في كتابه «السلفيون والسياسة» يتتبع الراحل الدكتور محمد حافظ دياب، أستاذ علم الأنثربولوجيا السابق بجامعة بنها، أصل نشأة الحركة الوهابية، والعلاقة بين الدعوة السلفية الوهابية وتأسيس الدولة السعودية، والسبل المختلفة التي اتخذتها المملكة السعودية سعيا لتوسيع نطاق الحركة السلفية الوهابية.
والوهابية هي دعوة دينية نشأت نهاية القرن الثامن عشر، في منطقة نجد شمالي شرق شبه الجزيرة العربية وهي دعوة دينية سلفية تسعى إلى استعادة نموذج الدولة الإسلامية الأولى، عبر التمسك بظاهر الكتاب والسنة، مع الابتعاد عن التأويل، والعودة إلى نهج السلف الصالح، بوصفه نهج الإسلام الأصيل، وهي الدعوة التي سميت بـ«الوهابية» نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي قادها.
الجذور والنشأة
يستهل دكتور حافظ دياب تناوله لنشأة الحركة السلفية الوهابية بالإشارة إلى مؤسسها الأول الشيخ «محمد بن عبد الوهاب» (1703-1791م) الذي تأثر بالفكر الحنبلي لدى ابن تيمية وابن قيم الجوزية، إلى جانب إنكاره تقليد أحد بخلاف الأئمة الأربعة.
محمد بن عبد الوهاب
ويمكن وصف أفكار ابن عبد الوهاب – كما يقول دياب- بأنها تعد تفسيرا خاصا لميراث الاتجاه الإسلامي السلفي، وقد ارتكزت دعوته على ثلاثة مبادئ أساسية: «التوحيد بمعنى الدعوة إلى الله وحده والتعبد له دون شريك معتمدًا على القرآن والسنة وأثر السلف، والجهاد المشروع في سبيل نشر هذه الفكرة، والاجتهاد بشرط عدم مخالفته لنصوص القرآن والسنة وآثار السلف».
يشير دياب إلى أهمية «كتاب التوحيد» للشيخ محمد بن عبد الوهاب والذي تضمن جل أفكاره حول طبيعة الدعوة الوهابية، فالمدقق في محتوى هذا الكتاب سيكتشف غياب أي تجديد، مع ازدحامه بالاستشهادات والاقتباسات التي تؤكد مرجعيته الحنبلية المتشددة، حتى ليبدو مُعَلّمُه أحمد بن حنبل في الواقع أكثر تسامحا في مسألة التكفير، وهو ما اعترف به قبل ذلك بقرون ابن تيمية في معرض ذكره لتشدد ابن حنبل فيما يخص «العبادات»، وتحرره تمامًا في موضوع «العادات».
يضيف دياب أن الوهابية تعد صيغة لمشروع سلطنة إسلامية، لا تقف عند حدود جغرافية قومية، أي أنها لا تطرح نفسها بوصفها دولة أو أمة عربية، بل بوصفها «إمارة إسلامية» يرأسها إمام. وقد أطلق أصحاب هذه الدعوة على أنفسهم اسم «الموحدين» إلا أن منتقديهم أطلقوا عليهم لقب «الوهابيين» ومن ثم جرى اللقب على الألسنة فصار مألوفًا. لكن المثير بشأن الحركة الوهابية أنها استطاعت أن تعيد الثقل السياسي لشبه الجزيرة العربية، بعد أن كانت قد فقدته منذ العصر الأموي.
تحالف السلطتين الدينية والسياسية
تحالف الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام (1747) مع الأمير محمد بن سعود، الذي تعهد بدوره بحمل راية الدعوة الوهابية، وحمايتها بالقوة إن استدعى الأمر، ومن ثم تزوج الأمير محمد من ابنة الشيخ عبد الوهاب، على قاعدة تقاسم المجال العام بين عصبية آل سعود القبلية، والدعوة الدينية التي يقودها ابن عبد الوهاب. فقد كانت الوهابية تبحث عن قوة تحميها من أجل سلامتها ونشر مبادئها، وآل سعود بحاجة إلى مظلة دينية وشرعية تُسوّغ تطلعاتهم، وفقا لحافظ دياب.
وقد أدى هذا التزاوج أو التحالف بين السلطتين الدينية والسياسية، إلى تكريس موقف للسلفية من السلطة يقوم على وجوب طاعة ولي الأمر، على قاعدة عدم الاتجاه لإنفاذ الشرع عن طريق تولي السلطة، بل التسليم للقائم عليها، وإكتفاء «الشيخ» بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحسنى وبما لا يخل بالهيبة والسلطان.
أفاد ابن سعود من الوهابية باكتساب الصفة الشرعية، حيث وفرت تعاليمها مبررات الاستقرار للإمارة الوليدة، ومن ثم سوَّغت إعلان الجهاد ضد من وصفوهم «بالمرتدين»، وحرّمت الموسيقى والرقص والشعر، واستخدام الحرير والزينة والمجوهرات.
من جانب آخر غَالَى أنصار الوهابية في تكفير من لم يعتنقوا مبادئهم، وأوجبوا قتلهم، وشنوا من أجل ذلك غاراتهم على المدن الشيعية المقدسة في العراق سنة (1801)، ثم اتجهوا نحو بلاد الشام وهددوا دمشق وحلب. ووفق هذا النهج أعادت السلفية والوهابية الفكرة الدينية إلى وجهتها السياسية منذ منتصف القرن الثامن عشر، عبر حالة من التماهي فيما بين السياسة والدين، على قاعدة إما ولاء وطاعة أو خروجا وممانعة.
بموت الشيخ «محمد عبد الوهاب» أصبح «سعود بن عبد العزيز» «سعود الكبير» حاكم نجد المطلق، وفي الوقت نفسه صار إمام الوهابية، موحدا بذلك السلطتين السياسية والدينية، ومن ثم قام بغزو كربلاء عام (1802) وتحطيم ضريح الإمام الحسين والاستيلاء على الحلي والنفائس الموجودة به، كما أصدر أوامره بقتل جميع سكان كربلاء، بإعتبارهم من «المرتدين» وخلال العام التالي استولى الوهابيون على مكة المكرمة وقاموا بتحطيم جميع القباب الموجودة بها، وفي عام (1805) تولى أهل المدينة المنورة تحطيم القباب فوق جميع الأضرحة لديهم، حين وجدوا أنفسهم محاصرين على أيدي الوهابيين، وبذلك ظهرت الدولة موحدة تحت حكم الإمام.
سعود بن عبد العزيز (سعود الكبير)
وبحلول عام (1814)، كان الوهابيون قد استولوا على الجزيرة العربية، وهيأوا أنفسهم لغزو سوريا، إلا أنهم عدلوا عن ذلك، عندما وقفت ضدهم قوة «محمد علي باشا» والي مصر والشام. ومع سيطرتهم على أرض الحجاز منعوا حجاج الشام وتركيا ومصر من دخول الأرض المقدسة، ما دعا محمد على باشا أن يخرج في حملة عسكرية لتأديبهم، حيث تمكن من سحقهم عام (1819) وتدمير الدرعية والقبض على الحاكم «عبد الله بن سعود» الذي تم نقله إلى استطنبول، حيث تم تنفيذ حكم الإعدام فيه.
تنامي واتساع الوهابية
يواصل الدكتور دياب روايته حول نشأة الحركة الوهابية مشيرا أن الحملة المصرية بقيادة محمد على باشا نجم عنها حالة من التوقف المؤقت لمشروع الوهابية، إلا أنها ما لبثت أن واصلت رحلتها ومع مطلع عام (1902) تمكن الأمير عبد العزيز آل سعود (1879-1953) سلطان نجد وملحقاتها، من بسط نفوذه على منطقة الإحساء الشرقية، التي تقطنها قبائل الشيعة، ومن ثم أعقبها بإنشاء قرابة ثلاثمائة مستوطنة لأنصاره مثلت القوة الضاربة لجيشه وعرفت باسم «الهجر» بوصفها وكر صغير للوهابية، وضمت المحاربين الذين تتلمذوا على تعاليم الشيخ «عبد الكريم المغربي» ومن ثم قاموا بعدة غزوات انتهت باستيلاء الوهابيين مرة أخرى على مكة والمدينة عام (1924) ليعلن بعدها بعامين «عبد العزيز أل سعود» نفسه ملكا على الحجاز، ومع مطلع عام (1927) تم إلغاء كافة القوانين غير الإسلامية بالحجاز، ومنع الشيعة من الإحتفال بعاشوراء، ورويدا رويدا تنامت سلطة الدولة السعودية.
عبد العزيز أل سعود
ويرى محمد حافظ دياب أن الحركة السلفية والوهابية سعت لتوسيع نفوذها عبر اعتمادها على جملة من الممارسات. تمثلت في السعي لفرض النموذج الثقافي السعودي بقيمه القائمة على الثراء والإستهلاك، إلى جانب رعاية وتمويل شكل مشوه للثقافة الدينية، يقوم على النقل والإتباع، ويركز على مظاهر دينية شكلية، كما سعت إلى ما أَطلق عليه دياب «أسلمة» العلوم و«سلفنة» المعرفة، إضافة للإنشاء المتعجل للعديد من البنى الثقافية «جامعات، مراكز بحوث، مؤسسات ثقافية، دور نشر، مكتبات، دوريات»، إلى جانب إغراء الكتاب والأكاديميين والمفكرين العرب بالعمل بمؤسساتها.
وبالإضافة إلى ذلك قامت المملكة السعودية بتأسيس الجامعة الإسلامية العالمية ورابطة العالم الإسلامي، التي تولت تمويل إنشاء مدارس ومعاهد دينية وجمعيات في أوروبا والولايات المتحدة، إلى جانب تقديم منح دراسية ودورات تدريبية لإعداد الدعاة والمدرسين بتمويل من المصارف الإسلامية السعودية ورجال الأعمال.
وهكذا أصبحنا أمام منظومة متكاملة لنشر الفكر السلفي الوهابي ليس في العالم العربي الإسلامي فحسب وإنما في العالم أجمع، وربما يفسر هذا الأمر انضمام العديد من شباب الأوروبي والأمريكي لمنظومة الفكر الإسلامي المتشدد، لتبقى الوهابية نموذجا لفكر متطرف يجد من يتبناه ويعتنقه حتى الآن.