منذ نشأة الدولة الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر انتبهت الأنظمة السياسية المتعاقبة إلى القوة الكامنة في تلك الجماعات الدينية المتسربة في المجتمعات الإسلامية، لاسيما في طبقاته الدنيا والأكثر شعبية، والمتمثلة في الطرق الصوفية.
ومن ثم فقد سعت هذه الأنظمة إلى السيطرة عليها وضمان تبعيتها من خلال استصدار العديد من التشريعات والقوانين، وبذل المنح والعطايا والاقطاعات التي تضمن للدولة التحكم في مصائر وقرارات تلك الجماعات.
الطرق الصوفية كظهير سياسي
ربما تمَثل الهدف الرئيسي للسيطرة على تلك المجموعات، وخلق حالة من التبعية السياسية في عدة أمور، أهمها محاولة خلق ظهير شعبي عريض يتسم بقدر من البساطة الدينية، والسذاجة السياسية، وهو ما يضفي نوعا من المشروعية الدينية على حكم وقرارات الساسة، كلما اقتضت الحاجة. فإذا كانت كل من السلفية الدينية والصوفية اختلفتا في كل شىء، إلا أن الرابط الأهم، ومحل الاتفاق الوحيد بينهما هو طاعة ولاة الأمر وعدم الخروج عليهم بأي حال من الأحوال، أو كما ورد في الأثر (ولو جلد ظهرك وأخذ مالك).
أما الأمر الثاني -والذي لا يقل أهمية- للسعي للسيطرة على الطرق الصوفية، فهو الاستفادة من الامتداد والانتشار الجغرافي الواسع لتلك الجماعات داخل القطر الواحد. فالطريقة الصوفية الواحدة على الرغم من مركزيتها المتمثلة في شخصية (شيخ الطريق)، إلا أن للشيخ نوابه الذين يعملون على نشر طريقته وأفكاره في الدواوين والمحافظات المختلفة، مع الاحتفاظ بمركزية التوجيه واتخاذ القرارات المختلفة.
ففي الصراع السياسي الذي شهدته مصر في أعقاب ثورة 25يناير 2011، ولاسيما في جولة الإعادة التي جرت بين الفريق أحمد شفيق، ومرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي، تم اللعب على اكتساب الدعم الصوفي الطرقي على الأقل من طرف المرشح أحمد شفيق ،الذي ذهب إلى صعيد مصر ليمتطي صهوة حصان على طريقة خلفاء الطرق في المواسم الدينية ،وتلفه شارات وبيارق وأعلام الطرق الصوفية، وهو ما انعكس على التوجيهات المركزية للعديد من الطرق لمريديها عبر المحافظات المختلفة لصالح شفيق ضد مرشح الإخوان الذي عٌد –من وجهة نظرهم- مٌرشحا للسلفية الوهابية.
ولا يخفى على أحد كيف استطاع حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجب طيب أردوغان الوصول إلى السلطة وخلق ظهير شعبي قوي من خلال التقارب مع الامتداد التاريخي وممثل «جماعة النور» لبديع الزمان سعيدالنورسي (1876-1960) ونعني به «فتح الله كولن» وحركة الخدمة، والتي سعى للتخلص منها وقطع أذرع تأثيرها السياسي بعد استتباب أمر سلطته.
تأثير عابر للحدود
لكن الاستفادة من فكرة التمدد الجغرافي وتوظيفها سياسيا لم تتوقف عند رغبة التأثير داخل أرجاء البلد الواحد، وإنما امتدت إلى محاولة توظيف الامتداد الجغرافي لبعض الجماعات الصوفية داخل الأقطار المختلفة، وهو ما يعني القدرة على النفاذ إلى سياسات البلدان المجاورة والتأثير في صياغة سياساتها الاقليمية.
كان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1876 – 1909) قد تأثر شخصيا بالتصوف وبالتحديد بالطريقة الشاذلية، حيث كانت لشيخها محمود أبو الشامات مكانة خاصة لديه استمرت حتى وفاته، بالإضافة إلى ما عٌرف عنه من هوس بالتنبؤ بالمستقبل والاعتماد على العرافين في اكتشاف مصير مٌلكه المهدد.
السلطان العثماني عبد الحميد الثاني
لكن هذا لم يكن المسعى الوحيد لتلك العلاقة القوية التي ربطت بين سلطان العثمانيين وبين جماعات المتصوفة أو بين وزارة الصدر الأعظم في أسطنبول وتكايا وخنقاوات المتصوفة في حواري وأزقة القاهرة ودمشق، والتي كانت تتلقى الدعم للإنفاق على مقيميها من الفقراء والمريدين.
فقد رأى السلطان عبد الحميد فى الصوفية ومشايخها وسيلة قيمة لنشر سياساته بشأن الوحدة الإسلامية، ونشر شعار الجامعة الاسلامية في الميدان السياسي مستفيدا مما تملكه جماعات المتصوفة من شعبية واسعة في العالم الاسلامي من تركستان حتى شمال افريقيا.
وبعد ذلك رأت القوى الإستعمارية الأوروبية فى الصوفية أداة للإحتفاظ بعلاقات طيبة مع المجتمعات الإسلامية. وهكذا تعرضت الطرق الصوفية لكثير من النقد بسبب علاقاتها بالإدارة البريطانية الإستعمارية، وبعد الإستقلال وتكوين الدول القومية فضلت معظم البلاد العربية أن تضم الطرق الصوفية إلى تركيبتها السياسية الجديدة.
وربما عول البعض عليها في تمرير مشروعات وطموحات سياسية، فقد أثبتت الوثائق الدور الذي لعبة الشيخ «حسين الجنيدي» عضو مجلس الأمة في الحقبة الناصرية وشيخ الطريقة الجنيدية في التمهيد الشعبي لمشروع الوحدة (المصرية- السورية) إذ كان الشيخ المصري الجنسية ذا أصول سورية، وتربطه علاقات وطيدة بالعديد من القبائل والعائلات السورية، ولطريقته امتداد هام وحيوي في عدد من المدن الكبرى داخل الأراضي السورية.
لا زالت أنظار العديد من القوى السياسية المحلية والعالمية تتجه إلى جماعات المتصوفة في تنفيذ العديد من الأجندات السياسية للقوى الإقليمية والعالمية، سواء فيما يتعلق باستخدامها كبديل (معتدل) لحركات الإسلام السياسي من قبل بعض الدوائر الغربية، أو فيما يبدو واضحا من علاقات السياسة الإيرانية ببعض الطرق الصوفية في المنطقة العربية بغرض التأثير في السياسة الداخلية لبعض الدول العربية، والمساهمة في صياغة السياسة الإقليمية ككل.