات البريطانية وفتحت النيران على المتظاهرين فسقط منهم الكثير من القتلى والجرحى.
انتقلت أخبار إضراب العمال من القاهرة إلى الأسكندرية، فخرج العمال بمظاهرة ضخمة في (16 مارس) معلنين التوقف عن العمل، وقد شارك بهذا الإضراب عمال السكك الحديدية بقباري إلى جانب عمال الميناء والفنارات وورش البوستة الخديوية وورش الحكومة، وقد أنتهت تلك المظاهرة بسلام. إلا أن مظاهرات اليوم التالي شهدت صداما عنيفا من قبل القوات البريطانية، ما أسفر عن مقتل عشرة من عمال الميناء واعتقال الكثيرين من زملائهم، وقد انضم في الأيام التالية للإضراب عمال الترام وعمال مصلحة الجمارك.
يجمل أمين عز الدين مشاركة العمال في أحداث الثورة في إيقاف مرفق النقل العام في مصر بكافة وسائله، وهو ما مثل التحدي الأكبر الذي واجهته سلطة الإحتلال البريطاني خلال ثورة 1919، حيث تم القطع التام لسير القطارات بين القاهرة وأسوان، وبطء سيرها بين القاهرة والإسكندرية، إلى جانب التوقف التام لنقل البضائع والبريد. بإختصار شكلت المشاركة الجماعية للعمال في أحداث الثورة، إضافة هامة للعمل الثوري الجماهيري الذي دفع المصريون ثمنه نحو ثلاثة آلاف شهيد وفقا للمصادر المصرية، كان أغلبهم من العمال والفلاحين.
وإزاء العمل الثوري الجماهيري الممتد بربوع مصر، حاول القصر الملكي وسلطة الاحتلال التهدئة، فأصدر السلطان فؤاد منشورا في (6 أبريل 1919) طالب فيه الشعب المصري بالتوقف عن المشاركة في التظاهرات، كما أعلن اللورد أللنبي في اليوم التالي (7 أبريل) الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه، ففعل هذا الإعلان فعل السحر في الجماهير وغرقت البلاد بمظاهرات الفرح والإبتهاج، وقد وصف عبد الرحمن الرافعي ذلك المشهد قائلا: «قدرت الأمة بحق أن الإفراج عن سعد وصحبه هو نصر سياسي نالته في ميدان الكفاح القومي، لأن السلطة التي اعتقلت سعدا هى ذات السلطة التي اضطرت إلى الإفراج عنه، تسكينا للثورة أو ترضية لها أو مهادنة لها».