امرأة جميلة، إسبانية المولد، فرنسية النشأة، أوروبية التعليم، شرقية القلب، مصرية السيرة، إنها تلك الفاتنة التي بقيت بقوة في صفحات التاريخ المصري الحديث، بعد أن كانت لها في المحروسة حكايات تستحق أن تروى… عن الإمبراطورة أوجيني.. نتحدث
الاسم الملوكي العظيم، والسيرة الإمبراطورية، والحكايات الأسطورية، والرحيل الباهت، هكذا يمكن أن نلخص تاريخ تلك المرأة الفاتنة، منذ ميلادها في 5 مايو 1826 إلى رحيلها في 11 يوليو 1920، عابرة أحداثا عظمي قلبت تاريخ العالم، كالحرب الروسية الفرنسية، أو افتتاح قناة السويس، أو الحرب العالمية الأولي.
ولدت أوجيني بغرناطة في أسبانيا، وربما يفسر هذا سر قربها من الشرق، حيث لا نزال نبكي على أطلال الإندلس.. اسمها الكامل «أوجيني دي مونيتو كوتيسه»، درست وتلقت علومها في فرنسا، وأجادت الكثير من اللغات كالإسبانية، الفرنسية والإنجليزية، وربما تكون قد أتقنت بعض الكلمات العربية عشقًا لمصر.
بسبب جمالها وذكائها، تزوجها إمبراطور فرنسا «نابليون الثالث»، في شهر يناير عام عام 1853، لمدة سبعة عشر عامًا، وأقامت معه في قصر التويلري دالاس بباريس.
إمبراطور فرنسا «نابليون الثالث»
نفوذ سياسي
إذا كان جمال الإمبراطورة أوجيني لا يقارن كما تذكر الكثير من الكتب التاريخية، وهو ما جعلها شخصية آسرة وجاذبة، فإنها في الحقيقة كانت صاحبة شخصية قوية وحازمة، ما جعل التاريخ يفتح لها بابا لتتبع أدوارها السياسية التي لا يمكن إغفالها، فهي التي انهت عصرا من الحروب بين قطبي أوروبا في القرن «السابع والثامن عشر» فرنسا وانجلترا، حين زارت الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس برفقة زوجها «نابليون الثالث» منهية فترة خصومة طويلة، وردت الملكة فكتوريا وزوجها البرت الزيارة، وهنا شعر الشعب الفرنسي إنه أمام امبراطورة حقيقية، فزادت شعبية أوجيني لدرجة أن الشعب الفرنسي أطلق على ابنها الذي ولدته «ابن فرنسا».
الإمبراطورة أوجيني
وبسبب ذكائها وجمالها أصبح لأوجيني حساد وكارهون، وبسبب أنها كانت سياسية ماهرة حاول الناقمون عليها اغتيالها، وتقول المصادر التاريخية إنها قد تعرضت ذات ليلة باردة من ليالي شهر يناير عام 1858م لمحاولة اغتيال أثناء ذهابها هي وزوجها لدار الأوبرا، حيث تم إلقاء ثلاث قنابل على عربتها في الموكب، لكن القنابل انفجرت أسفل عجلات المركبة التي كانت تستقلها وزوجها، وقتل عدد من الحراس والحاشية.
وبمرور الأيام ازداد نفوذ الإمبراطورة على حساب نفوذ الإمبراطور، فقد تمرست في أمور الحكم والسياسة، وزادت في نفوذها وسطوتها، وآثرت أن تستمتع بهذا النفوذ وتلك السطوة.
أوجيني في مصر
زارت أوجيني مصر، وأحبتها، ووقعت في عشقها و في عشق تاريخها وشعبها وحكامها أيضًا. كانت البداية هناك بفرنسا، حيث يذكر أن أوجيني ولعت وشغفت بالآثار المصرية من خلال عرض أقيم في باريس عام 1867، وقد عرض فيه بعض من آثار الأقصر ومعبد دندرة بقنا، ومن حينها أصبح قلب أوجيني معلقًا بمصر، ووقعت في غرام أم الدنيا.
حتى جاء حفل افتتاح قناة السويس، وفي 23 أكتوبر 1869، وقبل افتتاح القناة بقرابة شهر كامل في يوم 16 نوفمبر 1869، لامست أقدام أوجيني أرض مصر، بدعوة خاصة من الخديوي اسماعيل.
الخديوي اسماعيل
جاءت الإمبراطورية الجميلة دون زوجها إلإمبراطور، والذي كانت الصراعات والحروب حوله آنذاك تفتك به وبفرنسا، وقد بالغ إسماعيل في الاحتفاء بالإمبراطورة دون جميع المدعويين. فمنذ أن خطت على أرض مصر، وقف الخديوي في استقبالها بميناء بورسعيد، وأول شيء فعله هو أنه أمر بإطلاق اسمها على الرصيف الذى رست عليه سفينتها.
كانت أوجيني آنذاك في بدايات الأربعينيات من العمر، وبالتحديد في الثالثة والأربعين، أي امرأة مكتملة، ناضجة، متألقة، وساحرة أيضًا، وتعيش حياة بذخ غير عادي، وهي التي عُرفت بأنها ما لبست في قدمها حذاء إلا مرة واحدة مهما كان ثمنه باهظا.
بدأت أوجيني زيارتها لكثير من الأماكن داخل مصر، حيث زارت الأقصر وآثارها، ثم كان انبهارها بمظاهر الترف والبذخ في احتفالات قناة السويس، فقالت: «لم أر في حياتي أجمل ولا أروع من هذا الحفل العظيم».
احتفالات قناة السويس
فهل كان اسماعيل يريد أن يجذب نظر حبيبة قديمة. حيث تذكر بعض الحكايات أنه قد أحب أوجيني بفرنسا أثناء دراسته لمدة ثلاثة سنوات، ولم تكن حينها قد اصبحت إمبراطورة؟.
قصر الجزيرة
تزخر شوارع القاهرة بالكثير من الحكايات التي كانت بطلتها الإمبراطورة «أوجيني». تقف في مقدمتها بالطبع شوارع المنطقة الواقع بها «قصر الجزيرة» الذي أصبح الآن أحد الفنادق الشهيرة في منطقة الزمالك، هذا القصر أنشأه الخديوي اسماعيل في عام 1869م، بعد أن اجتمع مع عدد من مهندسي وخبراء المعمار وإنشاء المدن بعدة دول أوروبية، لتحقيق حلمه بتشييد صرح عملاق في أحد الأحياء الراقية بالقاهرة، وعلى شاطيء النيل، ليتباهي به أمام ضيوفه القادمين لحفل افتتاح القناة.
قصر الجزيرة
وكانت الإمبراطورة قد أخذت بجمالها وفتنتها، موقعها الخاص في قلب الخديوي، فرغب أن يكون القصر على نفس طراز قصر «توليري بالاس» بفرنسا. مضيفا إليه طابعا أندلسيا ربما احتفاء خاصا بأوجيني المولودة في أسبانيا.
قصر الجزيرة
وقد وضع تصميمه المهندس الإلماني «جوليوس فرانز»، بينما قام بأعمال الديكور مواطنه المهندس «كارل فون ديتش»، والذي استخدم فيه أفخم الديكورات والإكسسوارات التي جاءت خصيصا من كثير من العواصم الأوربية، وقد تكلف القصر 750 ألف جنيه، وهو رقم خرافي، بمقاييس ذلك الزمان .
قصر الجزيرة
وأمر اسماعيل بأن تزرع حديقة القصر بزهور الكرز، بعد أن أبلغته أوجيني باشتياقها لعطر هذه الزهور، وأثناء زيارتها للأهرامات قام الخديو بإنشاء وتعبيد شارع الهرم خصيصا لتسير فيه الامبراطورة الفاتنة، كما أمر بإنشاء حديقة الجبلاية، والتي تبلغ درجة عالية من الجمال والأناقة، لتتمتع الإمبراطورة بها.
ولم يكتف اسماعيل بذلك، ففي وداعه لأوجيني قام بإهدائها غرفة نوم من الذهب الخالص كهدية تحدثت عنها فرنسا كلها وقتها.
وبعد انتهاء حفل قناة السويس، أمر إسماعيل مارييت مدير هيئة الآثار، بإعداد خيمة كبيرة للطعام، في معبد الكرنك بالأقصر للإمبراطورة أوجيني، ثم تم تغيير الرحلة، بأوامر من الخديوي، لتزور الامبراطورة مدينة إسنا، وقرية دندرة ومعبد الآلهة حتحور وهي الزيارة التي حوتها الكثير من الصور والرسومات. وكل اللوحات التي رسمت لاحتفال قناة السويس، كانت أوجيني تتصدرها، وكأن الحفل أقيم لها خصيصًا.
دندرة
«إشاعة حب».. حقيقية؟
كثير من الإشاعات طالت سيرة الخديوي اسماعيل والإمبراطورة أوجيني، وإنه كانت توجد قصة حب عظيمة وعلاقة بين الخديوي والإمبراطورة.
كل هذه القصص تم نفيها من قبل كثير من المؤرخين. ففي كتابه «مصر حقبة جميلة» ينفي البريطاني «تريفور موستين»، وهو صحفي ومؤلف بريطاني ومستشار إعلامي متخصص في شؤون العالم العربي وإيران والهند. وهو مدير النشر لمنطقة الشرق الأوسط لدار ماكميلان للنشر البريطانية العريقة والضخمة. وجود قصة حب جمعت بين الخديو اسماعيل والإمبراطورة اوجيني، وأن هذه الحكاية ملفقة وغير حقيقية، مؤكدًا أن الزيارة وتفاصيلها لم تكن تعطي فرصة الاختلاء بين الاثنين بصورة منفردة أو حميمية، وأن كل ما حدث أن إسماعيل كان يفتخر بأوجيني ويفتخر بمدينة القاهرة ومصريته، وبالتالي يريد ان تشاهد بعيونها هذا الجمال والسحر.
وهو ما يؤكده عدد من الكتّأب، مثل الدكتور «جابر عصفور» في كتابه «دفاعًا عن المرأة» الذي قال : «إن كثيرا من الإشاعات طالت عصر الخديو اسماعيل، بسبب الأفلام السينمائية، هذه الأفلام هي التي أوحت بوجود قصة حب عظيمة بين الخديوي والإمبراطورة».
جابر عصفور
وتؤكد على هذا الكلام أيضا الكاتبة «لميس جابر»، والمدهش أن الدكتور «مصطفي الحفناوي» يروي في كتابه «قناة السويس» أن قصة الحب كانت بين الإمبراطورة وفرديناند ديليسبس، وأرجع ذلك بأن أوجيني كانت مخطوبة لديليسبس قبل زواجها من إمبراطور فرنسا، وأن ديليسبس هو الذي دعا أوجيني لحضور حفل افتتاح القناة لكن «أنيس منصور» في كتابه «من أول نظرة» أكد أن امبراطور فرنسا غضب عندما وصلته الأخبار بأن أوجيني شجعت الخديو إسماعيل على التمادي في الإعجاب بها، وأن فرنسا تتحدث عن هذا الغرام الذي وقعت فيه مع خديوي مصر.
فرديناند ديليسبس
وإذا كان كثير من المفكرين والكتّاب يؤكدون عدم وجود علاقة حب بين أوجيني وإسماعيل فإننا نميل لرأي أنيس منصور فعندما نشاهد اللوحات التي رسمت والصور التي ألتقطت في حفل افتتاح القناة نعتقد أن هذا الحفل قد صنع من اجل أوجيني فقط.
هروب الإمبراطورة
الشعوب كما تحب.. تكره أيضًا، فلم تنعم فرنسا بالكثير من الراحة بعد الهدوء مع عدوتها اللدود انجلترا، حيث بدأت نيران الحرب «السبعينية» بين روسيا وفرنسا تشتعل، تلك الحروب التي أغرقت الإمبراطور نابليون الثالث في الهزائم الخارجية والمكائد والصراعات الداخلية. ثم قامت الحرب بين فرنسا وألمانيا، وهُزم فيها الإمبراطور نابليون الثالث، فثار ضده الفرنسيون وضد زوجته أوجيني، وهربت الإمبراطورة إلى إنجلترا. تاركه هي وزوجها العرش للأبد.
الغريب أن كثيرا من أصابع الإتهام كانت تشير ناحية أوجيني وإنها هي السبب في تلك الحروب، وأن هذه المآسي التي سقط فيها الشعب الفرنسي كانت بسببها، وبالتالي ثار عليها الشعب الفرنسي، وقام بتعقبها، فلم تجد غير الهرب إلى انجلترا بناء على نصيحة قنصل ايطاليا «السنيور نيجر» الذي طلب منها أن تهرب من أحد أبواب القصر الخلفية وتتجه إلى انجلترا.
وبالفعل هربت أوجيني بجلدها كما يقولون، وقد لحق بها زوجها المهزوم ومعه ابنه لويس. هذه الثورة عليها جعلتها تفر سريعًا، بعد أن قام خدمها ومساعدوها بسرقة ملابسها ومصاغها وهربوا من القصر.
ثم توالت الكوارث على أوجيني، عندما لقي ابنها «لويس» حتفه بعد سنوات كئيبة وهو في ريعان الشباب، فقبعت في منفاها تجتر آلامها دون أن تتدخل في أمور السياسة مرة أخري. لتتشابه نهايتها السياسية إلى حد ما مع إسماعيل، فقد لقيا من شعبيهما، نفس المصير تقريبًا.
أوجيني و ابنها «لويس»
نهاية حزينة
في عام 1905، زارت امرأة عجوز مصر، وظهرت في أحد فنادق بورسعيد، ثم طلبت السفر إلى القاهرة، حتى تشاهد قصر الجزيرة وحديقة الجبلاية، وأثناء تجولها بين تلك الأماكن، بدأت في البكاء، متذكرة الماضي المبهج ورائحة القصور والحدائق التي بُنيت من أجلها. كانت هذه العجوز هي الإمبراطورة أوجيني.
وفي مذكرات «جاويدان هانم» أنه أثناء حكم الخديو عباس حلمي الثاني، كانت تزور مصر سنويا امرأة متشحة بالسواد، وتبدأ مقامها في القاهرة بزياره أرامل الخديوي إسماعيل، هذه المرأة العجوز كانت هي أوجيني إمبراطوره فرنسا السابقة.
جاويدان هانم زوجة الخديو عباس حلمي الثاني
وفي عام 1920، كانت أوجيني قد بلغت الرابعة والتسعين من عمرها، ولم يعد أحد يتذكرها، فسافرت إلى موطنها إسبانيا لتموت هناك منسية وحيدة تاركة خلفها الكثير من الحكايات والاساطير.