منوعات

تقرير مجموعة الأزمات الدولية: حتى نتجنب انتفاضة داعشية جديدة في العراق وسوريا (3)

عرض وترجمة: أحمد بركات

توفر الدول الأعضاء في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الإرهاب، التدريب والمعدات لعناصر قوات الأمن العراقية. كما يُسهم أعضاء التحالف أيضا في العمليات المستمرة ضد تنظيم الدولة (داعش)، رغم عدم مرافقة قواتهم بصورة منتظمة لقوات الأمن العراقية إلى ميادين المعركة على غرار ما كانت تفعله  تلك القوات في السابق.

وبدلا من ذلك، تقدم هذه القوات خدمات استشارية في المقام الأول، وتزود العراقيين بقدرات تقنية حيوية في مجالات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والدعم الجوي. وتعتمد قوات الأمن العراقية على هذه القدرات لمواصلة الضغط على تنظيم الدولة في المناطق الريفية. وبرغم جهود الشركاء في التحالف الدولي لبناء قوة جوية عراقية، إلا أن العراق لا يزال يعتمد حتى الآن على التحالف.

دعوات لخروج الأمريكان

لا تزال القوى المحركة للصراع والفوضى تلح بقوة على المشهد العراقي. ويستفيد تنظيم الدولة مباشرة من بعض تلك القوى، بينما تسمح له التهديدات التي يفرضها البعض الآخر على الاستقرار في الداخل العراقي بتحقيق استفادة غير مباشرة.

كما أن العراق لن يستطيع الاعتماد على مساعدات التحالف في تعقب قوى تنظيم الدولة إلى الأبد. وقد أثارت بعض الفصائل السياسية وشبه العسكرية العراقية احتجاجات ضد الدور الأمريكي المستمر هناك، خاصة بعد الضربات الجوية  التي  ينسبها البعض إلى إسرائيل على وحدات «الحشد الشعبي» الموالية لإيران، في أغسطس 2019. واتهمت رموز قوية في «الحشد» الولايات المتحدة بالضلوع في تنفيذ هذه الغارات، التي تزامنت مع الضربات الإسرائيلية ضد الشركاء المحليين الموالين لإيران في لبنان وسوريا، وجاءت في خضم التوترات الإقليمية البالغة بين الولايات المتحدة وإيران. وكان البرلمانيون العراقيون قد اقترحوا في وقت سابق تمرير تشريعات لمطالبة الولايات المتحدة والقوى الأجنبية الأخرى بمغادرة البلاد، حيث لم يعد مقنعا – لهم، على أقل تقدير – أن ثمة ضرورة لاستمرار الوجود الأمريكي على أرض العراق.

في الوقت الراهن يبدو من غير المحتمل أن يصوّت البرلمان العراقي لصالح خروج القوات الدولية من أرضه. ومع ذلك، إذا امتدت التوترات الإقليمية بين واشنطن وطهران إلى العراق، فإن ذلك قد يشجع الفصائل شبه العسكرية العراقية على شن هجمات ضد أهداف أمريكية. عندئذ لا يمكن التنبؤ بالنتائج، لكن على الأقل سيكون أحد الاحتمالات هو أن يتحول التحالف الدولي في العراق إلى هدف سائغ وغير محصن.وفي حال غادرت القوات الأمريكية، فإن  معظم الشركاء الآخرين في التحالف الدولي، الذين تعتمد عملياتهم في العراق تماما على الوجود الأمريكي،سيغادرون أيضا. وسيخسر العراق ما كانت تقدمه الدول الأعضاء في التحالف من دعم تدريبي، وقدرات تقنية. 

في هذه الحالة ستجد القوات العراقية نفسها مضطرة إلى الاكتفاء بإرسال دوريات أمنية لتمشيط الجبال والصحاري في البلاد، وهو ما سيمنح وحدات تنظيم الدولة المتناثرة مساحة جيدة للتكتل والاندماج. وقد حذر مسئول عسكري عراقي رفيع المستوى من ذلك صراحة في مقابلة هاتفية مع «مجموعة الأزمات الدولية» في 5 أغسطس 2019، عندما قال: «لا يمكننا أن نهزم تنظيم الدولة بدون دعم جوي من قوات التحالف».

ويدرك كثير من المسئولين العراقيين استمرار حاجة بلادهم إلى دعم الولايات المتحدة وقوات التحالف. وقد تبنت الولايات المتحدة، عن وعي، دورا أقل وضوحا في العراق حتى لا تبدو وكأنها قوة محتلة، ومن ثم تستثير ضدها الرأي العام العراقي. ومع ذلك، فإنه في حال تعرض «الحشد الشعبي» مجددا لهجمات إسرائيلية، أو من أي طرف أجنبي آخر، أو تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، فإن دور واشنطن والتحالف الدولي في العراق قد ينتهي بصورة مفاجئة ودون أي تخطيط مسبق.

تحديات أمنية خطيرة

وحتى في ظل المساعدات التي يقدمها التحالف، فإن العراق ما زال يواجه تحديات أمنية جسيمة على الأطراف، بما في ذلك مناطق مثل ريف نينوى، وريف الحويجة في محافظة كركوك. وترتبط هذه التحديات بدورها ارتباطا وثيقا بعمليات النزوح المستمرة من هذه المناطق. وتفيد تقارير أن 1.7 مليون عراقي ما زالوا مشردين داخليا بعد انتهاء الحرب مع تنظيم الدولة، ولا يرغب كثير منهم في العودة إلى بلداتهم التي دمرتها الحرب، حيث لا تتوافر لهم وظائف ولا تشملهم الخدمات العامة. كما أن بعضهم عاد فعليا إلى بلداتهم، لكنهم وجدوا الحياة هناك مستحيلة، وقرروا الرحيل مجددا. وتشكل الغارات الليلية التي يشنها تنظيم الدولة عائقا آخر أمام فكرة العودة، حيث لا يثق السكان في قيام قوات الأمن بواجبها في الدفاع عنهم وحمايتهم. في المقابل، يؤدي هذا الإحجام عن العودة إلى استمرار واستفحال تهديدات تنظيم الدولة. في هذا السياق يؤكد أحد المسئولين الأمنيين في كركوك، في مقابلة مع «مجموعة الأزمات»، في مارس 2019، أن «قرار المشردين بعدم العودة وترك قراهم خاوية يمنح الإرهابيين الفرصة لدخول هذه القرى واستخدامها كقواعد لعملياتهم، فضلا عن أن سكان هذه القرى كانوا يمثلون مصدرا مهما للمعلومات الاستخباراتية لقوات الأمن».

ينطوي النزوح الداخلي المطول أيضا على مخاطر أخرى لحوالي 450 ألف عراقي يعيشون في مخيمات. ويصف عراقيون وعمال إغاثة الظروف الصعبة في هذه المخيمات، حيث يعاني نزلاؤها من انتهاكات تشمل الاعتداء الجنسي والاستغلال الجسدي. ويفيد البعض بما خلفه ذلك من آثار نفسية مزمنة على سكان المخيم، وعلى هؤلاء الذين عادوا إلى قراهم. ويخشى العراقيون أن تتحول هذه المخيمات – في حال استمرارها – إلى بؤر للغضب والتشدد. كما تشعر قوات الأمن العراقية أيضا بالقلق من أن يتطوع سكان هذه المخيمات بتقديم المساعدات إلى المتشددين المحليين. ومع ذلك، فقد قاومت وكالات الإغاثة الجهود الحكومية لإجلاء الأسر والعائلات عن المخيمات، ودفعت بدلا من ذلك باتجاه عودتهم اختياريا إلى منازلهم.

أُسَر الدواعش

وتمثل «أُسر الدواعش»، كما يطلق عليها في العراق، معضلة أخرى. فهؤلاء المدنيون، بمن فيهم النساء والأطفال، قد أُخرجوا من بيوتهم وبلداتهم بسبب  قرابتهم لمتشددي التنظيم، وقد تقطعت بهم السبل في مخيمات النازحين. وفي بعض الحالات، يُمنع هؤلاء من العودة بسبب تحريات غير مؤكدة عن أنشطة أقربائهم، أو عدم امتلاكهم أوراقا ثبوتية، وهو ما يمنعهم أيضا من الحصول على الخدمات العامة وتسجيل أطفالهم في المدارس. كما يواجه كثير منهم أيضا تهديدات بالعنف من قبل أقربائهم ومجتمعاتهم المحلية. ويمثل «العقاب الجماعي» ضد «أسر الدواعش» الجانب المظلم في العلاقات الوثيقة التي تربط المجتمعات العراقية، وفي رغبة هذه المجتمعات في فرض النظام والانضباط ذاتيا. ومع مرور الوقت واستمرار النظر إلى هؤلاء المتبقين في المخيمات على أنهم «أسر الدواعش»، فإن هذه النظرة قد تتحول إلى معاملة أكثر قسوة وعنفا ضد جميع النازحين.

ويخشى بعض العراقيين أيضا من أن تدفع الجهود المبذولة لتقديم أعضاء تنظيم الدولة إلى محاكمات عادلة إلى تعميق الانقسامات في البلاد. ويصف العراقيون حلقات الانتقام التلقائي التي تمارسها قوات الأمن والسكان المحليون بعد استرداد المناطق التي كان داعش يسيطر عليها. ومنذ ذلك الحين، تحاول المنظومة القانونية العراقية القيام بدورها. لكن العدالة في حقبة ما بعد سقوط تنظيم الدولة تبدو انتقامية في المقام الأول، حيث تعتمد الأحكام القضائية بدرجة كبيرة على قانون مكافحة الإرهاب، الذي يجرم الانتماء إلى تنظيم الدولة وتقديم المساعدات له، ويعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد. وقد أعلنت الأمم المتحدة أن نظام العدالة في العراق «تشوبه مشكلات بنيوية خطيرة». فقد تمت إدانة آلاف المتهمين بالانتماء إلى تنظيم الدولة، أو بجرائم أخرى ذات صلة، وصدرت ضدهم أحكام بالإعدام. كما كانت المحاكم العراقية أيضا ساحة للأخطاء وسوء المعاملة. فقد أدى التشابه مع أسماء في قوائم الهاربين، وإلصاق تهم خاطئة بالانتماء إلى تنظيم الدولة – من بين أشياء اخرى – إلى اعتقال كثير من الأبرياء لفترات ممتدة قبل أن تبرئهم البيروقراطية القضائية العراقية البطيئة. وربما شهدت إجراءات التحقيق والمقاضاة في عدد من المحاكم بعض التطور، لكن ليس بالضرورة على المستوى العام. فالسلطات تحتجز سجناء داعشيين وغير داعشيين في نفس مقار الاحتجاز؛ مما يفاقم من خطر قيام أعضاء التنظيم بتجنيد عناصر جديدة، وهو ما حدث من قبل في السجون العراقية التي كانت تديرها – أو تسيء إدارتها – الولايات المتحدة.

رياح العواصف الإقليمية

ربما يستفيد تنظيم الدولة أيضا من السياق الإقليمي المتغير، رغم أنه لم يحرز مؤخرا أي نجاح  في التوظيف المثالي للفوضى والحرب الأهلية في سوريا المتاخمة. ففي السنوات الأولى من الحرب السورية تدفق المقاتلون والأسلحة والأموال إلى سوريا عبر تركيا، ومنها إلى العراق. لكن هذا المعين نضب الآن. كما أن الحرب السورية لم تعد مؤثرة في السياسة الداخلية العراقية مثلما كانت بين عامي 2012 و2014، عندما أثار انحياز بغداد إلى النظام السوري وداعمه الإيرني الرأي  العام السني العراقي. وتبدي دول جوار أخرى اليوم، مثل المملكة العربية السعودية، اهتماما بإقامة علاقات طبيعية مع العراق بعد سنوات من الفصام. كما توقفت القنوات الفضائية التي تُبث من الخليج عن تأجيج الانقسام الطائفي، ودعم المعارضين لبغداد، على نحو ما كانت تفعل في عام 2014.

ومع ذلك، فإن التدخل التركي في شمال شرق سوريا، والفوضى التي قد تنجم عن ذلك، قد يضع استقرار العراق على المحك مرة أخرى. فتنظيم الدولة الإسلامية ينشط أكثر ما ينشط الآن في المناطق الشرقية من سوريا التي ترتبط ارتباطا وثيقا، على المستويين التاريخي والجغرافي، بمناطق عمليات التنظيم على الجانب الآخر من الحدود. وقد عمل أعداء التنظيم بقوة على إعادة تعيين الحدود الدولية الرسمية التي تفصل بين الدولتين، لكن عناصر تنظيم الدولة تواصل التحرك ذهابا وإيابا. وفي حال دخول شمال شرق سوريا في أتون صراع مفتوح، فإن العراق سيواجه خطرا داهما.

(يتبع)

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية والمراجع من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock