لم تكن مشاركة المرأة المصرية في يناير 2011 بكل هذا الحضور الطاغي، وهذا النشاط الملحوظ، هي المشاركة الأولى لسيدات وفتيات مصر في الثورة على الطغيان، ولم تكن منقطعة السياق عن مشاركاتها المهمة التي سجلها التاريخ المصري الحديث ضمن أروع وأنصع صفحاته، أشهرها ذلك الدور المشهود الذي قامت به المرأة المصرية في الثورة الشعبية الكبرى سنة 1919، وفي كل تحرك ثوري شعبي كانت للمرأة أدوارها المميزة فيه، ومن أنصع صفحات تاريخ «الثورة العرابية» تلك التي تسجل ـ ربما للمرة الأولى والأخيرة ـ هذا الدور البارز الذي قامت به «الأميرات الثائرات» حين اقتحمت الثورة الأسرة الخديوية نفسها، وانحازت الأميرات إلى الزعيم «عرابي» علانيةً، وعبَّرن بوضوح عن كراهيتهن لخيانة الخديوي «توفيق».
الحق أنني حين طالعت تلك الصفحة من سجلات التاريخ فوجئت بحجم واتساع هذا الدور الذي لعبته سيدات مصر في القضية الوطنية إبان الاحتلال البريطاني سنة 1882، هذا الاتساع الذي شمل إلى جانب النساء المصريات في شتى المواقع تلك المشاركة الفعالة لأميرات وهوانم الأسرة الخديوية نفسها، وهو الدور الذي شهد له وبه المحامي الإنجليزي الذي دافع عن «عرابي» وصحبه، وهي شهادة تعطينا ـ بدون شك ـ صورة حقيقية – ومن دون أدنى مبالغة – عن حجم وفاعلية هذا الدور الكبير للمرأة في الثورة.
مصر كلها.. مع عرابي
حين أُجهضت الثورة العرابية بتواطؤ الخديوي «توفيق» مع الاحتلال البريطاني وبعد أن دخلت قوات الاحتلال إلى القاهرة كان مصير الزعيم أحمد «عرابي» وزملائه أمام احتمال واحد لا ثاني له، هو الإعدام، وبالفعل صدرت عدة إشارات واضحة، وجرت تحركات وإجراءات تفصح عن أن النية مبيتة على أن الأمور تسير في هذا الاتجاه، ما جعل صديق «عرابي» الحميم «ولفريد سكاون بلنت [1]» يسارع إلى تكليف ثلاثة من كبار المحامين الانجليز ليتولوا مهمة الدفاع عن «عرابي» وهم: أ.م. برودلي وزميلاه ايف ونايير.
وقد قام برودلي بعد انتهاء المحاكمة التي انتهت إلى نفي «عرابي» إلى جزيرة سيلان بتأليف كتاب يُعد مرجعاً أساسياً عن تلك المحاكمة التي وصفها برودلي بأنها كانت محاكمة صورية هزلية، وقد جاء كتابه تحت عنوان: «كيف دافعنا عن عرابي وصحبه ـ قصة مصر والمصريين»، وقام عبد الحليم سليم بترجمة الكتاب سنة 1983 في ذكرى مرور مائة سنة على صدوره، وصدرت الترجمة عن الهيئة العامة للكتاب سنة 1987 في كتاب يتصدر غلافه صيحة جماهير مصر زمن الثورة: «الله ينصرك يا عرابي».
يعلق برودلي الذي حضر مشهد نقل «عرابي» وصحبه من السجن إلى المركبات في طريقهم إلى المنفى فيقول: «هؤلاء الذين كانت ثروة مصر تحت أيديهم يذهبون إلى المنفى لا يحملون معهم إلا ملابسهم التي كانوا يرتدونها، والراتب الزهيد الذي صرفته لهم الحكومة المصرية»، ثم يضيف: «باستثناء الخديوي وأمه قلَّ أن تجد رجلاً أو امرأةً من الأسرة الحاكمة لم يبعث ل«عرابي» يعرض عليه مالاً أو يرسل تلغرافات أو خطابات كلها مديح لزعيم الأمة، ويختم فيقول: «إن مصر كلها كانت في تلك اللحظة مع عرابي».
شجاعة الأميرات
من بين هؤلاء الذين التفوا حول الثورة العرابية كانت أميرات الأسرة الحاكمة التي أفرد لهن برودلي فصلاً[2] في كتابه تحت عنوان:« سيدات مصر والوطنية المصرية»، يقول في مطلعه: «ليس في الشرق بلد يبدو فيه نفوذ المرأة واضحاً جلياً كما يبدو في مصر، ولعله لم يكن للمرأة نفوذ له قوته كدافع في شئون الدولة مثلما كان نفوذ المرأة في مصر، ولقد وجد «عرابي» بين سيدات مصر بعضاً من أكثر أشياعه وطنية ونفوذاً، ولقد أيدت الأغلبية العظمى من سيدات مصر القضية الوطنية تأييداً حاراً منذ مراحلها الأولى، وقد استمررن في تأييدها حتى صار الأمل منها ميئوساً.
ولم يكن سراً أن أعلنت أميرات الأسرة الخديوية (باستثنائنا على الدوام لأم الخديوي وزوجته) تعاطفهن القوي مع «عرابي». وقد ذكرت الوقائع الرسمية حتى اليوم الذي أعقب ضرب الإسكندرية الهدايا المجانية من الخيول التي وهبتها للجيش «أم الخديوي إسماعيل» المسنة، وابنتها الأميرة «جميلة هانم» وشُكلت اتحادات تحت رعايتهما لنجدة وإغاثة الجرحى، وهبت كل فتيات مصر وبنات الأسر الكبيرة لجمع التبرعات وبذلها، وجمعن تبرعات كبيرة، وألفن فرقة لتحضير الضمادات ولوازم الجرحى لإرسالها للأطباء الذين يعملون في الخطوط الأمامية في معركة كفر الدوار.
لقد كان تأييد النساء المحجبات في الحريم هو الضربة القاضية على حجج الذين كانوا ينكرون على حركة «عرابي» أنها ثورة شعبية شاملة، ويقول برودلي: حدث بعد انتهاء محاكمة «عرابي» الصورية أني دهشت لأن يزورني خادم أمين من طرف الأميرة «انجي» أرملة[3] «الخديوي السابق سعيد باشا» والتي تعد واحدة من أكثر النساء حباً لعمل الخير، وأكثرهن شهرة في مصر، وكان الخادم يحمل رسالة من سيدته تظهر إلى أي مدى وصل تأييد «عرابي» داخل البلاد، حيث حوت الرسالة الكثير من أطناب المديح لما قمت به دفاعاً عن «عرابي» وصحبه، كما جاءني بالكثير من الهدايا الثمينة الفاخرة لي ولمستر نابيير مساعدي في الدفاع.
هذه هي الرسالة التي ذكر «عرابي» نصها في مذكراته يقول: «لما أنقذنا الله سبحانه وتعالى من مخالب الموت فرح المصريون الأحرار فرحاً عظيماً خصوصا أحرار العائلة الخديوية، وكتبت صاحبة الدولة ومثال الكمال انجي هانم حرم المرحوم محمد سعيد باشا والي مصر الأسبق إلى مستر برودلي المحامي عنا تشكره للدفاع في قضيتنا بما يأتي:
«جناب المستر برودلي المحامي، بعد اهدائك تسليماتي وتشكراتي لشخصك الكريم، انتهز هذه الفرصة لأن أصرح لكم بأن بلاد مصر تشرفت بمجيئكم إليها، وأنا وجميع أهلها مسرورون من أعمالكم لأنكم دافعتم عن قضية العدالة والإنسانية، ونحن المصريات والمصريون نبتهل الى الله في كل أيام حياتنا أن يوفقكم وينجح مقاصدكم، كما ندعو الله أن يلطف بهذا البلاد.
إنك بدفاعك عن أبناء هذا البلد الذين (سعوا لخيرها ودافعوا عنها) قد جعلتم إنجلترا محبوبة عندنا، لأن «انجليز» – تقصد برودلي ورفيقيه – عطفوا علينا في حزننا ومصيبتنا. وإني لأشكر جناب المستر بلنت بقلب خالص لطيبته وانعطافه نحونا، وجميع المصريين مسرورون من الاخبار التي دلت على أعمالكم، ولا يجرؤ أحد على تأييد العكس مع انبلاج نور الحقيقة. وإني لعاجزة حقيقة عن توضيح تشكراتي. مصر في 18 ديسمبر سنة 1883. توقيع: «انجي».
برودلي (المحامي الانجليزي) وأحمد عرابي
الأميرة انجي هانم لم تكن وحدها في تلك الوقفة الوطنية، بل وقف موقفها نفسه الكثيرات من أميرات الأسرة الخديوية، ويحكي مستر برودلي في كتابه فيقول: «بعد الرسالة التي تلقيتها من «انجي هانم» ببضعة أيام كان لي شرف الاستماع إلى «أميرة» أرادت أن تحدثني حديثاً غير متحفظ عن المشاعر الحقيقية للأسرة الخديوية فيما يتصل بأسباب ونتائج الأحداث الراهنة في مصر.
وكانت تتدفق بحماس وهي تروي لي وقائع ما جرى خلف الأسوار، قالت إن كل فرد منا كان يتعاطف سراً من بادئ الأمر مع «عرابي»، لأننا كنا نعرف إنه لا يسعى إلا لخير المصريين، لقد اعتقدنا حيناً أن «توفيق» نفسه كان أيضاً يؤيد «عرابي»، ولهذا أحببناه في البداية، ولكن عندما اكتشفنا أن «توفيق» يكيد لعرابي، ويقصد خيانة مصر، كرهناه من قلوبنا، ولقد بذل «الخديوي» جهداً كبيراً من أجل أن يستميل عطف سيدات وبنات الأسر الكبيرة عن طريق أمه وزوجته، ولكن بلا جدوى، لقد واجهته الأميرة «انجي» التي نبجلها جميعاً، مرتين، وبمنتهى الوضوح قالت له رأيها فيه، وفي تصرفاته السياسية، لكن للأسف لم ينصلح حاله، بأية صورة.
ثم ما لبث «توفيق» بعد ذلك أن ذهب إلى الإسكندرية، وبعدها سمعنا أنه انحاز تماماً إلى الانجليز، وبدأت الاجتماعات النسائية في الحريم، واستقر رأينا جميعا منذ تلك اللحظة أن نتطلع فقط إلى «عرابي» للدفاع عن البلد، وانعقدت اجتماعات من كل كبراء مصر في القاهرة حضرها الأمير إبراهيم والأمير كامل والأمير أحمد واستقر الرأي بالإجماع على تفويض «عرابي» باستئناف الحرب.
إنجى هانم الزوجة الأولى للخديوي سعيد
الكلام ما يزال على لسان الأميرة الثائرة التي تؤكد على أن الأميرات جميعهن نظرن إلى «عرابي» كمحرر للبلاد، ولم يعرف حماسنا له أية حدود، لقد بعثنا جميعاً إليه خطابات وتلغرافات بأسماء مستعارة لتأييده وتشجيعه، وحدث أن كتبت له إحدانا خطاباً متحمساً غاية في الحماقة، وجهته «إلى منقذ مصر»، وعرضت عليه أن تتزوجه، لتقف إلى جانبه وتؤيده، ورد عليها «عرابي» شاكراً، وطلب منها أن تهتم بشئونها، وتؤدي واجبها الوطني من دارها.
لقد ساهم كل منا في تكاليف الحرب كل حسب امكانياته، وكنا نحن الأميرات مشغولات بجد طول اليوم في إعداد ما يلزم الجنود من أدوية وأغطية وضمادات، وظللنا نعمل بحماس، ونلهب الشعور مع «عرابي» وضد «توفيق» حتى كان اليوم الذي وصل فيه «عرابي» الى القاهرة، سرت إشاعات أنه قد جاء معه برأس الجنرال «وليسلي»[4] والأميرال «سينور»[5]. وطغى الفرح على أجوائنا، ولكن ما لبثنا أن عرفنا الحقيقة المُرة، وأن العكس هو ما حدث، وأن «عرابي» قد مُني بهزيمة ساحقة، واستولى علينا ذهول وحزن أليم، واستغرقنا في بكاء مستمر حتى بلغت حالتنا مبلغ اليأس الأليم.
وحينما عاد «توفيق» من الإسكندرية منتصراً مزهواً إلى القاهرة توقعنا أن يصب العذاب والغضب على نصيرات «عرابي»، وبالفعل ما أن وصل حتى أرسل إلى الفتاة التي كانت أرسلت خطاباً إلى «عرابي»، وأعلن أنه سيذيقها العذاب المُر، لولا أن تدخلت أمها وأعلنت بجرأة أنها هي التي كتبت الخطاب وختمته بخاتم ابنتها، فكان مآلها الطرد بعد ذلك، وحينما خرجت الأم وابنتها من عند «توفيق» التقيا بالأغا الذي أبلغ الخديوي بقصة الخطاب، ووشى بهما إليه، فأمسكت الأم بكرسي وضربته على رأسه، ثم انهالت عليه ضرباً، وأخذت تجري وراءه في أنحاء السراي والدم ينزف منه تريد أن تفتك به نهائياً.
الخديوي توفيق
ولم نلبث طويلاً حتى صدرت لنا جميعاً الأوامر بالذهاب إلى القصر، بعد ما دلّه جواسيسُه علينا، وكان أكثرنا يرتجف من الخوف، وذهبنا فوجدنا «توفيق» يجلس وإلى جواره أمه، وما أن اكتمل عددنا حتى انهالت علينا أمُه بأقذر وأقذع السُباب، وأعلنت لنا في تشفٍ أن بطلنا «عرابي» سيسلمه الإنجليز إلى الخديوي لكي يعدم ببطء على الخازوق.
وقرأت علينا أم الخديوي قائمة بأسماء زعيمات حركتنا، وقالت إنه قد تقرر إعدامهن، وسرى فينا الرعب، وظللنا خائفات بضعة أيام حتى تحققنا أنه لا «توفيق» ولا أمه يستطيعان أن يحركا اصبعاً بغير موافقة أسيادهما الانجليز. وحينما عُرف في القصر أن حياة «عرابي» قد أُبقي عليها، وأنه سينفى، استسلمت نساؤه لحزن وكآبة شديدين كما لو كان الموت قد حل بالأسرة فجأة، بينما لبست أم «توفيق» الحداد، وسرى الوجوم والحزن في السراي، وصاروا يكرهون الانجليز الآن أكثر من كراهيتهم لنا، وأخذنا نحن بدورنا نتشفى فيهم.
واختممت الأميرة كلامها وهي تقول بكل حماس: «أحب أن أقول لك إن رأينا حول المستقبل كان رأياً إجماعياً على أنه ما دام «توفيق» يحكم مصر فلن يكون هناك سلام لا لكم ولا لنا ولا لمصر كلها».
الخديوي الخائن
يختتم برودلي قصة «الأميرات الثائرات» بقوله: قابلت «توفيق» بعدئذٍ وفي حديث طويل معه صرح لي: بأنه كان يستطيع أن يعيش في سعادة وفي سلام لولا شيئين هما أشد ما في مصر خطراً عليه وهما أقلام الصحفيين وألسنة النساء.
ويخلص المحامي الانجليزي برودلي إلى أن «توفيق» كان يمكنه أن يتزعم الوطنيين، وأن يكتسب ثقة الشعب المصري، ولكنه أهدر هذه الفرصة، وأخذ يناور ويداور حتى أصبح عبداً لبريطانيا، حتى صار أكره رجل على الشعب، وليس له مستقبل، وسيُذكر اسمه في التاريخ دائماً باسم الرجل الذي جاء بالإنجليز إلى مصر. لقد جلس «توفيق» باشا مرة في ثبات على سور الوطنية المصرية، ولكنه لم يتخل فحسب عن القضية بل خانها، ثم سقط، ولم تستطع كل خيول الانجليز ولا كل رجالهم أن يعيدوا له حب أو ثقة رعاياه الساخطين عليه.
——————————–
هوامش المقال:
[1] «مستر ولفريد سكاون بلنت» السفير والشاعر والكاتب الارستقراطي الرحالة الذي جاء مصر من أجل السياحة والتمتع بشمسها والتعرف من قرب على آثارها، لكن طالباُ أزهرياً تعرف عليه، واستطاع أن يجنده للدفاع عن الثورة العرابية، وهو البريطاني الوحيد الذي خاض بعمق في التعرف على تاريخ مصر كله، وله كتاب لا يستغنى عنه في فهم الفترة نفسها تحت عنوان «التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي لمصر ـ رواية شخصية للأحداث» ، وقد ساند «بلنت» الحركة الوطنية المصرية من بداية الثورة العرابية حتى ثورة سنة 1919، وكان صديقًاً حميماً لأحمد عرابي، ومن بعده مع مصطفى كامل ومحمد فريد ثم مع سعد زعلول، وقدر له الزعماء المصريون مواقفه المؤيدة للقضايا المصرية المحقة وأصر سعد زغلول على أن يضع باقة من الزهور على قبره في مقاطعة «ساسكس» بعد وفاته في10 سبتمبر سنة 1922.
[2] الفصل الثامن والعشرون بعنوان «سيدات مصر والوطنية المصرية”، من ص 307 إلى ص 313، من كتاب «كيف دافعنا عن عرابي وصحبه ـ قصة مصر والمصريين» تأليف المحامي الإنجليزي برودلي.
[3] «انجي هانم» هي الزوجة الأولي للخديوي سعيد الابن الرابع لمحمد علي باشا، تزوجها سنة 1854 ولم يرزق منها بأولاد. وطلقها سنة 1863، توفت يوم 5 سبتمبر سنة 1890 ودفنت في الإسكندرية.
[4] الجنرال «ويسلي» قائد قوات الاحتلال البريطاني لمصر.
[5] الأميرال «سيمور» قائد الأسطول البريطاني في الحملة على مصر سنة 1882.