صدر باللغة الفرنسية قبل أيام عن دار Seuil وبالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس، الكتاب الأول من سلسلة «أرابوراما» التي تتمحور حول عالمنا العربي ماضياً وحاضراً، وتبحث في ثقافاته المتعددة، سياساته، وفي مجالات الإبداع المختلفة فيه، فاتحةً المجال أمام الاحتمالات التي قد تواجهنا في المستقبل القريب.
أسهم في الكتاب الأول وعنوانه «العالم العربي ـ هل ما زال موجوداً؟» مؤرخون وكتّاب وصحفيون وفنانون ومثقّفون عرب وأجانب، قدّموا أعمالهم وفق ثلاثة محاور رئيسية شكّلت العمود الفقري لمحتواه من الأبحاث والدراسات والحوارات. يخوض المحور الأول منها في قصص التعددية العربية ضمن اشكالها السياسية والدبلوماسية، ويبحث الثاني في أساليب حياة الإنسان العربي ودياناته ولهجاته المتنوعة، بينما يسلّط المحور الثالث الضوء على مفهوم المساحات والحدود للعالم العربي.
لا يتبع الكتاب أسلوباً محدداً في الكتابة والتحليل، إنه بانوراما شاملة تضيء على قطع الفسيفساء المكوّنة للنسيج العربي ـ بغض النظر عما إذا كان مازال كياناً واحداً موجوداً بحد ذاته ـ وتحاول قراءة تمظهراتها في الشارع سياسياً وحقوقياً وأدبياً وفنياً واجتماعياً. فمثلما تتقدّم بعض موضوعاته بدراسات لعدد من القضايا الفكرية والسياسية، تستقرئ أخرى من «أرابوراما» قضايا اجتماعية تشكّل الوعي الجمعي لمعظم شرائح المجتمع.
وقد أشارت الباحثة ليلى دخلي المتخصصة في التاريخ الفكري والاجتماعي المعاصر للعالم العربي، في مقدمتها للكتاب حول ما يريد هذا المشروع قوله، أنه يبدو من الصعب اليوم أن نقول عن شخص ما «عربي» كصفة مشتقة من تصنيف شعب واحد متجانس. اليوم هناك عوالم عربية يمكننا فصلها وتوصيف كل واحد منها على حده. لكن العالم العربي، في صيغة المفرد، ليس أكثر من خيال نستحضره أثناء حنيننا إلى الماضي.
وأكّدت: «أراد الباحثون في هذا الكتاب أن يستكشفوا جميع لتحولات التي طرأت على العربي بما فيها الهويات المتغيرة، وذلك من زوايا مختلفة ومن خلال وأشكال وكتابات مختلفة. وبالتالي فإن العمل الناتج هو لوحة وفيرة ملونة، لا تقدّم إجابات نهائية إنما معالم مهمة للمستقبل».
وحدة عربية جديدة
بالعموم يبحث الجزء الأول من الموسوعة في فعلية وجود هذا الكيان الممتد من المحيط إلى الخليج باختلاف لهجاته حتى يكاد أهل مشرقه لا يفهمون أهل مغربه، بتصدعاته السياسية الفظيعة، انقساماته الفكرية والعقائدية وبتشطياته الإنسانية.
لكن في الحقيقة، فإن الكثير من مؤلفيه استوقفتهم الثورات العربية التي بدأت من تونس في العام 2011 بما أفرزته من أمل كبير وملموس على أرض الواقع بوجود عالم عربي واحد، على الأقل من ناحية الشعور والانتماء بين أبنائه. ففي بحثه «ثورات عربية أم ثورة عربية؟» يسأل كريستوفر عياد الكاتب والصحفي في لوموند: «هل كان هناك في عام 2011 ثورة عربية واحدة أو أكثر؟ ربيع واحد أو أكثر؟» ويقارب بين هذه الأحداث الأخيرة التي اجتاحت البلدان العربية وبين الربيع الأوروبي أو ربيع الأمم في العام 1848.
ويجيب بنفسه على سؤاله: «هل خلقت عروبة جديدة في العام 2011؟»، قائلاً: «ربما نعم.. لكنها عكس تلك التي خلقت في زمن جمال عبد الناصر، فالوحدة هذه المرة ليست من الأعلى، إنما من الشعوب أنفسهم الذين اتحدوا في مطالبهم بالعدالة والديمقراطية».
ثم يفسّر أنه وبسبب وسائل الإعلام، دخلت الثورة إلى كل بيت في الوطن العربي، حيث تشرّبها الأفراد عن قناعة تامة. لكن على سبيل المثال لا يعني هذا أن الاحتجاجات والتظاهرات قد بدأت في سوريا كتقليد لمصر وتونس، ففي الحقيقة بدأت الثورة السورية لأن السوريين كانت لديهم دوافعم الحقيقية للقيام بها. ومنه، يمكننا تلخيص مطالب المتظاهرين في ثلاثة نقاط رئيسية: العيش بشكل أفضل، حرية أكبر، كرامة أكثر. نعم لقد طالبت جميع هذه الثورات بمزيد من العدالة الاجتماعية وبزيادة الحريات السياسية واحترام المواطنين من قبل الدول وأجهزتها القمعية.
أيضاً أفرزت الثورات العربية تغيراً في التوزّع البشري العربي ليس داخل البلاد العربية وحدها، وإنما خارجها. الأمر الذي أدّى إلى أزمات سياسية وإنسانية كبرى. وكمحاولة لفهم هذه التغيرات أشاركل من كريستوفر عياد وفيكتور سلامة أستاذ العلوم السياسية الناطقة بالفرنسية في جامعة القاهرة في بحثهما «محمد صلاح ورامي مالك.. مصيران عربيان خارج الأسوار»، أشار إلى أن الهجرات العربية التي بدأت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث هاجر عدد كبير من العرب إلى دول الشتات الغربية، قد أثّرت على طبيعة المجتمع العربي وتركيبته السكانية. ومع ظهور طفرة النفط في دول الخليج العربي الفتية، بدأت الهجرات نحوها من كافة الدول العربية، وهو ما أسهم في زيادة تغيير ملامح العالم العربي.
وتبقى الكارثة الكبرى اضطرار حوالي 6 ملايين سوري إلى مغادرة بلادهم نتيجة الحرب وقمع نظام بشار الأسد لهم، إذ استوعبت كل من لبنان وتركيا والأردن هؤلاء المهاجرين. لكن ومنذ العام 2015 وبسبب فقدان الأمل بالعودة القريبة إلى البلاد، وخطورة أوضاعهم في الدول الثلاث المضيفة، لجأ عدد كبير منهم باتجاه أوروبا وتحديداً نحو السويد وألمانيا. وقد تسبب هذا التدفق المفاجئ بأزمة سياسية في أوروبا أدّت إلى ظهور الأحزاب الشعبية واليمنية المتطرفة.
«وجود هذا العالم العربي (خارج الجدران) ليس له تأثير على بلدان الوصول فحسب، بل له تأثير فظيع ومتزايد على هوية العالم العربي ومستقبله».
قضايا إشكالية في «أرابوراما»
من جهة أخرى، يتطرّق الكتاب إلى قضايا ذات حساسية عالية في عالمنا العربي، تدور حول الدين، حرية اعتناقه، ومدى انتشاره وسيطرته على كافة نواحي الحياة حتى السياسية منها. وقد ناقشت جاكلين شابي المؤرخة المتخصصة في تاريخ العالم الإسلامي في بحثها «من العروبة إلى الإسلام» أنه ليس بالضرورة أن يكون كل عربي مسلماً. في حين خاض الكاتب والصحفي الجزائري كمال داود ضمن دراسته «هل هناك علمانية عربية؟» في مسألة الإلحاد التي لا يمكن احترامها كحرية شخصية في الوطن العربي، ما يعني أن العربي الملحد يكاد لا يمارس حريته الفكرية والدينية إلا داخل حدود منزله لا أكثر.
وأكّد Vincent Geisser الباحث في المركز الوطني للبحوث العلمية في معهد البحوث والدراسات في العالمين العربي والإسلامي ـ مرسيليا، أنه وبسبب ثقل التراث الإسلامي والتقاليد الإسلامية، يُنظر إلى المجتمعات العربية على أنها معادية تماماً لمبدأ العلمانية. إنها رؤية منتشرة على نطاق واسع بين المثقفين والسياسيين وأيضاً بين المواطنين العاديين في فرنسا والبلدان الغربية التي تعتبر أن العلمانية لا يمكن ان تزدهر حقاً إلا في البلدان التي تستطيع الفصل بين الدين والسياسة، وبالتالي فإن المجتمعات العربية ليست منها. وبالمقابل فإن هذا المفهوم الثقافي يأخذه أيضاً المفكرون والدعاة المسلمون الأصوليون الذين يرون العلمانية على أنها نتاج تاريخٍ غربي ومسيحي، ما يؤكّد لهم كونها غريبة تماماً عن الإسلام.
وقال: «لكن الحقائق التاريخية تثبت لنا أن العالم العربي قد تحدّث في وقتٍ مبكر جداً عن العلمانية دون أن تأتي بالضرورة من الفكر الاستعماري أو بأوامر غربية. فمنذ القرن التاسع عشر فكّر المثقفون العرب بالعلمانية وتساءلوا كيف يمكن تطبيقها ضمن السياقات الاجتماعية الثقافية التي يغلب عليها العرب المسلمون، وكيف يمكن أن تترجم كلمة «العلمانية» إلى اللغة العربية دون أن تتسبب بالمزيد من الشرور في المجتمعات العربية المعاصرة».
أدب وفنون
اختار المؤرخ والمترجم فاروق مردم بك ثمانية قصائد لثمان شعراء تميّز بها وبهم تاريخ الشعر العربي المعاصر، واستعرضها ضمن الكتاب لتعكس تحولات الإنسان والمكان في العالم العربي من خلال اللغة، حيث انتقاها بعناية وهو على يقين بأنها تلامس ذاكرة العرب وتعزف على أوتار أوجاعهم وآلامهم.
وحدها القصائد في الكتاب كانت مكتوبة باللغة العربية إلى جانب الفرنسية، بعد أن تمت ترجمتها من قبل عدد من المترجمين، وهي بالترتيب: «العودة لجيكور» لبدر شاكر السياب، «تحولات العاشق» لأدونيس، «السكون» لسعدي يوسف، «مرّ إعصار فلم يقتلع شجرة» لأنسي الحاج، «أبد الصبّار» لمحمود درويش، «اللاجئ يحكي» لسركون بولس، «سوف تحيا من بعدي» لبسام حجار، «أيتها الهوادج» لأمجد ناصر.
«يقولُ أبٌ لابنه: لا تخف. لا
تخف من أزيز الرصاص!
التصق بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على
جبلٍ في الشمال، ونرجع حين
يعود الجنود إلى أهلهم في البعيد»
* من «أبد الصبار» لمحمود درويش
بالإضافة إلى الشعر والمقالات والحوارات والأبحاث التي تضمّنتها صفحات الكتاب، وجدت اللوحات والرسومات الفنية التي اختصرت بالخطوط والألوان عدداً كبيراً من أزمات العالم العربي بين الأمس واليوم. وقد استطاع صانعوها التعبير عن الهوية العربية المتشظّية داخل حدود بلدانها الأصلية، والتي باتت تناضل من أجل الصمود والاستمرار داخل حدود البلدان الغربية.
وكشفت تلك الرسومات المأزق الاجتماعي الذي وقع العرب فيه نتيجة تصدير برامج ومسلسلات تلفزيونية ذات أهداف تجارية وتخريبية، حيث أسهمت في تنميط الفكر العربي وتعليبه وتشويه الذائقة الفنية والفكرية بين كافة الشرائح المجتمعية.
لوحة بعنوان ville لزينة أبي راشد «من الكتاب»
سنكون في حالٍ أفضل
اشتمل الجزء الأول من «أرابوراما» على عدد هائل من المعلومات تبتعتها التحليلات والتأويلات ضمن إطار العنوان «العالم العربي ـ هل ما زال موجوداً؟». وعلى الرغم من أن أبحاثه فيما تطرحه من قضايا وإشكاليات تحاكي العقل البشري بشكل موضوعي وفق معادلات ومعطيات قائمة بالفعل، لا يمكن للمشاعر أن تبقى بعيداً. فالأسى شعور يرافق تجربة قراءة صفحاته، وتحديداً إذا كان القارئ عربياً. إنه الأسى على راهننا المتعب والمليء بالتحديات والصعوبات.
وفي تصريحٍ خاص على محتوى الكتاب، أكّدت لنا الباحثة ليلى دخلي أنه من الصعب جداً أن يكون الإنسان اليوم عربياً، سواء داخل حدود الوطن العربي أو خارجه. فثمة عقبات هائلة تعترض حاضره ومستقبله لا يمكن فصل جذورها عن الماضي. وأشارت إلى أنه ومنذ حوالي التسع سنوات أصبح الوضع متفاوتاً في صعوبته بين بلدٍ عربي وآخر، ففي حين استعادت بعض البلدان والشعوب جزءاً من حقوقها، عانت أخرى وما زالت تعاني من القمع والظلم.
«إن الحركات الشعبية التي بدأت في العام 2011 في العالم العربي، أعطتنا ثقة وأملاً بأننا سنكون في حالٍ أفضل».
أما بما يخصّ الأدوات التي على الإنسان العربي أن يتسلّح بها ليتمكّن من مواجهة كل تلك التناقضات والتحديات من حوله، فبيّنت دخلي أن أفضلها وأكثرها جدوى هي الثقافة، ومن ثم العاطفة التي نستطيع تلخيصها بالإيمان والمشاركة في الشكل الجديد الذي بات يحدّد الوعي والانتماء العربيين.
انطلاقة الموسوعة
كان معهد العالم العربي قد أعلن بشكل رسمي يوم الثلاثاء الماضي عن صدور الكتاب الأول من سلسلة «أرابوراما» من خلال ندوة حوارية تناولت فكرة المشروع والهدف منه وأهمية أبحاثه المطروحة في قراءة الواقع العربي الراهن واستشراف مستقبله.
وقد أبدى السيد جاك لانغ رئيس معهد العالم العربي في بدايتها، فخره بهذا الإنجاز المضاف إلى إنجازات المعهد، مبيناً القيمة الأكاديمية والفكرية التي تتصف بها الأبحاث المشاركة في «أرابوراما» من ناحية تحليلها لواقع الدول العربية داخل وخارج حدودها الجغرافية والسياسية.
وقال أنه يتم حالياً العمل على مشروع ترجمة «أرابوراما» إلى اللغتين العربية والإنكليزية بإشراف معهد العالم العربي.
شارك في الندوة بعض المشاركين في الكتاب، وهم البروفيسور برتراند بادي أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس والذي يعتبر أحد المهتمين عن قرب بقضايا الشرق الأوسط والعالم العربي، الباحثة ليلى دخلي، كريستوفر إياد والفنانة التشكيلية زينة أبي راشد.
نشوء مصطلح
في المحور الثالث من الكتاب، أوضح Guy Burak المسؤول عن الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية واليهودية في مكتبة Elmer – Holmes – Bost التابعة لجامعة نيويورك ضمن مقالته من أطلق مصطلح «العالم العربي؟» التي ترجمها من الإنكليزية إلى الفرنسية Benjamin Guerif أن أول ذكر لمصطلح «العالم العربي» في اللغة العربية استطاع إيجاده في مقالة نشرت في جريدة «الجنان» في بيروت بتاريخ يناير 1870 وبعدها بعامين ونصف في يونيو 1872 في مقالة بنفس الصحيفة التي هنّأت السلطان العثماني الذي وصل نفوذه إلى العالمين العربي والفارسي. وفي مارس 1893 أعرب قارئ صحيفة «الهلال» في القاهرة عن أسفه لعدم نشر أي شيء لفترة طويلة حول بغداد على الرغم من أهميتها في «العالم العربي»… وهكذا يبدو أن هذا المصطلح بدأ يكتشب شعبية كبيرة بين أوساط الجمهور العربي في أواخر القرن التاسع عشر، إلى أن أصبح تعبيراً متداولاً يجوب البلاد والقارات.
نقلا عن: إندبندنت عربية