ظهور فيروس «كورونا» في الصين، جدَّد في الذهن كيفية تناول الشارع المصري لما يجري من الأحداث، لا سيما الأحداث الخطرة، كالكوارث والطواعين، وجدد الشعور بالقلق حيال الأمر.
فلا يخلو مثل هذا التناول من السذاجة المفرطة والتزيد الشديد والاقتراب من الخرافة والابتعاد التام عن العلم.. وللأسف لا يهتم الباحثون الاجتماعيون ولا التربويون اهتماما لائقا برصد الأمر، والوقوف على طبيعته، وسبر أغواره ومحاولة معالجته، لكن في الندرة قد يجد القارئ المتبحر شيئا في المقام المذكور، لا يكون عادة وافيا ولا كافيا ولا أمينا.
بين التهوين والتهويل
يتناول الشارع المصري مثل هذه الأحداث المؤسفة من زوايا ثلاث لا رابع لها، أولها: السخرية الشديدة كحالة تشبيههم للفيروس الأخير بإحدى أنواع الشيكولاتة المصرية الشهيرة مستغلين تطابق الإسمين، وهكذا لكل اسم ما يطابقه عندهم أو ما يشابهه على الدوام، ولكل حدث قاس حديث لاذع السخرية. الزاوية الثانية: الهلع المبالغ فيه بلا مبرر سليم قوي، فالفيروس لا يزال ظهوره لدينا محدودا للغابة بالمقارنة بمعظم الدول الأخرى، وحتى لو أصاب عدد من الأجانب او أفرادا منا؛ فالتفكير المنطقي السليم والتعامل الحكيم الحاسم مع الموقف الحَرِج يكونا حلا فاعلا، وليس الهلع العجيب المتصاعد، لكنه جو الإشاعات والشكوك الكثيف المتنامي المعهود لدينا مع وجود داء عالمي منتشر وما إلى ذلك، ويظهر مثل هذا الهلع المرتبك أصلا في ارتداء بعض الناس للكمامات دون بعضهم الآخر، كما ينقسمون بين اللامبالين المهوِّنين، وبين المهوِّلين المنادين بتعطيل الدراسة بل المصالح الحكومية إن أمكن حتى لا يفشو المرض في الخلق، مع الدعوة إلى مراقبة المواصلات العامة.. ينقسمون، ويسخر بعضهم من بعض، فضلا عن سخريتهم المشتركة من النازلة نفسها. الزاوية الأخيرة هي رد ما يجري في البلدان البعيدة إلى الانتقام الإلهي وحده، لا سيما لو كانت بلادا لا تهتم بالأديان، ولا تراعي الحرمات من وجهة نظر دينية بحتة، ولا تسير في طريقها على ما نسير عليه من ثوابت عقائدنا ولو بصورة شكلية لا عميقة!
جو السخرية
يسخر المصريون من كل شيء ليس على هواهم، ومن أي شيء في العموم. فنحن شعب يمكن وصفه بالساخر أساسا، لأننا نسخر حتى من أنفسنا في قلب البلايا والمصائب. نسخر من قلة معلوماتنا في الحقيقة، وطالما نادينا بتوفير المعلومات وتيسير الحصول عليها، ونسخر من عجزنا عن التصرف السليم أمام ما لا نعرفه معرفة حقة. لكن السخرية الشديدة المستمرة ضارة وتفضي إلى عواقب وخيمة، ففي النهاية يخطف جو السخرية جميع الساخرين الممعنين فيه خطفا، يستملحون الحديث الساخر، إذ يخفف عنهم ثقل ما يشعرون به، وتستريح أنفسهم إليه بالتوهم، لكن الشيء القاسي المجهول الذي دفعهم إلى السخرية دفعا، قد يتسرب إليهم من قلب هذا اللهو نفسه، اللهو العبثي غير المسؤول، ويضربهم في مقتل، وحينها لا ينفع الندم..
هلع لا مبرر له
طبيعي أن يفزع المصريون من مرض فتاك وقع في بلد من بلاد الدنيا، كما تفزع الإنسانية كلها، غير أن مشكلتهم تكمن في آفاق هذا الهلع وما يحيط به؛ فآفاقه متسعة في أنفسهم، وإن أبدوا اطمئنانا زائفا، فهو الهلع الناجم عن الاشاعات المتشابكة المنوعة لا الحقائق، والمحيطة به الشكوك من كل جانب، الشكوك في القدرات الشخصية على مواجهة الوحش القادم، والشكوك في المنظومة الصحية الحكومية، مع عدم امتلاك المال اللازم للمشافي الخاصة، هكذا هلع المصريين ليس بالهلع المتولد من البديهيات العلمية بل الآتي من الشعور بالضعف والفقر بمعناهما المطلق، ومن فكرة توجس الشر بلا استيعاب له ولا دليل قطعي على حتمية حضوره.. هو هلع الهشاشة النفسية والظنون والارتيابات، وما أقساه حقا!
في موضوع «النقمة الإلهية»
هذا الموضوع هو الأوسع على الإطلاق في مجال حديثنا، صحيح أنا أتكلم عن الشارع المصري بصورة عامة، فلا أقصد المسلم بالذات ولا المسيحي، ولا ذا الاعتقاد الديني المعين، لكن هذا الشارع الذي أتكلم عنه تحكمه الأديان، شاء الناس أم أبوا، والمعنى أنها تسيطر عليه مهما تكن أرضياتها وأسقفها، تسيطر عليه سيطرة ما، قد لا تكون مباشرة وكبيرة، لكنها مؤثرة للغاية، وفي الأديان السماوية جميعها تراث هائل من عقاب الله للكفار والعصاة والفسدة والمخطئين، تراث طويل متكرر، رسخ في الناس بالقراءات الدينية، وخطب الوعاظ في المساجد والكنائس، بل حتى في جلسات السمر بين الأصدقاء، لا يفرغ الكلام من حديث إهلاك الرب لغير الصالحين وللعتاة المتحدِّين للأقدار.
كل ذي دين لديه من المحفوظات في هذا الشأن ما لديه من حصائل عظمى، وهي محفوظات جذابة شيِّقة، تجد النفوس الضعيفة المنكسرة فيها عزاء لأحوالها الرقيقة وجبرا لخواطرها.. وما أسهل أن يقول محبط يائس أو شخص قليل الوعي: إن ما أصاب الصين كان لا بد أن يصيبها لأنها أمة لا تعرف الله ولا تقدره حق قدره.
ولو كان فكر فيما سيقوله – لجزءٍ من الثانية – ما لفظه لسانه البتة؛ فكم غضبت السماء على بلاد المؤمنين، وكم تعذب المؤمنون بأيدي غيرهم، وكم أصاب العطش والجوع والإفلاس والمرض والزلزال والموت الشنيع أمما توحيدية نطقت الشهادتين وصلَّت وصامت وحجت ودفعت الزكاة، وأمما مجدت المسيح وأمه البتول، كم أصاب السماويين الأسى وكم يصيبهم بلا تمييز؛ فما يجري على سائر البشر يجري عليهم في قانون السنن الكونية.
شيء أخير هنا لا بد من ذكره، أنَّ الزج بالدين في كل القضايا والمسائل زجا تعسفيا لا يحل قضية ولا مسألة، فالدين ثابت والقضايا والمسائل متحركة، وهو مقدس وهي ليست مقدسة، وإن انتفعت به الأشياء فهو الإيحاء لنا بذلك وليس بالضرورة نفع حققته بركة الحرف الشريف الكريم، ألا ليت الناس يحذرون خلط الدين بأشياء الدنيا خلطا تعسفيا؛ فاختلاطه بالأشياء هكذا قد يدنس طهره لا سمح الله.
إن التحلي بالصبر والشجاعة في المواجهة مطلوبان بقوة حيال صروف الدهر وتقلباته، وقبلهما البحث الجاد عن كل ما يتعلق بالشأن الطارئ، والتصدي لما يكون من التباريح بعقلية نيرة متفتحة ويقظة عظيمة واستعداد للعمل المقاوم المخلص تحت أية ظروف وضغوط، وإصلاح ما فسد في القطاعيْن التعليمي والصحي ابتداء، والإذعان للعلوم البحتة لا التفسيرات الشعبية الفهلوية المضحكة، مع الحرص على مد الجميع بما يلزمهم من المعلومات في الإطار المحدد، وتوخي الصدق، وإشاعة الأجواء التي تبعث على الأمل والتفاؤل، وامتصاص الطاقات السلبية المثبطة للهمم من كل النواحي والجهات، امتصاصها بيقين أننا قادرون على إزاحة ما يعكر صفونا بتفعيل نظام حماية شامل دقيق صارم لا تقهره الأزمات أيا كانت.