منوعات

تقرير مجموعة الأزمات الدولية: حتى نتجنب انتفاضة داعشية جديدة في العراق وسوريا (2)

*عرض وترجمة: أحمد بركات

رغم تراجع قوة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الآن بدرجة كبيرة عما كانت عليه عندما بلغت أوجها في عام 2015، لا يزال العراقيون وشركاؤهم الأجانب يخشون إمكانية انتفاضة التنظيم مجددا.

ففي مقابلة مع «مجموعة الأزمات الدولية» في فبراير الماضي، أعرب أحد الدبلوماسيين الغربيين عن هواجس وتساؤلات  مهمة تشغل المعنيين، مثل: «هل المسار التاريخي لتنظيم الدولة الإسلامية طولي أم دائري؟ وهل المرحلة الراهنة هي أعلى نقطة في الدائرة، حيث تبدو جميع الأمور على ما يرام، وسيتبعها حتما هبوطا تدريجيا نحو الأسفل؟».

الاستراتيجية الدائرية لتنظيم الدولة

ربما يعتمد تنظيم الدولة الإسلامية على النموذج الدائري. فقد طالب قادته، العراقيين السُنة «بالندم والتوبة»، ووعدوا «بعودة التنظيم إلى المناطق التي انسحب منها، عاجلا أو آجلا».

وبحسب الدعاية التي تطلقها ماكينة الإعلام التابعة لتنظيم الدولة، فإن هدف الجماعة النهائي الآن هو الوصول إلى مرحلة «التمكين» مجددا، واستعادة الهيمنة على الأراضي التي كانت خاضعة لحكمها حتى مارس من العام الماضي.: «إن معركتنا اليوم هي معركة استنزاف للعدو، والتفوق عليه في الصمود والصبر»، كما أعلن الزعيم السابق للتنظيم «أبو بكر البغدادي» في الفيديو الذي تم نشره في 29 أبريل 2019. هذه الاستراتيجية ليست جديدة؛ إنها خطة كرس لها التنظيم قدرا عظيما من فكره وجهوده.

ووفقا لأدبيات تنظيم الدولة، تبدو منهجية الجماعة في العراق مصممة لمجابهة الظروف الصعبة، وذلك بهدف التقدم تدريجيا صوب «التمكين». ويدرك قادة التنظيم أن العمليات التي تهدف إلى وأد انتفاضتهم تسعى في المقام الأول إلى الإبقاء على التنظيم في دائرة عدم الاتزان التي ولجها إثر ما تعرض له من ضربات عسكرية أدت إلى سقوط دولته، وانسحابه – بصورة مؤقتة – من الأراضي التي كان يسيطر عليها، ومنعه من مواصلة حملته التوسعية. وفي حال سنحت الفرصة، فإن التنظيم سيستكمل على الأرجح عنفه «منخفض الدرجة» عبر هجمات كثيفة الموارد وأكثر تعقيدا.

لكن، حتى في الوقت الذي يبدي فيه التنظيم التزاما عميقا باستراتيجيته، يبقى نجاحه معتمدا على الظروف؛ إذ تعمل الجماعة الآن في عراق مغاير تماما لما كان عليه في عام 2014، في الغالب ضد مصالح الجهاديين. وقد تقدم التحولات الكبرى في السياسة والأمن والمجتمع العراقي فرصة مواتية لمنع العودة الدائرية للتنظيم.

كسر الدائرة

يتحدث العراقيون عن تغير جذري في المزاج الشعبي العام، وبالتحديد في علاقة العرب السُنة بالمؤسسة السياسية. فقد جاء صعود تنظيم الدولة في عامي 2013 و2014، في فترة شهدت استقطابا سياسيا استثنائيا في العراق، حيث دشنت القوى السياسية السنية العربية احتجاجات بطول البلاد وعرضها كجزء من حشد أوسع ضد حكومة نوري المالكي آنذاك، أو «بغداد الشيعية»، كما ارتأها كثيرون من العرب السُنة. ويتحدث العراقيون عن مجموعة من الدوافع التي هيمنت على أوساط العرب السنة الذين عارضوا نظام بغداد في ذاك الوقت، بما في ذلك حالة الاستياء من القبضة الأمنية الخشنة، ورفض النظام السياسي العراقي في حقبة ما بعد الغزو الأمريكي في عام 2003، الذي قام بمحاصصة السلطة على أسس عرقية وطائفية، وتقزيم العرب السُنة إلى مجرد أقلية سياسية، والعداء للنفوذ الإيراني. كانت هذه الدوافع جميعها تؤجج بعضها بعضا، ولم يكن سهلا بالنسبة إلى كثيرين الفصل فيما بينها.

وتنظيم الدولة الإسلامية هو جماعة تؤمن بالسيادة الطائفية؛ حيث تتمثل قاعدته الجماهيرية ومصدره الأوحد لاستقطاب وتجنيد عناصر جديدة في دوائر المسلمين السنة. وتزداد قوة الجماعة في حال تمكنها من نشر الاستقطاب في العراق على أساس طائفي، ووضع السُنة من غير الأكراد ككتلة في مواجهة سائر المكونات. ومن ثم، فقد استهدف عنف التنظيم منذ فترة طويلة تأجيج حالة الانقسام الطائفي التي برزت في العراق بعد الغزو الأمريكي في عام 2003، وإعادة تشكيل السياسات العراقية عبر خطوط طائفية.

وفي عام 2019 – في أعقاب الحملة العسكرية على تنظيم الدولة – يبدو أن حالة الاستقطاب الطائفي السياسي قد تراجعت. لكن الانقسام الطائفي لا يزال يلح على المستوى الاجتماعي. ويأخذ الجدل المحلي في بعض الأحيان بعدا طائفيا، ويصعب أحيانا تمييز الانتقادات ضد إيران عن التوجهات المعادية للشيعية. رغم ذلك، تبتعد العراق بصورة إجمالية عن السياسات الطائفية. فقد تخلى القادة والسياسيون العراقيون (مع وجود استثناءات قليلة يعيش معظمها في المنفى) عن خطاب الصراع الطائفي. كما يبدو أن رفض نظام ما بعد عام 2003، الذي يجعل من العراق نقطة تجمع سياسي للعرب السنة، قد خف وهجه أيضا. وفي حين أن حجم تمثيل النخب السياسية العراقية – من كل الطوائف – للشعب العراقي لا يزال محل جدل شائك، إلا أن هذه النخب تميل الآن إلى التعاون فيما بينها متجاوزة الخطوط الطائفية. وعلى المستوى القاعدي، لعبت تجربة الحرب ضد تنظيم الدولة دورا محوريا في حشد الشباب العراقي للمشاركة في النشاط المدني المتجاوز للطائفية.

من الناحية الأخرى، يدرك العرب السنة في العراق الآن ما يمثله تنظيم الدولة. لقد كانت الجماعة موجودة قبل عام 2014، لكنها لم تستطع أن تفرض هيمنتها الكاملة على أي شريحة في المجتمع. وفي عامي 2013 و2014، تمكن تنظيم الدولة من اختراق حركة سنية جماهيرية قادها سياسيون وزعامات قبلية وعلماء دين، وضوت تحت لوائها توجهات سياسية مختلفة. وعندما تحولت الاحتجاجات إلى تمرد مسلح، ارتأى بعض «الثوريين القبليين» و«المجالس العسكرية» في تنظيم الدولة حليفا ناجعا. في البداية على الأقل، تعايش تنظيم الدولة مع طيف  القوى المتمردة الأخرى. كما استفاد بدرجة كبيرة من حالة الارتباك التي سادت البلاد بوجه عام. على سبيل المثال، في خضم الانهيار الفوضوي لقوات الأمن العراقية في يونيو 2014، لم يكن التنظيم معروفا بدرجة كافية لبعض سكان الموصل الذين استولوا على مدينتهم بالفعل؛ إذ لم تكن معرفة السكان السُنة في هذه المناطق بتنظيم الدولة دقيقة، ونظروا إليه باعتباره استمرارا «للمقاومة» و«الجهاد» الذي انطلق في عام 2004 ضد القوات الأمريكية، ونظام بغداد الشيعية. ولم يعي سكان هذه المناطق تمايز تنظيم الدولة عن توجهات المعارضة الأخرى إلا بعد فوات الآوان، حيث كان التنظيم قد فرض سيطرته كاملة على هذه الأقاليم.

وبالنسبة لمعظم سكان هذه المناطق، جاءت سيطرة تنظيم الدولة على مدنهم بمثابة المفاجأة التي تحولت إلى أمر واقع لا حيلة لهم فيه ولا قبل لهم بتغييره. وفي حين عكف تنظيم الدولة على تجنيد عناصر من السكان المحليين ليبلغ مصاف القوى الجماهيرية، بدا معظم من انضموا إلى صفوفه من غير المؤدلجين. ويعتقد سكان هذه المناطق أن معظم المجندين كانوا من الشباب المحليين الذين لا يؤمنون بأي توجهات أيديولوجية، ومن غير المتعلمين، والساخطين على الأوضاع، والباحثين عن المال والسلطة.

أما المواطنون العاديون الذين لم ينجذبوا إلى تنظيم الدولة فقد عانوا في البداية من القبضة الوحشية لحكم الجماعة، ثم من تجربة التحرير الموجعة على يد قوات الأمن العراقية، التي خلفت مساحات شاسعة من هذه المدن تحت التهديد. بعد ذلك أكد العراقيون أنهم لا يريدون «مزيدا من تنظيم الدولة». في هذا السياق، يقول أحد المواطنين من مدينة الأنبار «يمكن أن نقبل بأي شيء آخر. حتى فكرة النفوذ الشيعي أو الإيراني يمكن أن تكون مقبولة تماما. ستكون أفضل بأي حال من تنظيم الدولة؛ كلاهما مُر، لكنها أحلى الأمرين بأي حال». وانزوت الرغبة في هذه المدن الممزقة في معارضة نظام بغداد الشيعي تحت ضغط الخوف من استدعاء نظام تنظيم الدولة مجددا.

أسهم هذا التحول في المزاج السني إلى خلق علاقة وظيفية بين العرب السُنة وقوات الأمن، حيث عملت هذه القوات من جانبها على التعامل بمزيد من الاحترام مع السكان المحليين. في هذا السياق يؤكد مسئولون عراقيون أن المعاملة السيئة التي سامتها قوات الأمن العراقية  للعرب السنة، والتي تمثلت في المعاملة المهينة في نقاط التفتيش، والاعتقالات التعسفية، والملاحقات القضائية بتهمة الإرهاب، كان يجب أن تتغير، وهو ما حدث بالفعل. وبحسب هؤلاء المسئولين، يتعاون السكان المحليون في هذه المناطق الآن مع قوات الأمن، ويقدمون إفادات وبلاغات عن أي تحركات محلية يقوم بها تنظيم الدولة. «الأمور أالآن فضل بكثير بفضل السكان المحليين من العرب السُنة وليس بفضل قوات الأمن»، كما صرح بذلك مسئول عسكري في محافظة نينوى، «لقد تغيرت الحالة المزاجية العامة ولم تعد كما كانت. قبل ذلك، كان السكان المحليون يعملون كجهاز استخبارات لحساب القاعدة وتنظيم الدولة».

(يُتبع)

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية والمراجع من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock