كثيرة هي الأعمال الأدبية التي اتخذت من أسطورة أوديب الإغريقية بطلا لها، وهي التي ذكرت لأول مرة في قصائد الأوديسة لهوميروس، ويعد أكمل مصدر قديم وصل إلي أيدينا لتلك الأسطورة، هو المسرحيات الثلاث لسوفوكليس، والتي يُعتقد أنها كُتبت حول عام 445 قبل الميلاد، أوديب ملكا، وأوديب في كولونيا، وأنتيجون.
تلك الأسطورة القائمة على فكرة حتمية القدر للبشر وانصياع بطلها أوديب لنبوءة الآلهة بقتل أبيه والزواج من والدته بعد قضائه على الوحش «أبو الهول» بالإجابة على اللغز، والجلوس على العرش، وعدم استطاعته الهروب من ذلك القدر الذي ينسج الخيوط، لينفذ أوديب تلك النبوءة بنفسه دون أن يدري، أغرت الكثير من الكتاب والمبدعين على مر العصور لإعادة تقديمها وصياغتها بما يلائم عصر كتابتها، ومناقشة أفكار أخرى مختلفة عن الحتمية القدرية في الأسطورة الأصلية مع الحفاظ على الإطار العام لها.
وضمن تلك المعالجات، كانت مسرحية «أوديب.. أنت اللي قتلت الوحش» للكاتب على سالم عام 1970، التي نقلت عناصر الأسطورة من طيبة «اليونان»، إلى طيبة «مصر القديمة»، ودون أن يتطرق لفكرة النبوءة، وكون أوديب هو أبن الملك المقتول أم لا، لكنها ناقشت فكرة الخوف وعلاقته بالإنسان وصناعة الديكتاتور وهزيمة الدولة القائمة على ذلك الخوف، بأسلوب الكوميديا السوداء.
هذه المسرحية تبنتها فرقة المسرح المؤقت المستقلة، المكونة من خريجي وطلاب قسم التمثيل بالجامعة الأمريكية، لتعيد تقديمها على خشبة المسرح مرة أخرى، ومن إخراج الدكتورة أسماء الطاهر، وقدمت لمدة ثلاث ليال على مسرح «الجيزويت» بالقاهرة قبل أيام. وقد حافظت الفرقة في معالجتها الجديدة، على الحبكة الدرامية للنص الأصلي لسالم، مع تغيير طفيف في النهاية وإسقاط بعض الشخصيات.
طيبة.. في كل العصور
الأسلوب الدرامي الرئيسي عند علي سالم في تلك المسرحية هو خلط الماضي بالمعاصر، بغرض توصيل رسالة بأن تلك المشكلة المطروحة في العرض، وجدت في الماضي، وهي مشكلة معاصرة ،وبالتالي هي مستقبلية طالما بقيت عناصر وجودها، وهو ما حافظت عليه الفرقة في عرضها الجديد بعد كتابة النص بـ50 عاما.
الديكور جاء بسيطا وخاليا من البهرجة ولكنه كان مركبا دراميا، في الوسط كرسي العرش ذو النقوش الفرعونية، وفي الخلف ما يشير إلى نافذة القصر، وبالتالي كانت خشبة المسرح دون تغيير الديكور قابلة لكل مشاهد العرض سواء ما يوحي بأنها داخل القصر أو خارجه أو في الساحة التي يجتمع فيها الشعب، بالإضافة إلى وجود عدد من الكراسي أمام خشبة المسرح يجلس عليها عدد من الممثلين مع الجمهور العادي لتختلط ملابس «شعب طيبة» الفرعونية بملابس الجمهور بما يخدم الأسلوب الرئيسي بمزج الماضي بالمعاصر.
ملابس العرض أيضا كانت بسيطة وتشير إلى أننا في عصر أحد الفراعنة دون تحديد، مع وجود استثناء وحيد لأحد أبطال العرض «أوالح – رئيس الشرطة» يحيى حسين الذي ارتدى ملابس سوداء ونظارة شمسية، وهو ما أعطى روحا كوميدية لتلك الشخصية، بالإضافة إلى التأكيد على المزج بين الأزمنة المختلفة.
وخلط العرض كما النص الأصلي لعلي سالم بين الفصحى على لسان «الكاهن -الراوي- تريسياس» مايكل فادي، وبين العامية المسيطرة على ألسنة أغلب شخصيات العرض.
طوال مدة العرض سيكون حديث أحد شخصياته مع شعب طيبة الجالس بين المتفرجين، هو حديث للمشاهد ذاته، فشعب طيبة هم هؤلاء الممثلون بالزي الفرعوني قديما، ونحن أيضا.
يبدأ العرض بالراوي تريسياس، وهو يتحدث عن طيبة التي يحاصرها الوحش «أبو الهول» ويقتل أبناءها بعد أن يقوم بطرح لغز ما، ليجتمع مجلس المدينة وعلى رأسه «الملكة – جيوكاستا» مارتينا، ويقرر صرف مكافأة لمن يستطيع القضاء على ذلك الوحش، وبشكل ما يقرر «أوديب» مصطفى ياسر، قبول التحدي بشرط أن يتزوج الملكة ويصبح الملك الجديد لطيبة.
أوديب هنا هو صورة الشخص البطل الشجاع البريء الذي سيواجه الوحش ويقتله، ويحمل أفكارا يريد أن يخدم بها أهل طيبة ومنها الاختراعات الحديثة مثل التليفزيون والانترنت والتليفون ليقترب العرض أكثر من الزمن المعاصر.
لكن الفرعون الجديد الغارق في اختراعاته ما زال محاطا برجال الحكم القدامى، أوالح رئيس الشرطة «يحيى حسين» الذي ورث المنصب من عائلته التي تقوم بتلك المهمة منذ 400 عام، وعمله قائم على القهر والتخويف والتعذيب، و«حور محب- رئيس الكهنة» أحمد مهنا، والقائم أيضا على التدريس لأبناء طيبة، والذي يحاول إقناع أوديب دائما بأنه من سلسلة الآلهة.
يرضخ أوديب الذي لا يعرف من الحكم شيئا بالاعتماد على أوالح وطريقته، والتي يقول عنها «مش مستحبة لكنها ضرورية» ليأتي صوت تريسياس «إن أفظع الفظائع وأعتي الكوارث تبدأ هكذا دائمًا: بالأشياء التي ليست مستحبة ولكنها ضرورية. السؤال هو: لماذا لا يخبروننا أبدًا لماذا هي ليست مستحبة؟، والأهم، لماذا هي ضرورية؟»
تتحول المدينة من الرجاء والأمل في الملك الجديد، إلى الخوف والصمت، والغناء والهتاف السنوي «انت اللي قتلت الوحش» تمجيدا للفرعون «اوديب».
لكن الوحش يعود من جديد عند أسوار المدينة، وتُغرق «طيبة» الأمراض بسبب حصار الوحش لها، ليجتمع المجلس مرة أخرى، ولكن هذه المرة بقيادة أوديب .وهنا نشاهد واحدا من أبرز وأهم مشاهد العرض، حيث النقاش بين مجلس المدينة والشعب حول كيفية القضاء على الوحش ليوجه «أوالح» حديثه إلى شعب طيبة أو المشاهدين.
يقرر الملك أوديب إرسال جيشة بقيادة «كريون» مايكل نبيل في محاولة للقضاء على الوحش، لكن الجيش يهزم، ليقرر أوديب بمساعدة ترسياس وكريون التخلص من أوالح واعتبار الخوف هو العدو الأول للمملكة لأنه يصنع إنسانا مهزوما غير قادر على المقاومة.
يحاول أوديب إقناع الشعب بأنه لم يقم بقتل الوحش في المرة الأولى، وأن مواجهته تستسلزم مواجهة جماعية من الشعب، لكن الشعب يرفض ذلك مرددا هتاف «انت اللي قتلت الوحش»، لينتهي العرض كما بدأ بالراوي تريسياس في إشارة إلى أن الوضع يبقى على ما هو عليه وتبقى رسالته الأساسية الخوف لا يصنع إنسانا، ودولة الخوف هي دولة مهزومة.
بقى أن نقول إن الفرقة قدمت أداء ساخرا وقاسيا في نفس الوقت، بما يؤكد حسن اختيارهم للنص وللمعالجة، وبما يحمله ممثلو العرض من مواهب مبشرة، في ظل إمكانيات مادية محدودة، ونتمنى أن تستمر الفرقة على ذلك النهج، وأن لا تدفعها قلة الإمكانيات أو الواقع المحيط إلى الإحباط والانزواء.