في أول أيام دخول الجمهور لمعرض الكتاب الفائت، بعد الافتتاح بيوم واحد، سقط الكاتب الشاب محمد حسن خليفة على الأرض في جناح هيئة قصور الثقافة، حمله من حملوه إلى أقرب مستشفى، لكنه فارق الحياة.. ما جرى كان لا بد أن يجري طبعا؛ فهي الأقدار المحتومة التي لا مهرب منها، لكن الواقعة كشفت قصورا فادحا في غياب المنظومة الطبية المسعفة عن المعرض، نعم سيارات الإسعاف موجودة، لكنْ معرض له هذه الصفة الدولية وبهذا الحجم الكبير وهذا الكم من الضيوف المعتبرين من جميع دول العالم؛ كان لا بد أن تحوي خطة إقامته من البداية مركزا طبيا، ولو صغيرا، مجهزا بأحدث الإمكانيات؛ فالمعرض ممرات شتى وساحات فسيحة وقاعات متفرقة ومسافات طويلة وأسفلت وأرصفة وأخشاب وإضاءات ودخان مطاعم، وما إلى ذلك، وبالبداهة لا أحد يملك ضمان عدم حدوث شيء سئ لأحد.. فالحوادث تقع مهما احتاط البشر.
الكاتب «محمد حسن خليفة»
إعلان عن قلب وحيد
وفاة الكاتب الشاب كانت صادمة للغاية.. جميع الصحف والمواقع نشرت الخبر الحزين، وامتلأت السوشيال ميديا بذكره وعزَّى الناس أنفسهم وبعضهم فيه، الناس العاديون الذين عرفوه، وأصدقاؤه من الكتاب الشباب، والكتاب الراسخين الكبار الذين آلمهم الخبر إيلاما مضاعفا؛ فأكثرهم كانوا يرون في الشاب صورة زاهية لكتابة جادة مختلفة، فهم يعرفون قدراته، ويعولون عليه، ويرونه، وأمثاله من الموهوبين الحقيقيين، مستقبل مصر في مجال الإبداع الأدبي. مما جعل البكاء عليه يطول وسرادق العزاء لا ينفض؛ أنه لم يبلغ الثالثة والعشرين من العمر بعد- مواليد أبريل 1997.. وكان له بمعرض هذا العام أول كتبه، مجموعته القصصية «إعلان عن قلب وحيد» الصادرة عن دار تبارك للنشر، وبالمناسبة هو كتابه الأول الذي صار، بعد وفاته، الأول والأخير، ولو تأملتم عنوان المجموعة، ولو تأملا بسيطا، لانقبضت القلوب منكم؛ فالدلالة مقبضة بقوة!
الكاتب الشاب الراحل مواليد محافظة الجيزة، وكان يقيم بها، درس بكلية الزراعة جامعة عين شمس، لم يرتبط، وكان نشيطا تماما في دائرة العمل؛ فقد كان يكتب في أكثر من مطبوعة تصدر في مصر وفي غيرها من البلاد العربية، مقالات في الثقافة والأدب والفن والشؤون الأخرى.. لذلك، ولبروز صفحته في السوشيال ميديا بالكتابة الخاصة الجيدة والمختارات الدالة على سعة ثقافته وعبقرية وجدانه، كانت الثقة فيه كبيرة وبالغة وكان فريدا بين أقرانه عند المتلقين المتخصصين قبل العاديين. نجدد العزاء الحار الصادق لأهله فيه، ولجملة الكُتّاب المصريين والعرب، وكُتّاب العالم بأسره، وندعو الكتاب والقراء إلى شراء نسخ عديدة من كتابه، متجاوزين أرضية المعرض، وندعو ناشره إلى طباعة نسخ جديدة من الكتاب الذي سينفذ سريعا لا محالة لارتباطه بحكاية صاحبه المفجعة، وندعوه إلى حفظ حقوق الكاتب الراحل، ورد عائدها إلى أهله بأمانة، كذلك إلى جمع مقالاته المنشورة في كتاب أو اثنين إن أمكن. لقد أقام المعرض ندوة تأبين للكاتب في يوم الثلاثاء الرابع من فبراير، وهو أمر محمود من الإدارة اليقظة؛ فالشاب الراحل شهيد السعي إلى الثقافة لا ريب، وهو الذي لم تكتمل فرحته بكتابه الوحيد؛ فقد ذهب لرؤيته والاحتفاء بصدوره، كما يقول ناشره، لكن سرعان ما شعر بالتعب وتوقفت عضلة قلبه، لسبب لا يعلمه إلا الله، وفشلت محاولات إنقاذه.
لا أعرف شيئا عن ظروف أسرة الفقيد، لكن أظنها من الطبقة المتوسطة الكادحة، وأدعو وزراة الثقافة إلى استقصاء أمرها، وتقديم العون لها في مصابها الجلل، العون المعنوي، بإفهامها أنها أنجبت أملا باذخا باقيا، والمادي لو أمكن.
د. إيناس عبد الدايم تعزي أسرة الكاتب الراحل
الفقد كثيف في هذه السنة الجديدة، كثيف من أول شهورها، وكم تمر على البشرية سنوات شبيهة، تشعر فيها بمرارات الوداع فوق ما تشعر بلذة اللقاء، لكن الصبر غالب، والتمسك بالحياة واجب على كل حي مهما تكن العثرات في الطريق والمنغصات في المعيشة والمواجع والموانع.
إنني أتحدث عن كاتب شاب متميز ترك عطاء أدبيا واحدا، وذهب إلى ربه، فجأة، بنفس القوة التي يمكن أن أتحدث بها عن كاتب عملاق مضى تاركا عشرات الكتب المهمة؛ لأن هذه هي العدالة الإنسانية، ولأن هذا ما يسعد الكاتب العملاق، لو كان عملاقا بحق، فالشباب هم المدد الفعلي للأمة، ولولا نبوغهم اللاحق للأجيال الرائدة ما ثبتت في الأذهان صور أولئك الأفذاذ السابقين!
أين «أولوية» الشباب؟
لدينا كثيرون من الشباب الرائعين، متوقدي الشُّعَل، كالكاتب المأسوف على شبابه، يملؤون الوطن بكامل مناطقه، غير أن المؤسسات الرسمية تعاملهم غالبا معاملة أدنى تماما من فيوضهم الأدبية المدهشة وطاقاتهم المتوهجة، تعاملهم كمجموعة من المراهقين النزقين. أكثر هؤلاء الشباب أيضا يجدون غرورا من المبدعين المتحققين، وعدم تقدير وعدم اهتمام، ويعانون معاناة بالغة في نشر قصة أو قصيدة بصحيفة أو مجلة أو موقع، وإذا حلموا بنشر كتاب حال بينهم وبين نشره ارتفاع أسعار الطباعة واستهانة الناشرين بأفكارهم ورؤاهم، منهم الذين يُحبَطون مبكرا ويستسلمون لليأس، ويشعرون بطول الطريق ومشقة السير فيه وغموض نهاياته، قد يتركون منحة الله لهم بالكلية؛ فلا يواصلون المشوار مستسلمين لما أصابهم من فتور الهمم، وقد ينزوون إلى حين، ومع عودتهم إلى الساحة مجددا، في ظل ظروف طيبة مختلفة، يجدون المحافل الثقافية مكتظة بمن هم أدنى منهم، ممن انتهزوا فرصة غيابهم انتهازا فقفزوا قفزة كبرى للأمام..
آخر ما كتبه «محمد حسن خليفة» عبر صفحته على فيسبوك
إننا، بجملة من الأخطاء بعضها بسيط لكنه متعمَّد، نقتل نباتا بازغا حلوا كان ثمره سينفعنا بلا ريب لو أحسنا رعايته، من البداية، وتعهدناه بما يحتاج إليه كي ينمو ويزدهر أمام أعيننا فتكون فرحتنا به مضاعفة.. ولا أدري لماذا تستمر مثل هذه الإساءات وإلى متى، بينما الدولة تعلن دائما، في خطاباتها الرسمية، أن الشباب لهم الأولوية، وأن الكتَّاب هم في صلب القوى الناعمة لهذا الوطن جليل القدر الذي يشد من أزره، في الحرب على الجهلاء والمظلمين، صوت أديبه المتدثِّر بالنُّور والواثق بالعلم، سيَّما الأديب الشاب.
إلى الجنة، بإذن رب عفو كريم، يا صديقنا الصغير الكبير.. والوعد أن نجعل ذكراك ملهمة باستمرار، بإحياء عطائك وسيرة كفاحك، وتقديمك لنظرائك بالذات كقدوة ومثلٍ يُحتَذَى، وأن ندين كل من يتحدُّون حداثة السن موفورة الطاقة؛ فلو كان للمرء لسان لافظ وقلب حافظ، كما قيل، حق أن يتقدم الصفوف ولو كان أصغر قومه!