رؤى

الشيخ حسن العطّار.. رائد التجديد الذي ظلمته شهرة تلاميذه

عندما احتل الفرنسيون مصرعام 1798 ميلادية، كان الشيخ حسن العطّار في الثانية والثلاثين من عمره، وعندما وصل نابليون بونابرت الى الأسكندرية كتب خطابا موجها لأهل مصر وطبعه وأرسل ﻣﻨﻪ ﻧﺴﺨا إلى اﻟﺒﻼد اﻟﺘﻲ ﻳﻘﺪﻣﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻄﻤﻴﻨا لهم. لكن الشيخ العطار لم يصدق ما جاء بخطاب نابليون، من ادعائه بأنه جاء إلى مصر لتخليصها من حكم «المماليك المجلوبين ﻣﻦ ﺑﻼد اﻷﺑﺎز واﻟﺠﺮاﻛﺴﺔ» وذلك حسب ما جاء بالخطاب الذي كتبه بونابرت.

الشيخ حسن العطّار

بونابارتة المسلم الموحد بالله!

وقد نشر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، في كتابه الأشهر «ﻋﺠﺎﻳﺐ اﻵﺛﺎر في التراجم والأخبار»، هذا المرسوم أو الخطاب الذي جاء به: «ﺑﺴﻢ ﷲ اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﺮﺣﻴﻢ، ﻻ إﻟﻪ إﻻ ﷲ، ﻻ وﻟﺪ ﻟﻪ وﻻ شريك ﻟﻪ في ﻣﻠﻜﻪ، ﻣﻦ ﻃﺮف اﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﺔ المبني على أﺳﺎس اﻟﺤﺮﻳﺔ واﻟﺘﺴﻮﻳﺔ (المساواة)، السر ﻋﺴﻜﺮ الكبير أمير اﻟﺠﻴﻮش اﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﺔ ﺑﻮﻧﺎﺑﺎرﺗﻪ……. ﻳﺎ أﻳﻬﺎ المصريون ﻗﺪ ﻗﻴﻞ ﻟﻜﻢ إﻧﻨﻲ ﻣﺎ ﻧﺰﻟﺖ ﺑﻬﺬا اﻟﻄﺮف إﻻ ﺑﻘﺼﺪ إزاﻟﺔ دﻳﻨﻜﻢ، ﻓﺬﻟﻚ ﻛﺬب صريح ﻓﻼ ﺗﺼﺪﻗﻮه، وﻗﻮﻟﻮا للمفترين إﻧﻨﻲ ﻣﺎ ﻗﺪﻣﺖ إﻟﻴﻜﻢ إﻻ ﻷﺧﻠﺺ ﺣﻘﻜﻢ ﻣﻦ ﻳﺪ اﻟﻈﺎلمين، وإﻧﻨﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ المماليك أﻋﺒﺪ ﷲ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وتعالى، واحترم ﻧﺒﻴﻪ واﻟﻘﺮآن اﻟﻌﻈﻴﻢ………… أﻳﻬﺎ المشايخ واﻟﻘﻀﺎة والأئمة وأﻋﻴﺎن اﻟﺒﻠﺪ، ﻗﻮﻟﻮا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضا ﻣﺴﻠﻤﻮن ﻣﺨﻠﺼﻮن، وإﺛﺒﺎت ذﻟﻚ أﻧﻬﻢ ﻗﺪ ﻧﺰﻟﻮا في روﻣﻴﺔ الكبرى وﺧﺮﺑﻮا ﻓﻴﻬﺎ كرسي اﻟﺒﺎﺑﺎ……… ﻃﻮﺑﻰ لأهل مصر اللذين ﻳﻘﻌﺪون في ﻣﺴﺎﻛﻨﻬﻢ غير مايلين ﻷﺣﺪ ﻣﻦ الفريقين المتحاربين، ﻓﺈذا ﻋﺮﻓﻮﻧﺎ بالأكثر ﺗﺴﺎرﻋﻮا إﻟﻴﻨﺎ ﺑﻜﻞ ﻗﻠﺐ، ﻟﻜﻦ اﻟﻮﻳﻞ ﺛﻢ اﻟﻮﻳﻞ ﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﻌﺘﻤﺪون على المماليك في ﻣﺤﺎرﺑﺘﻨﺎ، ﻓﻼ ﻳﺠﺪون ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ طريقا إلى اﻟﺨﻼص، وﻻ ﻳﺒﻘﻰ ﻣﻨﻬﻢ أﺛﺮ».

 هكذا أنهى نابليون خطابه بالتلويح بالعصا، بعد أن إستخدم الجزرة في بداية الخطاب. وقد فهم الشيخ العطار ما جاء بخطاب نابليون من تهديد واضح لمن لا يذعن للفرنسيين، فشدّ الرحال إلى أسيوط  بصعيد مصر ،بعيدا عن القاهرة، بحثا عن الأمان وتجنبا للمخاطر المتوقعة التي يحملها معه الغازي القادم من وراء البحار.وكان هذا شأن الكثير من العلماء والمشايخ في ذلك الحين.

مكث الشيخ العطار في الصعيد ما يقارب الثمانية عشر شهرا، ثم عاد إلى القاهرة بعد أن هدأت العاصفة، واشتغل بالتدريس في الأزهر الشريف.وكان نابليون قد اصطحب خلال حملته على مصر بعض علماء الطب والهندسة والفلك والرياضيات ومختلف العلوم الحديثة، فتعرّف عليهم الشيخ العطار، واطلع على كتبهم وتجاربهم وما معهم من آلات علمية وفلكية وهندسية، فأفاد منهم واطلع على أحدث ما وصلت إليه العلوم المدنية من تقدم في شتى مناحي العلم. كما أجاد من خلال مخالطته لهم اللغة الفرنسية إجادة شبه تامة، وفي الوقت ذاته كان يدرس اللغة العربية لمن يرغب من هؤلاء العلماء.

نقطة التحول

قاوم المصريون الحملة الفرنسية، وقاموا بثورتين كبيرتين ضدها خلال أقل من ثلاث سنوات (ثورتا القاهرة الأولى والثانية)، وكان الأزهر بمشايخه بؤرة هاتين الثورتين، وخلال أحداث تلك الفترة التي امتدت من 1800 حتى 1801، اﻛﺘﺸﻒ المصريون ﻣﻌﻨﻰ التضحية من اجل اﻟﺤﺮﻳﺔ.

وفي ﺷﻬﺮ أﻛﺘﻮﺑﺮ ﻣﻦ ﻋﺎم 1801م ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ مصر ﺣﻤﻠﺔ ﻧﺎﺑﻠﻴﻮن ﺑﻮﻧﺎﺑﺮت، أول ﺣﻤﻠﺔ اﺳﺘﻌﻤﺎرﻳﺔ على الشرق تُرغَم على الانسحاب مهزومة، حاملة معها جثة «كليبر» خليفة نابليون في صندوق من الرصاص، وأخذت الحملة أيضا  معها كتاب «وصف مصر» اﻟﺬي وﺿﻌﻪ ﻋﻠﻤﺎؤﻫﺎ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺳﻠﻤﺖ للإنجليز «ﺣﺠﺮ رﺷﻴﺪ» اﻟﺬي ﺳﻴﺆدي ﻓﻚ ﻃﻼﺳﻤﻪ ﺑﻌﺪ ﺳﻨﻮات الى إزاﻟﺔ ﺳﺘﺎر اﻟﻐﻤﻮض واﻟﺠﻬﻞ ﻋﻦ أﻋﻈﻢ وأﻋﺮق ﺣﻀﺎرات الإنسان اﻟﻘﺪﻳﻢ.. ﻟﻜﻦ هذه اﻟﺤﻤﻠﺔ ﺗﺮﻛﺖ وراءﻫﺎ روح المقاومة اﻟﺘﻲ أﺛﺎرﺗﻬﺎ، واﻟﺜﻘﺔ في اﻟﻨﻔﺲ، واﻛﺘﺸﺎف اﻟﺬات، ﺑﻌﺪ ﻗﺮون من الاستسلام واﻟﺨﻨﻮع واﻟﻀﻴﺎع، كما تركت الحملة وراءها أيضا عددا ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل اﻟﺬﻳﻦ ﺻﺪﻣﻬﻢ اﻟﺘﻔﻮق اﻟﺤﻀﺎري، اﻟﺬي كانت تمثله، ﻓﺄﻳﻘﻆ اﻟﺘﺤﺪي ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ.

 وبعد خروج الحملة الفرنسية، قاد هؤلاء الرجال، الذين شكلت روح المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي وعيهم، حملة العصيان في وجه الباب العالي في اسطنبول، حتى وصلوا إلى اختيار الوالي الذي يريدونه، وفرضوه على السلطان العثماني فرضا، ما اضطره إلى ارسال مرسوم بتولية محمد علي باشا واليا على مصر. وبانتصارهم في اختيار الوالي الذي يحكم البلاد، عرف هؤلاء الرجال أيضا ﻣﻌﻨﻰ أن ﺗﺤﻜﻢ الأمة ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ، مهما اختلفنا اليوم حول صحة اختيارهم لمحمد علي باشا من عدمه والنتائج المترتبة على هذا الاختيار، فقد كان على أية حال اختيارهم الحر.

شهرة تلاميذه التي ظلمته

كما اكتشف ﺑﻌﺾ هؤلاء الرجال ﻗﻴﻤﺔ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﺤﻀﺎرة، وﻛﺎن بين هؤلاء الشيخ حسن العطار، فمن أقواله: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها»، ومن أقواله أيضا: «مَن سَمَتْ هِمته به إلى الإطلاع على غرائب المؤلفات، وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثير من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم».

وقد طبّق الشيخ العطار  هذه الأقوال تطبيقا علميا، فدرَّس وألَّف في فنون شتى لم تكن مطروقة في عهده، ثم وجَّه تلاميذه إلى التجديد فيما يعالجونه من أبحاث ودراسات. ومن بين تلاميذه المعروفين: رفاعة الطهطاوي الذي يعد أحد رواد النهضة الحديثة في مصر، والشيخ حسن قويدر، والشيخ محمد عياد الطنطاوي، والشاعر الشيخ محمد شهاب الدين ،الذي كان مساعدا له في تحرير الوقائع المصرية وخلفه في إدارتها.

رفاعة الطهطاوي

كما نجح  العطار في إدخال الدراسات الأدبية بالأزهر على يدي تلميذه محمد عياد الطنطاوي، الذي كان مولعا بعلوم اللغة وآدابها، فبدأ يعطي دروسا في الشرح والتعليق على كتب الشعر والأدب، وبسبب هذا العشق صار لا يضاهيه أحد في هذا المضمار، وبسبب هذا العشق أيضا اتهم بترويج البدع، إذ انصرف إلى الأدب بدلاً من الانصراف إلى مباحث الفقه والحديث، حتى تمنى البعض موته حين أصيب بالطاعون سنة 1836م، لكنه لم يمت بالطاعون، بل عاش حتى عام 1861، حيث وافته المنية ودفن بمقابر المسلمين في ضاحية «فولكوفو» بالقرب من «سانت بطرسبرج»، بروسيا، حيث كان يقوم بإلقاء محاضرات في كلية اللغات الشرقية بجامعة سانت بطرسبرج، وظل يعمل في التدريس بها لمدة  خمسة عشر عاما لم يغادر فيها روسيا منذ قدومه إليها عام 1840 إلا مرة واحدة عام 1844، زار خلالها القاهرة وطنطا واهتم بجمع المخطوطات الشرقية. ويعد قبر الشيخ الطنطاوي من الآثار التاريخية والثقافية في روسيا.

كما أن الشيخ العطّار هو من أشار على محمد علي باشا بإرسال تلميذه النجيب رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا، وهو الذي وجهه وأرشده إلى استيعاب ما يمكن استيعابه من آثار الحضارة الفرنسية، وأشار عليه بتدوين كل ما يشاهده أو يعرفه أو يسمع عنه. فكانت نتيجة التوجيهات والنصائح أن ألَّف الطهطاوي كتابه العظيم «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، والذي يقول في مقدمته: «إن ﺧير الأمور اﻟﻌﻠﻢ، وأﻧﻪ أﻫﻢ ﱡﻛﻞ ﻣﻬﻢ……… ﻓﻠﻤﺎ رﺳﻢ اﺳﻤﻲ في ﺟﻤﻠﺔ المسافرين (كإمام للطلبة المبعوثين إلى باريس)، وﻋﺰﻣﺖ على اﻟﺘﻮﺟﻪ، أﺷﺎر علي ﺷﻴﺨﻨﺎ اﻟﻌﻄﺎر. أن أﻧﺒﻪ على ﻣﺎ ﻳﻘﻊ في ﻫﺬه اﻟﺴﻔﺮة، وعلى ﻣﺎ أراه وﻣﺎ أﺻﺎدﻓﻪ ﻣﻦ الأمور اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ، والأشياء اﻟﻌﺠﻴﺒﺔ، وان اقيده ليكون نافعا في ﻛﺸﻒ اﻟﻘﻨﺎع ﻋﻦ ﻣﺤﻴّﺎ ﻫﺬه اﻟﺒﻘﺎع».

ولهذا لم ينل الشيخ حسن العطّار من الباحثين الدراسة الواجبة التي يستحقها، ويرى بعضهم أن شهرة تلاميذه كانت سببا في ذلك، حيث انصب الاهتمام عليهم، فحُجب نوره.

العلوم البرانية، والعلوم الشرعية

كان الشيخ حسن العطار، أحد أهم من أدركوا أهمية الجانب الحضاري والتحدي الكامن في هذا الجانب، فوجه تلاميذه الى دراسة ما كان يسمي وقتئذ بالعلوم «البرانية» أي العلوم المدنية بلغة العصر، تمييزا لها عن العلوم «الشرعية»، التي كانت تعد العلوم المعترف بها فقط داخل الأزهر الشريف.

فللعطار كتاب في الصيدلة ردا على تذكرة «داود الإنطاكي»، وقد ألّف رسائل في الطب والتشريح، ولا يزال هذا الكتاب مخطوطاً في مكتبة «رواق المغاربة» في الجامع الأزهر. كما كتب أيضا في الهندسة وكيفية عمل الإسطرلاب، وإتقان رسم المزاول الليلية والنهارية بيديه، إلى جانب مؤلفاته في العلوم الرياضية والفلكية، وفي العلوم الشرعية والعربية، كما كان العطار شاعراً كتب في كل أغراض الشعر حتى الغزل، وكتب الشعر التعليمي والموشحات، وكان محققاً للمخطوطات، وله كتب ورسائل في قواعد الإعراب والنحو والمنطق والاستعارة وآداب البحث.

في عام 1830م أصبح الشيخ العطّار شيخاً للأزهر الشريف، وهو في الخامسة والستين من عمره، وظل كذلك حتى وفاته يوم 22  مارس سنة 1835، ورغم أنه لم يوفق في إصلاح الأزهر وبرامجه وخطط الدراسة فيه كما كان يريد، ولعله لم يشأ إثارة سخط العلماء، لكنه نجح في الدعوة إلى إصلاح التعليم بالبلاد كلها. فالمدارس العالية الفنية التي أنشئت بمصر في ذلك العهد، كالهندسة والطب والصيدلة، كانت الاستجابة الحقيقية لدعوة العطار وتطلعاته ومناداته بحتمية تغيير الأحوال في البلاد.

ومن القصص المروية عنه: أنه عندما كان الطبيب «كلوت بك» يقوم بتشريح جثة في مشرحة مدرسة الطب بأبي زعبل، حاول أحد الطلاب الفتك بالطبيب، فكاد أن يطعنه بخنجره، لكن الطلاب منعوا الطالب عن فعل ذلك وحموا «كلوت بك»، فلما سمع شيخ الأزهر «حسن العطار» بهذه الحادثة، ذهب الى مدرسة الطب ووقف يخطب في الطلاب عن رأي الدين في تعلم الطب، ويشيد بفائدته في تقدم الإنسانية، فاعتبرت هذه الفتوى نقطة انطلاق للتعليم الطبي في مصر.

المصادر:

رﻓﺎﻋﺔ راﻓﻊ اﻟﻄﻬﻄﺎوي: المفكر والمعلم… مجلة الآداب اللبنانية العدد السابع 1977، السنة 25.

الخطط التوفيقية لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة: تأليف علي باشا مبارك، دار الكتب والوثائق القومية، مركز تحقيق التراث، الطبعة الثانية 2003م.

الموقع الاليكتروني لدار الإفتاء المصرية، الرئيسية، تراجم وسير: الإمام حسن العطار.

ويكيبيديا الموسوعة الحرة: حسن العطار.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker