«كانت سلفيتنا تمردًا على الاستعمار الذي هاجمنا في عقر دارنا واحتقر مقدساتنا».. تلك بعض من كلمات علال الفاسي زعيم الحركة الوطنية الاستقلالية بالمغرب.
على عكس «التجربة السلفية المصرية»، تأتي تجربة السلفيين في المغرب مع السياسة محملة بتراث سياسي يختلف نسبيا عن التراث السياسي للسلفيين المصريين. في كتابه «السلفيون والسياسة» تتبع الراحل الدكتور«محمد حافظ دياب» أستاذ علم الأنثروبولوجيا السابق بجامعة بنها، طبيعة العلاقات المتشابكة بين السلفيين والسياسة، مستعرضا عددا من التجارب من بينها «الحالة المغربية»، في محاولة منه للتعرف على أهم معالم المشروع السلفي المغربي والذي يتمايز عن غيره من المشروعات السلفية بالبلدان الأخرى بارتباط حركته بحركة التحرر الوطني من الاستعمار الفرنسي الذي كان يسيطر على المغرب.
مقاومة الاستعمار
يبدأ الدكتور دياب دراسته حول السلفيين في المغرب بالإشارة إلى أن المغرب بتوقيع معاهدة الحماية مع فرنسا عام (1912) أصبح محكوما بالسيطرة الإمبريالية، وإن لم يتمكن جيش الاحتلال الفرنسي حتى عام 1934 من بسط نفوذه على كامل التراب المغربي. وقد كان للسلفيين المغاربة دورا مهما في مناهضة الاستعمار الفرنسي، شأنهم في ذلك شأن مختلف القوى الوطنية المغربية.
ويدلل دكتور دياب على تلك العلاقة بين «سلفيي المغرب» والحركة الوطنية المغربية المناهضة للاستعمار، بشهادة زعيم الحركة الوطنية الاستقلالية علال الفاسي (1910-1974) والذي نُفِىَ مرتين خارج المغرب، ودامت مدة نفيه حوالي عشرين عاما، والتي يقول فيها: «ليس من الممكن لمؤرخ الحركة الاستقلالية في المغرب، أن يتجاهل هذه المرحلة العظيمة ذات الأثر الفعال في تطوير العقلية الشعبية ببلادنا، ومن الحق أن نؤكد أن امتزاج الدعوة السلفية بالدعوة الوطنية، كان ذا فائدة مزدوجة في المغرب الأقصى على السلفية وعلى الوطنية معا».
زعيم الحركة الوطنية الاستقلالية علال الفاسي
يضيف دياب أن مقاومة الاستعمار الفرنسي ساعدت على «تجميد التناقض» بين التيارات الفكرية الإسلامية بالمغرب، وهو ما أدى لحالة من «المصالحة المؤقتة» بين الدين والسياسة، ومن ثم لم تكن بداية تأسيس الأحزاب بالمغرب وليدة مطلب اجتماعي، بقدر ما كانت ضرورة نضالية لمقاومة المستعمر. وقد برز من بينها «حزب الاستقلال» الذي نشأ في (1943) بزعامة «علال الفاسي» مؤسس ما عرف بـ «السلفية الجديدة».
يلفت دياب النظر إلى توقف الباحث المغربي «عبد المجيد الصغير» أمام مفارقة رفض «علال الفاسي» النظري للحكم الوراثي، وتأييده للعرش المغربي في ذات الوقت، معللا ذلك باستحضار الإطار الفكري الذي ينتسب إليه الفاسي، والذي تطغى عليه روح مقاصد الشريعة والقواعد الأصولية المعروفة بمراعاتها للواقع ولجزئياته الاستثنائية، من منطلق أن هذا الفكر «يساند ظاهريا حكم المتغلب المستبد ما دام يحفظ الإسلام ويدفع الخطر الخارجي، بينما هو في العمق يدين الحكم الاستبدادي باعتباره خارجًا عن شروط العدالة الواجب توافرها»
الباحث المغربي عبد المجيد الصغير
تباين واختلاف.. بعد الإستقلال
لكن الزخم الذي صاحب دور السلفيين إبان معركة الاستقلال في المغرب، ما لبث أن خفت فيما بعد، وحل محله التباين الشديد بين مختلف الفصائل السلفية، وبرز من بينها ثلاث فصائل رئيسة: «سلفية الولاة، سلفية الدعاة، سلفية الغلاة».
وفي تناوله لما عُرف بـ «سلفية الولاة» يطرح حافظ دياب تساؤلا مؤداه: «ما الذي دفع علماء المغرب الإسلامي، البعيد جغرافيًا، إلى الانخراط في حركة انحصر انتشارها وتأثيرها في شبه الجزيرة العربية وأطرافها في المشرق العربي؟».. يجيب دياب على هذا التساؤل بالإشارة إلى وجود فئة من السلفيين بالمغرب رضخوا لرياح المشروع السلفي الوهابي، خلال مرحلة تعاظم الوفرة النفطية التي ميزت بلدان الخليج. وقد مثل هذا التيار «محمد عبد الرحمن المغراوي»، مؤسس «جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة» في مدينة مراكش سنة 1975، والمشرف على تأسيس أكثر من مائة مدرسة قرآنية بمختلف المدن المغربية بتمويل خليجي، ومباركة من السلطات المغربية.
محمد عبد الرحمن المغراوي
من جانب آخر يتجلى موقف «جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة» من السلطة عبر رفضهم التام لكافة أشكال الاحتجاج الاجتماعي المناوئ للسلطة، مثل الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات، ذلك أن منهجهم يقوم على الاستماع الدائم لولي الأمر، ومن ثم فإن الجهاد وفقا لهم لا يتأتى عبر الإضراب وإنما عبر التقرب من الله.
يضيف دياب أنه وحتى تضمن هذه الجماعة تحقيق مبدأ الامتثال السياسي، فإنها ترفض اشتغال أتباعها بالسياسة في جميع مستوياتها، وبناء عليه يتم طرد أي عضو منها يُظهر أي نزوع سياسي غير امتثالي، وهو ما نجم عنه انفصال عدد من الاتباع الذين أسسوا سنة (1992) جمعية «الحفاظ على البر» التي رأسها جمال أسطيري، وقد وجهت تلك الجمعية اهتمامها إلى ضرورة تغيير واقعها كي تتجاوز بعض الخلل الذي رأت أن بعض المشتغلين بالدعوة يعانون منه، وعلى هذا الأساس تبنت جمعية «الحفاظ على البر» رؤية دعوية تقوم على الإعتناء بالتربية الأخلاقية وفقا لما تقتضيه سماحة الدعوة الإسلامية.
جمال أسطيري
أما«سلفية الدعاة» فيصفها دياب بكونها «سلفية علمية، معتدلة، وإصلاحية» استطاعت مع مطلع التسعينات أن تستقطب عددا من رموزها، ممن كانوا تلامذة للشيخ «تقي الدين الهلالي» في السبعينات والثمانينات، وهى تتميز بعدم خوض أي مواجهات مع الحركة الإسلامية، إلى جانب العمل على تأكيد الخط الإيجابي والإصلاحي داخل الطرح السلفي.
تقي الدين الهلالي
النموذج الثالث «سلفية الغلاة» ويُرجع دياب نشأة هذا النموذج من السلفيين بالمغرب إلى بداية عقد التسعينات، في أعقاب حرب الخليج الأولى عام (1991)، حين ظهر من داخل التيار السلفي رموز تعلن الجهاد ضد الأمريكيين. ولدى أصحاب هذا الاتجاه، يُعتبر الاحتكام للدساتير شركا، وأن الديمقراطية ليست هى الطريق الصحيح لنصرة الإسلام، وأن شرع الله تم إقصاءه لصالح القوانين الوضعية «الكافرة»، وأن حكام البلاد الإسلامية «دعاة إباحة وانحلال وفجور، ما يوجب إعلاء راية الجهاد».
وتنشغل «سلفية الغلاة» في المغرب بقضيتي الحكم والتكفير، وقد عُدَّت جزءا من موجة عربية ارتبطت بتنظيمات الجهاد في مصر، والجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر، ومن أبرز رموزها محمد الفيزازي الذي أصدر كتيب «عملاء لا علماء» انتقد فيه «سلفية الولاة».
محمد الفيزازي
يلفت دياب النظر إلى تعدد فصائل تيار السلفية الجهادية بالمغرب، فمنهم تيار التكفير والهجرة، وتيار التكفير بدون هجرة، وتيار التكفير بالحاكمية. وتتعيش بعض هذه الجماعات الجهادية على تهريب المخدرات وفرض الإتاوات والأعمال الإجرامية الأخرى، كما تسعى إلى السيطرة على المساجد.
ومن جانب آخر كان بعض أمراء السلفية الجهادية يبيحون السرقة وضرب المؤسسات والمصالح للحصول على المال وخاصة البنوك وذلك انطلاقا من اعتبارهم المجتمعات الإسلامية «كافرة»، ومن ثم فانهم يستحلون «الدماء والأموال».
يختتم دكتور حافظ دياب استعراضه لحالة السلفيين بالمغرب بالإشارة إلى حديث الإسلامي المغربي «فريد الأنصاري» الذي انتقد فيه سلفيي المغرب قائلا: «حري بمن تأثروا بالدعوة السلفية الوهابية من المغاربة، أن ينتبهوا إلى الخصوصية العقائدية والمذهبية المغربية، لكنهم لم يفعلوا، بل نقلوا كثيرا من الأقوال الحنبلية نقلا حرفيا، على أنها هى الكتاب والسنة، لا على أنها ضرب من الفقه للكتاب والسنة، سواء في ذلك ما هو حنبلي محض، أو ما هو مخرج على قواعد الحنبلة».
فريد الأنصاري
سيناريوهات مستقبلية
يخلص الدكتور دياب في رؤيته حول مستقبل «الحركة السلفية» إلى أنه رغم تباين مواقف الحركة السلفية من المشاركة السياسية، فإن تحول بعضها نحو العمل السياسي والحزبي كما حدث في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، لم يصحبه إعلان صريح وواضح من قبلهم بتبني الديمقراطية بوصفها نظاما نهائيا، بل باعتبارها نظاما انتقاليا يسعى نحو تطبيق الشريعة الإسلامية، والتي تمثل الهدف المعلن والواضح لدى كافة أطياف السلفية، وإن اختلفوا في طريقة الوصول لتحقيق الهدف.
ويطرح الدكتور دياب عدة سيناريوهات مستقبلية للحركة السلفية المغربية والحركة السلفية في المنطقة بشكل عام، ويبرز من بين السيناريوهات المتعددة التي طرحها سيناريوهان مهمان: يتمثل الأول في تجذر الصراع العلماني الإسلامي واتخاذه أبعادا اجتماعية وسياسية قد تؤدي إلى حظر الأحزاب السلفية في المستقبل، ومن ثم يعود السلفيون مرة أخرى للانكفاء نحو العمل الاجتماعي والدعوي.
أما السيناريو الثاني «المثالي» فيتمثل في خروج المشهد السياسي برمته من مأزقه، عبر تكريس نظام ديمقراطي، تشارك فيه القوى والأحزاب السلفية، مع تطوير خطابها السياسي والأيديولوجي للقبول بقيم «لعبة الديمقراطية» ومخرجاتها، وهو ما قد يعزز احتواء السلفيين، ومن ثم استدراجهم نحو خطاب أكثر واقعية.